يمكن القول اجمالا ان نيتشه اعتقد ان الجنون هو الحالة الاعتيادسة والطبيعية التي اقترت بمصائر الرجال العباقرة والقديسين والانبياء، ولا يمكن النيل من مكانة الجنون كونه حالة مرضية مألوفة... وقد أرجع نيتشه نشأة هذا اللبس الى استنتاج خاطئ لظاهرة الانفعال إذ إن البشر عامة عندما لاحظوا ان الانفعال غالباً ما ينجم عنه وضوح في الذهن وايحاءات سعيدة، اعتقدوا انهم يمكن ان يصلوا عن طريقه الى أسعد الادراكات وارقى الافكار، و"هكذا وقر المجنون حكيماً ومانح معجزات"... فالجنون هو الذي هيأ الطريق للآراء الجديدة التي كسرت شوكة العادات والمعتقدات الخرافية المبجلة، ومن ثم، لن يبقى امام جميع اولئك الرجال المتفوقين، المدفوعين بدافع لا يقاوم الى التحرر من عبودية الاخلاق والاخلاقية وإعلان قوانين جديدة، حين لا يكونون مجانين فعلاً، الا ان يصيروا كذلك، او يتظاهروا بالجنون، وقد عبر أفلاطون، كما ذكر نيتشه، عن كل ذلك بوضوح عندما قال: "لقدكان الجنون وراء كل النعم التي تمتعت بها اليونان".
في كلمة سمعتها من بروفيسور في محاضرة، قال فيها -فيما معناه- لما تقرأ في الفلسفة، أقرأ أولا للفيلسوف نفسه ولا تقرأ عنه لأن قراءتك عنه ستجعلك تتبنى غالبا آراء كاتبها-عنه-.
نيتشه واحد من الفلاسفة اللي كتاباته ومعانيها محل خلاف أزلي، حرفيا حتى النازيين مع هتلر استخداموا كتاباته لمصالحهم! لذلك وللأسباب هذه لا أنصح بقراءة هالكتاب قبل القراءة لنيتشه نفسه لأنها الطريقة الوحيدة اللي راح تجعلك تكون آراءك وانطباعاتك الخاصة عنه.
محتوى الكتاب حقيقةً عادي بل هو عبارة عن مقالة مطولة أكثر من أنه كتاب، عدنان فالح يسرد فيه آراء كُتاب ومترجمين -مثل هيدجر- عن نيتشه وأفكاره بشكل بسيط لم يعجبني صراحة، تمنيت لو أنه تعمق في شرحه للأفكار المطروحة كفكرة القيم العُليا أو عن فكرة نيتشة التي تقول ان الإنسان قادر على خلق قيمه العليا بنفسه.
ختامًا أذكركم ونفسي بأن نقد الشيء لا يقلل من عمل صاحبه، النقد سهل جدًا لكن الكتابة ومحاولة خلق شيء من لاشيء صعب جدًا.. واضح ان الأستاذ عدنان قارئ نهم لنيتشه والدليل كثرة المصادر التي أستخدمها وأشار لها ومجهوده الجبار في كتابه هذا لكن وكما قالت سابقًا.. الكتاب يفتقد للعمق في الطرح ولا يُناقش أفكار نيتشه المعروفة بل يركز أكثر على تفاصيل لاداعي لها من وجهة نظري.
نيتشه، من الكُتّاب القُلال الذين اذا قرأت لهم لا يسعني إلا أن أكمل القراءة حتى وأن كنت لا أفهم بعض الأجزاء وأن كنت لا أتفق أحيانًا فيما يقوله. يأسرني نيتشه بأسلوبه الشيق الساخر المتهكم، والمتسلط كثيرًا. كما أسلفت بأن نيتشه احد الكُتّاب الذين يدعونك تكمل القراءة دون انسحاب او انقطاع أستطيع أن أقول أن نيتشه "ثقب أسود" ليس لي سوى الإستسلام لكتاباته المثيرة والغريب معًا. وهو يقر ذلك بنفسه في كتابه "هذا هو الإنسان" : "قيل لي إنه من غير الممكن لامرئ أن يدع كتابًا من كتبي إذا ما شرع في قراءته؛ أنني أُدخل الاضطراب حتى على هجعة الليل.."
أستطاع عدنان فالح في كتابه "دوائر نيتشه" ان يوضح بعض الإلتباسات التي تشوب فلسفة نيتشه وقد عالج وصحح ما تيسر له وتطرق لمعالجة بعض المواضيع مثل عبارة "لقد مات الإله" والموسيقى وإرادة الحقيقة والجنون والعودة الأبدية للشبيه.
في الكتاب استعار عدنان فالح بعض تأويلات هايدغر وتوماس مان لفهم أسباب ومواضيع فلسفة نيتشه.
الكتاب بالنسبة لي أعطيته ٤ نجوم أراه كتاب جيد جدًا لفهم نيتشه أكثر والتعمق في شخصيته ودوافعها. اللغة سهلة كذلك اعجبتني المواضيع المختارة في الكتاب. الشيء الوحيد تقريبًا الذي لم يعجبني هو انتقاله من فكرة لفكرة وأعتقد انه هذا ناتج عن محاولة ذكر اكثر من فكرة معًا في سبيل حصول على نتيجة نهائية مرضية.