ينظر المؤرِّخ الكبير طارق البشري في هذا الكتابِ، صغيرِ الحجم عميقِ المغزى، نظرة الطائر إلى ثورات مصر عبر تاريخها المعاصر، ويضع ثورة 1919 في هذا السياق والإطار التاريخي العام الذي ينبسط على المرحلة التاريخية والمعاصرة . وهو بذلك ينقل أحداث التاريخ من تشكُّلها الرأسي المتتابع من ماضٍ وحاضر ومستقبل، ينقلها من هذا المنظور إلى المنظور الأفقي بحسبانها كلِّها حدثت وتمَّت وصارت من الماضي. وهذا المنهج يتيح لنا أن نستقرئ أحداث التاريخ في تشكُّلاتها التي جرت؛ لنستطيع بالمقارنة بين بعضها البعض أن نستخلص العبر والدروس وعوامل الإنجاز والفشل وظروف التشكُّل والتعثّر.
طارق عبد الفتاح سليم البشري المفكر والمؤرخ والفيلسوف المصري، أحد ابرز القانونين المصريين المعاصرين،وُلِد في 1 نوفمبر 1933 في حي الحلمية في مدينة القاهرة في أسرة البشري التي ترجع إلى محلة بشر في مركز شبراخيت في محافظة البحيرة في مصر. عرف عن أسرته اشتغال رجالها بالعلم الديني وبالقانون، إذ تولى جده لأبيه سليم البشري، شيخ السادة المالكية في مصر - شياخة الأزهر، وكان والده المستشار عبد الفتاح البشري رئيس محكمة الاستئناف حتى وفاته سنة 1951م، كما أن عمه عبد العزيز البشري أديب.
تخرج طارق البشري من كلية الحقوق بجامعة القاهرة سنة 1953م التي درس فيها على كبار فقهاء القانون والشريعة مثل عبد الوهاب خلاف وعلي الخفيف ومحمد أبي زهرة، عين بعدها في مجلس الدولة واستمر في العمل به حتى تقاعده سنة 1998 من منصب نائب أول لمجلس الدولة ورئيسا للجمعية العمومية للفتوى والتشريع.
بدأ تحوله إلى الفكر الإسلامي بعد هزيمة 1967م وكانت مقالته "رحلة التجديد في التشريع الإسلامي" أول ما كتبه في هذا الاتجاه، وهو لا زال يكتب إلى يومنا هذا في القانون والتاريخ والفكر.
ترك البشري ذخيرة من الفتاوى والآراء الاستشارية التي تميزت بالعمق والتحليل والتأصيل القانوني الشديد، كما تميزت بإحكام الصياغة القانونية، ولا زالت تلك الفتاوى إلى الآن تعين كلا من الإدارة والقضاة والمشتغلين بالقانون بشكل عام على تفهم الموضوعات المعروضة عليهم.
وقد كان تم اختياره رئيسًا للجنة التعديلات الدستورية التى شكلها المجلس الأعلى للقوات المسلحة في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر، والتى قامت بتعديل بعض المواد الخاصة بالإنتخابات وغيرها لإستفتاء الشعب المصري عليها.
"ونحن في الثورات لا نحتاج فقط إلى قوة اقتلاع ما هو قائم، إنما نحتاج إلى ضمان عدم عودته من جديد إلى وضعه السابق" في 9 مارس عام 1919 اندلعت الثورة ردا على نفي سعد زغلول وفي 9 مارس 2020 بالصدفة البحتة جذبت هذا الكتيب من على رف مكتبتي. كتاب لطيف صغير الحجم، يعطي لمحة سريعة عن ثورة 19 وما سبقها من أحداث أدت إليها وما تلتها من نتائج ترتبت عليها، مع استعراض لثورات مصر الخمس وهم: الثورة على الاحتلال الفرنسي، الثورة العرابية، ثورة 19، 52 ودرة التاج 25 يناير. احترمت جدا بصراحة إنه لم يذكر 30/6 رغم إن الكتاب مكتوب في 2019 :D أفكار متفرقة ظفرت بها من الكتاب: -الثورة على الفرنسيين شارك فيها فرقة من الجيش العثماني هي فرقة الألبانيين بقيادة محمد علي اللي سيطر على الحكم بعد طرد الفرنسيين وتخلص من القيادات الشعبية التي شاركت معه في الثورة. -شعار "مصر للمصريين" ظهر مع الثورة العرابية. -لم يكن الاحتلال البريطاني على مصر احتلال عسكريا كاملا لوقوع مصر ولو شكلا تحت مظلة الحكم العثماني. -كان هناك مصالح مشتركة بين الدولة العثمانية وانجلترا انتهت عند دعم العثمانيين للألمان إبان الحرب العالمية الأولى، وفرضت انجلترا الحماية على مصر وعزلت الخديو عباس حلمي المعين من العثمانيين وولت مكانه عمه حسين كاملا وأعلنته سلطانا على مصر، ولما توفي عينت أخاه فؤاد. -انقسمت كلا من السلطة والمعارضة قبل الثورة إلى قسمين: أما السلطة فانقسمت إلى شرعية وهو الملك وفعلية وتتمثل في المحتل. وأما المعارضة فكان هناك حزبين: حزب الأمة وهو حزب قومي يريد الانفصال عن الدولة العثمانية و أظن أنه ينظر إلى مسألة الحكم بنظرة براجماتية فهو يريد أن يكون له سهما في الحكم مع السلطتين القائمتين، ومن أعلامه: أحمد لطفي السيد. أما الحزب الآخر فكان الحزب الوطني وهو من أبناء فكرة الجامعة الإسلامية ويرى أنه لا ضير من الانتماء للدولة العثمانية مع الاحتفاظ بشخصية مصرية والحكم الذاتي، وانحصر هم هذا الحزب في الاستقلال التام عن المحتل. -بمرور الوقت ومع جرائم الاحتلال المتكررة (أشهرها حادثة دنشواي) قلت المسافة بين الحزبين حتى ذابت تماما مع بدء الوفد في جمع التوكيلات وإنتهاءً بنفي سعد زغلول. -كان للوفد ذراعا عسكريا، يستخدمه للتخلص من بعض الانجليز والموالين لهم حين تشتد حملات الانجليز على الثوار لمعادلة الكفة. - بعد وضع دستور 1923 الذي لم يشارك فيه الوفد بل الدستوريون الأحرار وهم جماعة منشقة عن الوفد أكثر موائمة مع الملك والمحتل، اكتسح الوفد الانتخابات البرلمانية وجاء سعد زغلول رئيسا للوزارة. لكنه لم يلبث أن استقال بعد أحد عشر شهرا! - كانت هناك شرارة لثورة شعبية حينما أعلنت حكومة الوفد إلغاء معاهدة 1936 وبدء الكفاح الشعبي المسلح 1951. الفقرة التالية من أعظم ما ورد في الكتاب وأود أن أنقلها كما جاءت: "إن أي حركة شعبية تصل إلى مشارف الحكم الثوري إنما يستجيب لها حهاز الدولة عند درجة ما من درجات التصاعد والشمول الشعبي. ثم ما يلبث هذا الجهاز أن يمسك بالسلطة عن طريق القوات المسلحة وهي العمود الفقري لهذا الجهاز. إن هذه الاستحابة ترجع إلى أن جهاز الدولة في مصر إنما هو جهاز مكون تكوينا مصريا عاما بغير أثر لانتماءات طائفية أو إقليمية أو نحو ذلك لأن المصريين لا تفرق بينهم فروق من هذه الوجوه التي نلحظها في مجتمعات أخرى. إن أي حركة ثورية شعبية قادرة مع سعتها وشمولها على أن تخلخل النظام السياسي القائم، ولكن إنهاء هذا النظام وحلول بديل عنه يتوقفان على حجم التشكيل التنظيمي البديل الذي سيحل محل النظام المتهاوي. فالثورة يمكن أن تقوم بها حركات شعبية واسعة الانتشار وشاملة من حيث أثرها المزيح للنظام المتهاوي، ولكن حلول نظام جديد محله يتوقف على مدى قوة ونفوذ التنظيم المؤسسي الجديد الذي يحل محله وإلا عاد النظام القديم بصورة أخرى معدلة من الصور المتجددة. العمل السياسي لن يكون ذا أثر فعال إلا من خلال التشكل التنظيمي المؤسسي للقوة السياسية الحاملة لهذا الأمر، فليس بالفكر وحده ولا بالكراهية وحدها تستبدل الأنظمة. لأن الدولة تكوين تنظيمي مؤسسي ةهي لا تستبدل ولا يسيطر عليها سيطرة فعالة إلا من خلال تكوين تنظيمي مؤسسي. ومن هنا نلحظ دور الدولة والقوات المسلحة في ثورات مصر الخمسة عدا 1919." ملحوظة: كان الجيش أثناء ثورة 1919 وما يليها في حالة ضعيفة جراء تحجيمه بعد الثورة العرابية و بسبب الاحتلال الذي ترتب علي أن القيادات أصبحت من الضباط الانجليز ناهيك عن أن كون معظم الجيش في أماكن متفرقة بالسودان. 3.5/5
كتاب جميل ومفيد جدا رغم صغر حجمه الكاتب بيبدأ بنبذة تاريخية عن 5 ثورات مصرية من أول الثورة على الاحتلال الفرنسي مرورا بعرابي والثورة على الإنجليز ثم 1919 و 1952 وأخيرا 25 يناير 2011 بيشرح الكاتب ارتباط الثورات ببعضها وبيوضح كمثال إن خروج الانجليز من مصر بعد 1952 كان من ثمرات كفاح الشعب المصري من بداية 1919 الحقيقة إن الكتاب غير فكرتي تمامًا عن ثورة 1919 وسعد زغلول وعرفني على فترة تاريخية مهمة في تاريخ مصر المعاصر
كتاب جميل على صغر حجمه يستعرض فيه المستشار طارق البشري - رحمه الله - عبقريته الواسعة في تحليل التاريخ السياسي المصحوب بالتأصيل لرؤية سياسية معاصرة للتاريخ .
الكتاب للأسف غير منظم وغير مرتب العبارة بشكل جيد ولكنه على طاك عظيم الفائدة في العرض العام لثورات مصر الحديثة والتعمق في ثورة 1919 بعد مائة عام مرت عليها .
كتاب مهم جدا على صغره واختصاره لكثير من مجريات الوقت ده. لا يمكن الإستناد عليه بشكل كامل للتدليل على صحة أو بطلان بعض الأحداث وبعض الإستنتاجات بالتأكيد تمثل رأي د.طارق. الكتاب مهم لاحتوائه نظرة عامة واختصارها جعلها دقيق ويشير بوضوح لجوانب مهمة لثورة ١٩ وفتح أبواب كثيرة للبحث والإطلاع التي يشير إليها بإسهاب واضح.
كتب طارق البشري هذا الكتاب بمناسبة الاحتفال بمرور مائة عام على ثورة 1919، فقدم ما أطلق عليه "نظرة الطائر" على ثورات مصر عبر تاريخها المعاصر مع التركيز على ثورة 1919 بمزيد من التحليل والتقييم.
في هذا الكتاب ينظر طارق البشري ما أطلق عليه "نظرة الطائر" على القرنين الماضيين، وهي الفترة الزمنية التي يطلق عليها تاريخ مصر المعاصر، فيقسم هذه الفترة الزمنية إلى أربع مراحل شهدت مصر خلالها خمس ثورات؛ ثورة 1805، وثورة 1882، وثورة 1919، وثورة 1952، وثورة 2011. وهو يرى أن الثورات كانت دائما مرتبطة بأحد هذه المطلبين؛ مطلب الاستقلال الوطني في مواجهة الاحتلال الأجنبي، أو مطلب الديمقراطية في مواجهة الاستبداد السياسي الداخلي، أو بكليهما كما حدث مع ثورة 1919. ونجاح الثورات أو فشلها ارتبط دائما بعاملين مهمين؛ العامل الأول هو قوة المجتمع وحيويته على مستوى نخبه السياسية وفئاته الشعبية فالثورات التي قامت في ظل مجتمع قوى ومتماسك نجحت في تحقيق أهدافها والعكس بالعكس، والعامل الثاني هو طبيعة جهاز الدولة وموقفه من الثورة فالثورات مهما كانت عدالة قضيتها ومهما كان وراءها من قوة ورصيد شعبي لن تنجح إلا إذا انحاز لها جهاز الدولة والذي تمثل القوات المسلحة عموده الفقري.
وقد رأينا هذا في واضحا في كل الثورات الخمس تقريبا؛ فثورة عام 1805 لم تنجح في القضاء على حكم المماليك إلا بفضل التفاف صفوة الشعب وعامته حولها ودعم العسكر الألباني لها بقيادة محمد علي. وثورة أحمد عرابي عام 1882 التف الشعب حولها بكل فئاته وكان الجيش معها ولكن رأس السلطة الحاكمة الممثلة في الخديوي توفيق كان معاديا لها فاستعان بالإنجليز ضد عرابي والمصريين فكانت الهزيمة وكان الاحتلال الذي دام أكثر من سبعين سنة! وثورة عام 1952 قامت بها أقوى أجنحة جهاز الدولة وهي القوات المسلحة ولكن لولا دعم الشعب لها والتفافه حولها لما نجحت في إلغاء النظام الملكي وإنهاء الوجود الأجنبي في مصر. أما ثورة 1919 فلم يكن للجيش فيها دور بسبب الإجراءات التي اتخذها الإنجليز ضد الجيش المصري بعد هزيمة العرابيين عام 1882، فقلصت عدده بشكل كبير وجعلت قياداته الوسطى والكبيرة كلها من الإنجليز. أما باقي جهاز الدولة من وزارات وهيئات فكانت كلها داعمة لثورة 1919 ومطالبها بالمظاهرات والإضرابات وإصدار البيانات والتصويت لمرشحيها في الانتخابات. وكان هذا هو السبب في حصول حزب الوفد على الأغلبية النيابية بشكل دائم في كل الانتخابات "النزيهة" التي تمت بداية من انتخابات برلمان 1924 وحتى انتخابات برلمان 1950.
اقتباسات من الكتاب:
"إن أي حركة شعبية تصل إلى مشارف الحكم الثوري إنما يستجيب لها جهاز الدولة عند درجة ما من درجات التصاعد والشمول الشعبي. ثم ما يلبث هذا الجهاز أن يمسك بالسلطة عن طريق القوات المسلحة وهي العمود الفقري لهذا الجهاز".
"إن أي حركة ثورية شعبية قادرة مع سعتها وشمولها على أن تخلخل النظام السياسي القائم، ولكن إنهاء هذا النظام وحلول بديل عنه يتوقفان على حجم التشكل التنظيمي البديل الذي سيحل محل النظام المتهاوي".
"ليس بالفكر وحده ولا بالرفض وحده ولا بالكراهية وحدها تستبدل الأنظمة، لأن الدولة تكوين تنظيمي مؤسسي وهي لا تستبدل ولا يسيطر عليها سيطرة فعالة إلا من خلال تكوين تنظيمي مؤسسي ومن هنا نلحظ دور الدولة والقوات المسلحة في ثورات مصر في 1805، 1882، 1952، 2011".
" م��ذ عام 1914 اتحدت السلطتان الشرعية والفعلية في يد الإنجليز وصارت مصر ليست محتلة عسكريا منهم فقط، ولكنها صارت تابعة رسميا ودوليا لهم، واتحد الحكم الاستبدادي مع الاحتلال العسكري الأجنبي. وأدى ذلك بطبيعة الحال لأن يتحد نقيضا الاستبداد والاحتلال في حركة ديمقراطية وطنية واحدة. ومن هنا بزغ أول شعاع من شمس ثورة 1919 في مصر".
"النفس الطويل الذي تملكه سلطة البطش المطلوب إزاحتها يحتاج ليس فقط إلى شمول حركة الانتفاض وسعتها لإزاحة النظام القائم وإنما تحتاج أيضا إلى تكوين تنظيمي شعبي يمثل مباديء الثورة ويضمن استمرارية الحراك بشموله وسعته، وهذا التوظيف يحتاج إلى تكوين مؤسسي تنظيمي يعكس قدرات هذه الهيئة الشعبية ويمكنها من إعادتها من جديد عندما تواجه خطر الانتكاس".
"نحن في الثورات لا نحتاج فقط إلى قوة اقتلاع ما هو قائم، إنما نحتاج إلى ضمان عدم عودته من جديد إلى وضعه السابق، كما نحتاج إلى قدرة على إقامة البديل".
"يتعين أن نقدر دور الثورة لا بميزان التحقق الفعلي الأمثل للأهداف ولكن بميزان بقاء التمسك بالأهداف والحقوق كاملة".
"السلطة ليست مجرد مقاعد في مجلس نيابي، ولكنها أسلوب للسيطرة على جهاز الدولة... وإن القيادة الغريبة على هذا الجهاز قد تصير في حصار منه... وقد وصفت جهاز الدولة بأنه كالقلعة مَن دخلها ولم يستطع السيطرة عليها سجنته، فالداخل للقلعة إما مسيطِر وإما سجين. وهذا ما حدث مع سعد، فقد كانت كل قراراته وهو رئيس للوزراء من يناير 1924 حتى استقال في نوفمبر من السنة ذاتها. كانت كلها ليست قرارات بالمعنى المفضي إلى التنفيذ، ولكنها صارت نوعا من التصريحات السياسية التي تصدر من هيئة أهلية في المعارضة".
في سنة 1939 قامت الحرب العالمية الثانية فأعلنت حكومة مصر الأحكام العرفية. ومدت الأحكام العرفية سلطات الملك بالبديل الاستبدادي الكامل الذي كان يُجرده دستور 1923 من بعض سلطاته؛ لأن الأحكام العرفية تًمكّن قانونا الملك ووزارات الأقليات أن تصدر مراسيم لها قوة القانون دون حاجة لعرضها على البرلمان. وفتح ذلك السبيل لسلطة الاستبداد السياسي لكي تتجاوز أي قيود يفرضها العنصر الديمقراطي الوارد بدستور 1923. ومن ذلك الوقت صارت الأحكام العرفية – حالة الطواريء – هي الدواء الشافي لسلطة الاستبداد ضد مخاطر المرض الديمقراطي الكامنة جرثومته بالدستور".
"نحن عندما نتحدث عن ثورة 1919 لا نتحدث عن أحداث جرت من بدء شبوبها في 3 نوفمبر 1918 حتى صدور تصريح 28 فبراير 1922 أو حتى صدور دستور 1923، ولكننا نتكلم عن آثار ممتدة على مدى الزمان التالي حتى سنة 1952 عندما تغيرت خريطة التشكل السياسي برمتها مع اعتلاء الجيش السلطة في 23 يولية. كما أننا نقول إن ما تحقق بعد هذا التاريخ الأخير من خروج الإنجليز من مصر في 1956 طبقا لاتفاقية 1954، إن هذا التحقق كان في أساسه وروحه قطفا لثمار عمل سياسي وكفاح بدأ من 1919 وتعزز في إلغاء معاهدة 1936 في أكتوبر سنة 1950 وبداية المناداة بالكفاح الشعبي المسلح ضد قوات الاحتلال".
"نحن عندما ننظر إلى الوفد كتنظيم سياسي لابد أن ندرك أن ثورة 1919 هي من صنعه وبعثت فيه روحها، وذلك بهدفيها اللصيقين الموحدين عن الديمقراطية والاستقلال الوطني، وأن تنظيم الوفد صار مع أحداث الثورة تجسيدا لمبدأيها المترابطين واستمر فعله ينتج حركيته لتحقيق أهدافه. وأن تنظيما شعبيا أهليا من هذا النوع يؤثر في جهاز الدولة، ويَحُدّ من استبداده سواء وهو في الحكم مسيطر على هذا الجهاز أو وهو خارج الحكم قادر على مناوأته بالإضرابات والمظاهرات والضغوط السياسية وبما تؤدي إليه دعوته من تسرب في أجهزة الدولة بين المهنيين العاملين بها. وأن تنظيما أهليا من هذا النوع وبهذه الاستمرارية وبهذه القدرات لم تعرفه الحالة المصرية منذ عهد محمد علي حتى الآن، ونحن في نهايات الربع الأول من القرن الحادي والعشرين عند كتابة هذه السطور (2019)".
"إذا كان سعد زغلول هو زعيم حركة الاستقلال الوطني في 1919، فإن طلعت حرب يعتبر الزعيم في حركة الاستقلال الاقتصادي".
ينظر البشري في هذا الكتاب إلى تاريخ مصر المعاصر نظرة الطائر المحلق في السماء، ومن ثم فهو ينقل أحداث التاريخ من تشكلها الرأسي المتتابع من ماض وحاضر ومستقبل، ينقلها من هذا المنظور إلى المنظور الأفقي بحسبانها كلها حدثت وتمت وصارت من الماضي. وهذا المنهج يتيح له أن يستقرئ أحداث التاريخ في تشكلاتها التي جرت؛ ليستطيع بالمقارنة بين بعضها البعض أن يستخلص الدروس والعبر وعوامل التشابه والاختلاف والانجاز والفشل. ومن ثم فهو يقرأ ثورة 1919 في إطارٍ واسع يستوعب ماضيها وحاضرها وآثارها فيما بعد بالإضافة إلى الإحاطة بالواقع التي قامت فيه وكيف كان شكله وكيف كانت ملابساته تمثلت نتائج ثورة 1919 في ثلاثة أمور أساسية: الأول: تصريح 28 فبراير سنة 1922 والذي يعبر عن مدى استقلال مصر، والحاصل أن بريطانيا أصدرت التصريح في محاولة منها لامتصاص الغضب الشعبي وأعلنت فيه إلغاؤها إعلانها السابق بفرض الحماية على مصر في 1914 ، كما أعلنت عن سماحها بإنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف والرقابة على السياسة والإدارة ومن ثم سمحت أيضًا بوضع دستور، تعده لجنة مختصة من المصريين. والثاني: دستور 1923 والذي يعبر عن مدى الديمقراطية المتاحة، فقد توزعت فيه السلطة السياسية بين محورين؛ محور الملك وهو قمة الاستبداد، ومحور الأمة بحسبانها مصدر السلطات، فالسلطة التشريعية يتولاها مجلس النواب والشيوخ، ومجلس النواب منتخب كله ومجلس الشيوخ خُمسان من أعضائه بالتعيين من الملك وثلاثة أخماسه بالانتخاب ورئيسه معين من الملك، والسلطة التنفيذية يتولاها الملك بواسطة وزرائه، والوزاة تستمد شرعيتها من مجلس النواب المنتخب، بما يفيد أن ليست للملك سلطة منفردة مستقلة. والثالث: تكون تنظيم الوفد المصري كتنيظم شعبي يعبر عن الأمة المصرية، فقد نشأ حزب الوفد في قلب أحداث الثورة، وتشكلت قيادة وأعضاء الوفد في خضم وقائعها، فصار تنظيمًا مؤسسيًا تجسدت فيه أهدافها، وإن كنا نسميه حزبًا هنا بإعتبار ما صار إليه، إلا أنه أبى أن يطلق على نفسه هذا الوصف حتى نهاية وجوده واكتفى بعنوان الوفد المصري ومن ناحية أخرى أنتجت الثورة نتائجًا أخرى هامة مفادها، نوع من توازن القوى الداخلي بين ثلاث قوى سياسية هى: سلطة الملك وسلطة الاحتلال وسلطة الأمة. كما أن الأمة لم تعد بعد ثورة 1919 هى أعيان البلاد، ولكنها صارت جماهير الشعب المصري والتي يمثلها تنظيم "الوفد المصري". وقد كانت المشاركة السياسية هى نوع من الصراع السياسي الممتد بين هذه القوى الثلاث، ولكنه صراع يدور في الإطار الذي رسمته مؤسسات الدستور وأساليب تشكيلها وعلاقاتها، وصار دستور 1923 نوعًا من أنواع تنظيم وسائل وأساليب الصراع على السلطة بين الأطراف الثلاثة. واستمر الأمر على هذا الحال حتى ثورة 1952