هذا الكتاب في أصله أطروحة جامعية لنيل الدكتوراه تقدم بها المستشرق الأمريكي ولتر ملفيل باتون من كلية الفلسفة بجامعة هيدلبرج بألمانيا، ونشرت لأول مرة سنة 1897، وكتب عنها المستشرق جولدزيهر في مجلة المستشرقين سنة 1898 قائلا: "هذا الكتاب ذو وحدة موضوعية مستفيضة حوت مراجعة من المخطوطات ما لم يتيسر لأحد من الباحثين أن ينتفع بها حتى ذلك الوقت ، وقد أفلح المؤلف بجهده ونفاذ بحثه العلمي في أن يُخرج لنا صورة رائعة مليئة بالحركة زاخرة بالقوة لحياة أحمد بن حنبل ومواقفه الكلامية تفوق في روعتها ما كان في متناول يدنا حتى الآن".
كنت أود إعطاء الكتاب ٤ نجوم، لعمل المؤلف في صياغة الكتاب على شكل رواية متصلة تسرد قصة الامام أحمد مع محنة خلق القرآن بطريقة جميلة ومشوقة ولجهد المترجم في الترجمة والاستدراك على المؤلف وتعقبه في مواضع كثيرة وللمقدمة الغنية التي وضعها والذيل الذي أضافه حيث أضاف الكثير في مقدمته وتذييله ووضع ببليوغرافيا فيها إضافة غنية للكتاب لكن اجتهاد المترجم في حذف عبارات وفقرات من الكتاب استفزني جداً وجعلني أكتفي بثلاث نجمات فقط
أكثر شيء أثار إعجابي في هذا البحث هو المجهود البحثي الذي بذله " ولتر باتون" في ظل ظروف بحثية صعبة؛ حيث أغلب المراجع في وقته [ 1897 وقت خروج الأطروحة] كانت في عداد المخطوطات، ومع ذلك يُمكن لك أن تُحصي ما لا يقل عن [17] مرجعًا من أمهات كتب التراث اطلع عليها باتون في حالتها المخطوطة، صحيح أن كل هذه المراجع هي مراجع سنية ولم يرجع إلى المصادر الإعتزالية في تصوير أحداث المحنة، لكن يُمكن تفهّم ذلك في ضوء عدم إتاحة المصادر الإعتزالية في وقته.
باتون هو من أوائل المستشرقين الذين كتبوا عن المحنة، ثم تبعه بعد ذلك غيره من المستشرقين، لكن ما ميّز أطروحة باتون عن الأطروحات التي جاءت بعده هو تكامل نظرية التفسير عنده، وعدم وقوعة في فخ الانتصار للمعتزلة في المحنة كما فعل المستشرق يوسف فان إس وتابعه فهمي جدعان، فبينما يغسل فان إس وجدعان يد المعتزلة من عار المحنة ويلصقاها بالجهمية، تجد باتون يحمل بشدة على المعتزلة، بل ويصف أحمد بن أبي دواد بأنه أحدث عهدًا استبداديًا طويلًا استغرق ستة عشر عامًا، ويصف ما حدث مع الإمام أحمد بن نصر الخزاعي [ رحمه الله] بالوحشية، والحقيقة أنه يصعب تصور رأي باتون في مسألة " خلق القرآن"، فهو لم يُصرح به تصريحًا، وإن كان ثمة استنتاج شخصي مني أنه يميل لرأي المعتزلة وإن أنكر عليهم وحشيتهم، فهو قد وصف ما قام به المأمون من اعتقاد بأنه كان على صواب.
يُبدي باتون إعجابًا شديدًا بالإمام " أحمد بن حنبل" [ رضي الله عنه]، ليس إعجابًا قائمًا بسبب ثباته في المحنة فقط، بل وبسبب زهده وورعه، ثم يعرض باتون ما وقع بين الإمام وبين المعتزلة من مناظرات، ثم يؤكد باتون أن حجة ابن حنبل [ رحمه الله] كانت أقوى من حجج مناظريه، وأن إلزام أحمد بن حنبل مناظريه بدليل من الكتاب أو السنة على صدق دعواهم، قد أوقعهم في التأويلات التعسفية لنصوص القرآن الكريم .
الحقيقة أن إصرار المعتصم -رغم عدم تمرسه العقدي والكلامي- على امتحان الإمام أحمد من الأشياء العجيبة، لكن باتون يُقدم تفسيرًا في حكاية ينقلها عن أحمد بن أبي دواد يقوم فيها بتأليب المعتصم على الإمام أحمد عندما بدا له أن المعتصم سوف يلين له، فقال ابن أبي دواد له إن فعلت قال الناس قد غلب خليفتين، وهذا اضطر المعتصم أن يطلب من الإمام مجرد كلمة أو تنازل يعذره بها عند القوم، لكن الإمام ظل صامدًا، وهو صمود نال اعجاب باتون.
ورغم ذلك يقلل باتون من خطورة تلك المسألة العقدية فيقول أن الفقهاء الأخرين لم يروا هذا التصور الخطير لمسألة خلق القرآن كما يراها الإمام أحمد، وأنهم إنما تنازلوا عن نقطة اعتقادية يسيرة الخطب، والحق أن كلام باتون هنا ليس صحيحًا بدليل أن من أجاب بخلق القرآن مثل علي بن المديني [ رحمه الله] كان يقول في آخر حياته أن من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وفي الكوفة كان يقول أحد محدثيها وهو أبو نعيم بن دكين لما بلغه أمر المحنة قال: " ما رأيت أحد يقول بهذه المقالة - يعني خلق القرآن- ولا تكلم بها إلا رُمي بالزندقة"، فخطورة المسألة كانت واضحة لكل أهل العلم وأن من أجاب منهم قد أجاب خوفًا وتقية.
يؤكد باتون أن المحنة تم رفعها تدريجيًا من بعد ضرب الإمام أحمد إلى أن تم رفعها تمامًا على يد الخليفة المتوكل، لكن ثمة نقطة هامة يوضحها هنا باتون أن دوافع المتوكل في ذلك لم تكن سياسية محضة، ولكن عن عناية رجل متدين صادق الإيمان، وهي رؤية تكاملية مهمة أكثر صدقًا من رؤية من جاء بعده من المستشرقين التي صوّرت دوافع المتوكل سياسية محضة، فالمجهود الذي بذله باتون حقيقة مجهود مدهش في وقته، كما أن تعليقات المترجم واستدراكاته على باتون في مواضع كثيرة كانت مهمة وفي موضعها.
لولا أني أعرف أن الكاتب مستشرق، لظننت أنه عربي، غريب انغماسهم وتعمقهم في ثقافه مختلفه تماما . أكثر ماأستفدت منه هو تعليقات الشيخ عبدالعزيز عبدالحق بعض الأجزاء في الكتاب لم أفهمها جيدا وربما له قراءة أخرى في المستقبل.
بحث عميق وصارم من قبل احد اهم شيوخ المستشرقين، ما اعجبني بالبحث صرامة الجامعات الغربيه في اجازة الابحاث رغم صعوبة الحصول على المعلومه وعدم توفرها ، إلا ان الباحث بذل جهداً كبيرا في تحقيق شخصية احمد بن حنبل والملابسات حولها ، وناقش موضوع المحنه بعدة جوانب ورغم ذلك لم يخلوا البحث من رأي المؤلف باتون ووجهة نظره وايضاً للمترجم هوامش جميله في النقد والتعديل على المؤلف ، وايضاً اعجبني المؤلف بإضافة مراجعه ومصادره التي بنى عايها البحث فالمصادر كثيره والمخطوطات كذلك ، الكتاب ماده مفيده فعلاً المطلع والباحث في مسألة المحنه وشخصية احمد بن حنبل .
في البداية، أود أن أعبر عن استيائي من الترجمة السيئة التي افتقدت إلى النزاهة. لا أستطيع احترام مترجم يتلاعب بالنص، يقتطع أجزاءً منه، ويعقب على المؤلف الأصلي في المواضيع التي تختلف مع قناعاته العقائدية. الترجمة عمل يجب أن يتم بنزاهة وحيادية، أو ليكتب المترجم دراسة خاصة به إن أراد التعليق. من الغريب أن تصدر دار عريقة مثل "الجمل" – التي لطالما اشتهرت بالعناوين المميزة والترجمات الرصينة – عملاً كهذا الذي يعكس تردياً في المستوى. بالعودة إلى موضوع الكتاب، فإن "محنة خلق القرآن" تبرز باعتبارها قضية فلسفية كلامية نشأت في بدايات العصر العباسي. مثلها مثل قضايا كلامية أخرى، أثارت المسألة اختلافات فكرية وفقًا لاختلاف الفرق الكلامية، بل وأسهمت هذه الاختلافات في تشكيل فرق جديدة أحيانًا. هذا تطور طبيعي يطرأ على كل العقائد والأديان التي تبدأ بنضج فكري، متجاوزة البدايات البسيطة لتتفرع إلى تصورات أكثر تعقيداً. ومن المعتاد أن تتدخل السلطة الحاكمة في تشكيل هذا الفكر، بل وأن تلعب دورًا حاسمًا بإقصاء الرؤى المعارضة، كما حدث في المسيحية أثناء عهد الإمبراطور قسطنطين، الذي وضع تصوراً رسمياً للمسيحية وقمع كل من خالفه. تتشابه مسألة خلق القرآن، في بعض جوانبها، مع الجدل الذي دار حول طبيعة المسيح في الأوساط المسيحية الأولى، والذي وصل حد التكفير بين الفرق المختلفة. والسؤال الجوهري في مسألة خلق القرآن كان: "هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟". لكل إجابة على هذا السؤال انعكاسات وتبعات فكرية قد تغير من شكل العقيدة. المواجهة الكبرى حول هذه القضية كانت بين فريقين يتميزان بتباين جوهري في منهجية النظر إلى العلاقة بين العقل والنقل. فقد كان المعتزلة أهل منهج عقلي منفتح، يتمتع بنزعة عقلانية تكاد تلامس العلمانية، وكانوا يرون أن القرآن مخلوق؛ إذ لا أزلي إلا الله، أما كلامه فحادث مخلوق. استدل المعتزلة بعوامل عقلية عدة، منها أن كثيراً من الآيات نزلت بسبب حوادث بشرية معينة، فكيف للقرآن أن يكون موجوداً قبلها؟ وإذا كان كذلك، فإن هذا يعني أن الأحداث مكتوبة مسبقاً، مما يقيد حرية الإنسان ويجعله أشبه بالمجبر في مسرحية كونية. كذلك، فإن القرآن نزل باللغة العربية، وهي لغة تشكلت بمرور الزمن كغيرها من اللغات، فهل كان القرآن موجوداً بالعربية قبل وجود العربية ذاتها؟ على الجانب الآخر، كان الإمام أحمد بن حنبل يمثل المحدثين بحزمه وتمسكه الشديد بحرفية النص، ومنهجه السلفي في مواجهة الرأي المخالف. كان يرى أن القرآن أزلي، غير مخلوق، باعتباره كلام الله القائم بذاته، وهو علم مرتبط بذات الله وليس مخلوقاً. في رأيه، هناك تفرقة بين القرآن المكتوب والمتلو وبين كلام الله الضروري السماوي. تبنى الخليفة المأمون مذهب المعتزلة، وسعى لفرضه كما فعل الإمبراطور قسطنطين مع المسيحية، مما جعله يصطدم بمعارضة قوية من عامة الناس وبعض المحدثين، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، الذي لم تثنه محاولات التخويف والترهيب عن موقفه. استمرت المحنة لفترة شملت خلافة المعتصم والواثق، حتى رفعها الخليفة المتوكل الذي تخلى عن الاعتزال وتبنى الاتجاه السلفي. تعليقًا على ذلك في كل حركة اجتماعية أو فكرية، هناك اتجاهان أساسيان يشكلان التفاعل: الإصلاحيون والمحافظون، أو التقدميون والرجعيون. كلا الطرفين ضروري للتطور الاجتماعي؛ فبدون الإصلاحيين لا يحدث تقدم، وبدون المحافظين سيكون التقدم سريعاً جداً ليتمكن المجتمع من استيعابه. هذه العملية الجدلية تفضي إلى فكرة توفيقية جديدة تمزج بين التيارين. لو تُرك المعتزلة وأُعطي لهم العنان بمنهجهم العقلي البحت، لربما فقد الإسلام طابعه الديني وتحول إلى مذهب فلسفي. في المقابل، لو لم يكن هناك سوى السلفية، لكان الإسلام تقليدياً جامداً غير قادر على مواكبة التطور. التفاعل الاجتماعي هذا قد يظهر بشكل فكري مسالم أو صراع دموي، أو قد يتخذ شكل محنة كما حدث في هذه القضية. وفي قلب هذا الصراع، كانت المحنة وكانت شخصية ابن حنبل. أقدّر فكر الخليفة المأمون، كما أقدّر ثبات ابن حنبل على موقفه. والسلام.
رجل وقف في وجه خلفاء ثلاثة وحده يذب عن الأمة ما علق فيها من فهم غريب شاذ عن عقيدتها حاربه خصومه بالتخويف والعنف والقمع ولاقى في سبيل عقيدته جميع أصناف الترويع والحبس جادلوه فما لان لهم ولا خضع فبادروه كعادة المستبدين بالضرب!0 ثم خافوا من ثورة العامة عليهم فجاؤوا بعمه ليشهد أن الأذى لم يُصبه!0 اختار الزهد مذهبا وحديث النبي صلى الله عليه وسلّم منهاجا فكان إمام المحدثين ولم تصفُ حياته حتى بعد ترقق المتوكل له فقد اعتبرها فتنة كسابقتها فكما يكون الفقر فتنة يكون الغنى كذلك فرفض كل صلات الخليفة وعانده في ذلك عمه وابناؤه رحم الله الإمام أحمد بن حنبل وجزاه عن المسلمين خير الجزاء أجاد الكاتب جمع أخبار محنة الإمام أحمد من بطون الكتب وأضاف إليها آراءه التي قد لا أوافق على بعضها لكنها وجهة نظر مستشرق بذل المترجم جهدا كبيرا في تتبع الكاتب والتخريج للشخصيات الواردة وتوضيح المراجع التي فاتته لكنه تسلّط علينا كقراء حين أوضح أنه حذف بضع فقرات لأن فهم الكاتب مغلوط وددت لو انه ترك الفقرة وناقشها كما فعل في باقي المقاطع
أما أخبار المحنة في مصر التي أوضحها باتون في كتابه فقد أتيحت لنا مادة وفيرة عنها بعد ظهور كتاب باتون ، عندما نشر روفون جست في سنة ١٩٠٨ ببيروت كتاب الولاة والقضاة للمؤرخ يوسف بن عمر الكندي المتوفى سنة ٣٥٠ هجرية ، وتقع أخبار المحنة في هذا الكتاب صفحة ١٩٣ وكذلك في صفحة ٤٤٥ - ٤٥٣ .. وقد اعتمدت عليه في تصحيح خطأ وقع فيه باتون ، أشرت إليه عندما تكلم عن المحنة في عهد المعتصم ، فإن كتاب المحنة الذي أرسله المعتصم لوالي مصر لم يرسله إلى المظفر بن كيدر الذي تقلد الولاية بعد أبيه .. لكنه أرسل إبان ولاية أبيه كيدر نصر بن عبدالله كما أن المعتصم لم يرسله حينما بويع بالخلافة بعد أخيه المأمون ، بل أرسله حين كان أخوه لا يزال على قيد الحياة وكان المعتصم آنذاك نائبا عنه في بغداد وقد أورد الكندي النص الكامل لهذا الكتاب الذي لم يورده الطبري ......