يهتم هذا الكتاب بتاريخ المئوية السردية العراقية الممتد عبر اربع مراحل اساسية: مرحلة النشوء(1920-1945) ومررحلة الصعود (1945-1979) مرحلة الانحدار والضمور (1980-1991)، ثم سيلقي رؤية قريبة على الانواع القصصية الجديدة بعد اجتيازها نهاية القرن نحو الشروق الثاني لهذا الفن وتجنيساته العابرة للحدود القديمة، خلال الفترة من 2003 حتى اليوم.
سييكشف هذ التاريخ عن نصوص ظلت بعيدة عن الانظار، كتبها "جيل الاخطار" من اولئك الرواد الذين لم تتح لهم كتابة غير عدد قليل من القصص قبل ان تسحقهم عجلات " المراقبة والعقاب" وتطمر آثارهم. وقد خلفت أولئك اجيال عانت الاهمال والجحود والمراقبة نفسها وبين ايدينا اليوم ارشيف ضخم من التجارب القصصية والروائية غزير بالتحول والتنوع في رؤى الكتابة الجديدة.
محمد خضير كاتب قصة قصيرة عراقي من الطراز الأول. بقليل من النصوص استطاع لا أن يفرض اسمه كقاص فحسب، إنما أن يشكل ظاهرة في القصة العربية ويحدث اختراقاَ نوعياَ مازال يتواصل مع نتاجه الكثيف والمميز.
في مدينة البصرة، ولد محمد خضير عام 1942. وفيها عاش وأصرّ على البقاء، حتى في فترات القصف اليومي الذي تعرضت له المدينة خلال الحرب العراقية - الإيرانية، ورغم الهجرة شبه الجماعية لسكانها أثناء تلك الحرب.
ينتمي خضير إلى جيل الستينات الأدبي في العراق. وقد عرفه القراء من مواطنيه حين نشرت أولى قصصه: (النيساني) في مجلة (الأدب العراقي) قبل أكثر من ثلاثين عاما. ثم لفت اسمه أنظار القراء والنقاد العرب بعد نشر قصته (الأرجوحة) في مجلة (الآداب) البيروتية، التي ثنّت بنشر قصته (تقاسيم على وتر الربابة) عام 1968.
صدرت المجموعة القصصية الأولى لمحمد خضير: (المملكة السوداء) عام 1972، وعُدّت عملاً تجديدياً ومغايراً، يشير إلى (عالم متشابك معقد ومركب وبسيط في آن، ومتجذر ووهمي، وواقعي وسحري، محبط ومتفائل، تلعب فيه اللغة والذاكرة والمخيلة والتاريخ والأسطورة والتشوّف الإنساني النبيل أدواراً لافتة للنظر).
وفى عام 1978، صدرت مجموعة خضير القصصية الثانية: (فى درجة 45 مئوي)، وتلتها المجموعة الثالثة: (رؤيا خريف) 1995. وسجلت كل من المجموعتين مرحلة متقدمة عما سبقها في العالم القصصي للكاتب، الذي لم يكفّ عن محاولته الدؤوب لإقامة المتخيل الخارق للمدن، وخلق عوالم مدينية تضرب جذورها في عمق التاريخ الواقعي والخيالي.
وضمن سياق احتفاء محمد خضير بمدينته البصرة، أصدر عام 1993 كتابه": (بصرياثا - صورة مدينة)، الذي سجل فيه وتخيل حياة البصرة في تسعة مشاهد. وصاغ بهذا الكتاب (بياناً شخصياً) يؤكد فكرة (المواطن الأبدي) التي يعمق خضير ـ من خلالها ـ وجوده الإنساني والكتابي، وانتماءه لمدينته.
نجمتان ليس أكثر لهذا العمل الأولى - لِما يشكله من أهمية توثيقية أساسية في زمن [فقدان الذاكرة]. تكمن أهمية هذا العمل الكبير في غائيته التوثيقية للسردية العراقية في مئويتها الاولى التي تَطلُّ من شرفتها على فضاء التغاضي والنسيان والأهمال في عهدٍ لا وجود للتأريخ فيه، فهو - التأريخ - منسيٌ بقوةِ الزمنِ السريعِ وسطحية الذهنية التي تختزله في الصور والفديوهات بعيداً عن تَذْكُر النصّ الذي غالباً ما أمسى مفقوداً وخارج العمل الأرشيفي لأسبابٍ عديدة تتراوح بين قطبَيْ السياسي والاجتماعي. يُعدُّ هذا العمل حلقةً لامعةً في سلسلةِ الانطولوجيا الذهبية، التي لولالها لفقدنا كعراقيين ابعاداً معرفيةً هامةً مرتبطة بتأريخنا الادبي و نصوصنا التي بدأتْ وتطورتْ في عقود مئويتها الاولى. نصوصُ هذه المرحلة - اذا أستثنينا العقدين او الثلاثة الاخيرة منها - هي نصوص سريعة الزوال: محدودة في طبعاتها وغير متجددة في طبعات جديدة. نصوصٌ تختفي خلفَ اطلال مطابعها ودور نشرها او تنغمس في بحار المنافي او تتوارى خلف جبال بلاد المهجر. تشير هذه الحقائق التأريخية الى حالة الفقدان والضياع التي فتكت بنصوص كتاب السردية الاوائل وانهت وجودها. في هذا العمل يحافظ محمد خضير على أرثه السردي ويحمي النصوص بتوثيقها ضمن منهاجٍ جديدٍ لا يعتمدُ على [التحقيب التأريخي] او [المدارس الأدبية] ذات المرجعيات الأيديولوجية. يسعى خضير بتبني هذا الاتجاه في استحضار الاصوات الأدبية التي اضاعها النسق القديم الذي تبناه الاكاديمين والمفهرسين والنقاد في القرن الماضي، والى عرضِ النصوص المتنحية خارج الزمن كي لا تضيع مع الاتجاهات الأدبية السائدة. ينعكس هذا على حالة الاتصال مع النص المقروء لدى المتلقي، اذ تسقط بخروج القراءات النقدية لنصوص المئوية خارج اطارها الزمني، ويسهم هذا الانقطاع الزمني في تسلسل الطرح الى حالة التشتت التي تصيب المتلقي والتي تقود بالضرورة الى الملل الذي كان في أحيانٍ كثير قاتل جدا.
الثانية - للأفكار الجديدة في قراءات مستحدثة للأرث الادبي. في قراءاتي لاعمال نقدية سعت الي حالة التأرخة لنصوص الرواد الاوائل على وجه الخصوص، أجد في [تاريخ زقاق] طرحاً جديداً، وقراءة مغايرة، وتفسيرا آخر للسردية العراقية تنمُّ عن جهدٍ استثنائي واخلاصٍ في التجديد المغاير للمألوف والمطروق. كان من الممكن أن يمتلئ هذا الكتاب بالافكار الكثيرة والعديدة لو استخدم محمد خضير اسلوبا في الطرح أبسط واسلس، يصل للمتلقي ويضيف حُزماً ضوئيةً ثقافية تُنير جوانبه المعرفية.
اطفأتُ النجوم الثلاث للغة المعقدة، والاسلوب المتكلف في الكتابة، والميل كل الميل الى المصطلحات الاكاديمية والامعان في الغموض المنسحب - على ما يبدو - من لغة النص للقاص الستنيني محمد خضير في محاولاته [التجريبية] داخل فنّ القصة والتي تميزتْ بالغموض والامعان في الرمزية وتقديم اعمال غير متصلة بالمتلقي قدر اتصالها بالنخبة الثقافية المحدودة. لو أن خضير لم يكن على هذه الدرجة من الغموض، ولو لم يكن قد كتب بهذه اللغة المعقدة، لكان قد رفدنا بعملٍ مكتمل الافكار يبقى في الذاكرة والوجدان وُيمَجد لغائيته النبيلة في الحفاظ على النص [الهوية]. انتابني الملل في كثير من الاحيان وانا اقرأ هذا النص، ونحيته جانبا اكثر مما تمسكت به اثناء القراءة. ولولا نيتني في الكتابة عنه، والتي تستوجب اتمامه لتقديم رأي منصف خارج من اخر صفحات الكتاب لكنتُ قد توقفتُ عن قرائته منذ زمن. هذه حالة طبيعية لحالة الملل القاتل التي وسمت علاقتي مع النص، والتي ولدها محمد خضير باسلوبه المتكلف جدا في الكتابة والغموض اللامبرر في نصه.