لماذا يُسخر للإنسان كل ما في الكون؟ وما فائدة إخبار الله -تعالى- لنا بهذه المخلوقات العظيمة جدا.. بأنها خُلقت مسخرة لنا؟! وما مغزى هذا الأمر؟ وكيف نفهم معنى هذا الأمر الرباني المتعلق بالكون العظيم من حولنا؟ ولماذا استُخدم تعبير «التسخير» هنا دون غيره من المصطلحات الآمرة بالنظر والتفكر المجرد؟ ولماذا تكرر الأمر في مواضع كثيرة من القرآن؟ ألا يعني ذلك خصوصية مقصودة من هذا التكرار؟ أسئلة كثيرة يثيرها هذا الموضوع العميق في دلالاته ومعانيه. والإجابة عن هذه الأسئلة، هي خروج نحو متاهة الكون الساحرة، متجاوزين طبيعتنا الأرضية وغفلتنا الدنيوية، منتقلين نحو عالم آخر من التكريم والعلو الاستخلافي. لذلك يهدف كتاب «التسخير الكوني للإنسان.. من السؤال إلى النظرية» لمؤلفة أ.د. مسفر بن علي القحطاني، إلى الوصول إلى نظرية أوليه لفهم السؤال التسخيري الكوني للإنسان، ومعرفة واجبات هذا التسخير ومتطلباته على الإنسان، وإدراك أهم الرؤى الإنسانية التي نظمت العلاقة بين الإنسان والكون، من خلال ما جاء في القرآن العظيم من تكرار نعمة التسخير الكوني للإنسان، في مواضع كثيرة وسياقات مختلفة ودلالاتها على غاية مهمة لا بد من أن يعيها الإنسان، ولا بد من أن يدركها نضوجه الحضاري في هذه الأوقات المعاصرة.
مسفر بن علي القحطاني باحث ومفكر وأكاديمي سعودي، ولد في الخبر في المنطقة الشرقية عام 1971م (1391هـ). نشر العديد من المؤلفات، منها: (أثر المنهج الأصولي في ترشيد العمل الإسلامي)، و (الوعي المقاصدي: قراءة معاصرة للعمل بمقاصد الشريعة في مناحي الحياة).
لماذا أكثر الله جلّ جلاله من تكرار موضوع تسخير الكون؟ألا يدلّ ذلك على شيءٍ من الخصوصيّة؟!
ولماذا أساسًا يُسخّر كلّ ما في الكون للإنسان؟!
وما موقف المسلم من هذا التّسخير؟!
إلى متى يستمر التّيه بين دعاوى ترك الأرض بثرواتها وسنن السّير فيها بتبريرات دعاة الزّهد والتّصوّف من جانب، وبين دعاة السّيطرة والقهر والاستحواذ بتبريرات كلٍ من العلمويّة وسيادة الكون من جانب أخر؟!
الإسلام قدّم نظرة متوازنة أمام الأديان والفلسفات المختلفة؛ الّتي منها ما اهتمّ كثيرًا بالعالم الدّاخلي أكثر من اهتمامه بالعالم الخارجي وبحاجات الرّوح أكثر من حاجات الجسد باعتبار أنّ الخارج المادي هو ميدان الشّيطان ورغبات الجسد وفساد الأخلاق.
وبين فلسفات أنكرت العالم الغيبي الدّاخلي فصنعت إنسان ميّت يختلف عن ذلك الّذي شاهد السّماء المنقوشة بالنّجوم والحقول الخضراء بعين لم تصب بلعنة الاعتياد أو بلادة الألفة.إنسان آلي يمارس مشاعر الإثارة ثمّ ينام ليصحو في حركة رتيبة لا تتغيّر!!
قبل البدء برحلة الإجابة لنستفتح بهذا الحديث القدسي العظيم: يُؤتَى بالعبدِ يومَ القيامةِ ، يُقالُ له : ألم أجعلْ لك سمعًا وبصرًا ، ومالًا ، وولدًا ، وسخَّرتُ لك الأنعامَ والحرثَ ، وتركتُك ترأسُ وتربَعُ ؟ فكنتَ تظنُّ أنَّك مُلاقيَّ في يومِك هذا ؟ قال : فيقولَ : لا ، فيقولَ له : اليومَ أنساك كما نسيتَني.
ذلك الكم من التّساؤلات القرآنيّة هو حافز للخروج إلى عجائب الكون السّاحرة،هو أخذ مباشر للشّعور بما يتجاوز طبيعتنا الأرضيّة وغفلتنا الدّنيويّة؛ لينقلنا نحو عالم آخر من التّكريم والعلو الاستخلافي ونظرة جديدة وفريدة للكون.
هذه الثّقافة التّساؤليّة دفع من الرّحمن للسير نحو إدراك أحد مهامنا الكبرى، يوجّهنا نحو العناية بمخلوقاته في أداء متكامل ينتظم فيه الكون من ذرّاته الصّغيرة إلى المخلوقات العجائبيّة عبوراً إلى مجرّات الكون الكبيرة.
وكما ناقشنا سابقًا أنّ الأفعال الحضاريّة لكل أمّة هي ليست خطوات عابثة دون رؤية، بل إنّ رؤيتها هي الّتي تحرّك أفعالها بوعيٍ أو بدون وعي داخل نموذجها التحيزي الخاص (لمن أراد أن يطلع على فطرة النموذج والتحيز ليراجع التلخيص السابق).
فعمليّة الاستكشاف الغربيّة ومرحلة الثّورات العلميّة والكشوف الصّناعيّة وسبر البحار، والجبال والكهوف، والفضاء والأنهار، كانت تحت وطأة شعور الإنسان بالخوف وبحثه الدّائب عن مضاد حيوي لقتل القلق والخوف من الطّبيعة.
فلمّا وصل إلى تلك المرحلة من فهم الطّبيعة والكون انتقل إلى مرحلة السّيطرة والقهر والإخضاع، فتحوّل ما سبق إلى ظواهر مفزعة من نشر الفساد في الأرض والبحار وضرر الخلائق المختلفة وكأنّ الكون لم يخلق إلّا للبشر وكأنّ الكائنات الأخرى لا تستحق الحياة أو الرحمة.
ما نريد قوله أنّ حركة البشر الدّائبة في الفهم ثمّ السّيطرة وبعدهما التّلذّذ انتهاءً بالفساد كانت المتتالية الّتي حدثت بسبب رؤية البشر الّتي حكمتها رؤية الصّراع مع الطّبيعة ومن ثم الاستحواذ عليها وإنهاكها .
الآيات المتتابعة في كتاب الله وأحاديث النّبي عليه الصّلاة والسّلام كلّها تحثّنا لرؤية تصالحيّة ومسددة نحو الكون وكائناته.
رؤية ليس فيها حقد ولا صراع، ولا سيطرة ولا قهر، وإنّما تسخير للأشياء يتمّ بأمره سبحانه وتعالى فكان عليه الصّلاة والسّلام يقول على مستوى الأرض والجّغرافيا:
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ»
مع الحيوانت الاليفة:
ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْض)
إِذا رأى الهِلالَ قال: (اللَّهُمَّ أَهْلِلْهُ عَلَيْنَا بِاليُمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالإِسْلَامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ)
فالعلاقة بين الإنسان والكون هي علاقة متجاذبة ومترابطة ومنسجمة من حيث الوجود والكيفيّة والتّركيب والحركة والانتظام فالإنسان ليس جزءًا من الطّبيعة من حيث تحكمهم سياسة وعقيدة البقاء للأصلح وبذات الوقت هي ليست عدوّته فهو جزء من كون عظيم سخّر له بإرداة الرّحمن أو كما قال علي عزت بيجوفتش: الإنسان نبت الأرض ولكنه ابن السماء .
هذا الإيقاع الدّقيق يجمعه مفهوم التّسخير الكوني القرآني
فما هو التّسخير؟
التّسخير: ((تسهيل الانتفاع من الكون وتمكين الإنسان من الاستخلاف فيه وعمارة الأرض))
لكن لهذا التّسخير قواعد ونواميس ولغة علينا أن نتقنها ...
ليس علينا التّوقّف عند واجب شكر الواهب لهذه النّعمة؛بل الانتقال إلى فهم عظمة هذا الجهاز _جهاز التّسخير_ وإدراك ماهيّته ومحاولة الانتفاع به... فالتّسخير ليس للكسالى والقاعدين على قارعة الطّريق؛بل هو استحقاق وكنز للمثابرين الّذين اتقنوا لغة الكون وفهموا كيف من الممكن التّحدّث معه والإنصات إليه...
لغة الكون المتمثّلة بالإبداع في علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء والرّياضيّات والفلك كبوّابة للولوج للكون المسخّر للإنسان، والاشتغال بعقلنة الرؤية المسددة للكون ومعطياته العلميّة من خلال الإبداع في العلوم الطّبيعيّة.
نعم أحد فروض وواجبات الوقت هو النظر للكون من رؤية مسددة تحكمها ضوابط الرحمة و رحابة الفهم وتحويل هذه الرؤية إلى واقعٍ ملموسٍ بعد أن كان محبوسًا بدرج المفاهيم الّتي تدرّس وتناقش في الصّفوف المدرسيّة والمحاضرات الجامعيّة والمؤتمرات العلميّة ثمّ تهمل بعدها.
حتّى إنّه لمن المضحك أن نتحدّث عن استعمار واستخلاف ونحن متخلّفون في استخدام أداة التّسخير الكوني.
والتّأخّر الإسلامي في هذا المجال يوازيه تأخّر في واقع الدّراسات الفقهيّة وعلاقة المسلم بالكون أو التّرابط بين الصّرح الفقهي مع الدّراسات الفلكيّة ومواضيع سبر الفضاء وسبر البحار وكأنّ ما سبق خلقه عزّ وجلّ ليهمله!
وكأنّ القرآن الكريم لم ينزل علينا! ولم يأمرنا في عشرات الآيات بهذه التّكليفات!حتّى يخيّل لنا أنّ من يلحدون بالدّين هم أكثر من قام بتلك الوصايا الرّبّانيّة!! وهو الّذي يقول سبحانه:
ولولا ضرورة البحث في مشكلات الطّب والاقتصاد الّتي فرضت نفسها على فقهائنا المعاصرين وجعلت قيم الفقه على محكّ الصّلاحيّة والمصداقيّة لما تحرّك الفقهاء ولما ولدت المجاميع الفقهيّة.
للأسف ضيّعت طاقات أمّتنا في خزعبلات الشّهود الصّوفي ونست دورها الحق المناط بها ألا وهو الشّهادة على الأمم ومن أوجه هذه الشّهادة: الشّهادة الحضاريّة. كأمّة اختارها الله للبلاغ والصّلاحيّة الزّمانيّة والمكانيّة عدالتها تضعها في مقدّمة من يجب عليهم العناية بالتّسخير العمراني.
وممّا سيميّز الشّهود الحضاريّ للمسلم في استخدامه لنموذج التّسخير الكوني أمام نموذج الإخضاع والسّيطرة والقهر المادّي:
1- ربّانيّة التّدبير: هو عمل تغطّيه مظلّة التّدبير الرّبّاني بمعنى أنّ الإنسان يدرك أنّه مؤتمن على هذا الكون وهذه الطّبيعة وهذه المخلوقات وفق أوامر المدبّر الأعلى ووفق نظام أحكامه ومقاصد شرعه.
2- أخلاقيّة التّدبير: فحركة الكشف والسّبر والاختراع هي بالأساس حركة أخلاقيّة تراعي حقّ الإنسان والكون ثمّ الحفاظ على الطّرفين من الضّرر والانتهاك.
3- فاعليّة التّدبير: فهي عمليّة ناجعة مقتصدة لا تحرق الأرض أو تستهلك الثّروات مقابل اللذّات الزّائلة بل هواقتصاد بحثي يعود نفعه بفاعليّة على جميع الكائنات.
4- شكر التّدبير: فالمسلم ينتقل من شكر إلى شكر، فهو الّذي وفّقه الله إلى فهم أداة التّسخير وساعده ووفّقه إلى الانتفاع بها فبعد أن أدّى أمانته، فلا ينسى حقّ الرّب عليه في شكره قلبًا وعقلًا، لسانًا وروحًا. محقّقًا نظرة المسلم المزدوجة الّتي تنظر للدنيا بعين السّماء واضعًا أقدامه على الأرض لكن ما زال قلبه معلّقاً في خبر السّماء.
ما سبق ليس جلدًا للذات بقدر ما هو إدراك لقيمتنا الحقيقيّة في كون تصرخ كل مخلوقاته لبطلٍ ينقذها من الظّلم الواقع عليها. فنحن ندرك بأنّ هناك الكثير من الفرص الّتي من الممكن للمسلمين أن يستغلّوها ويعوّضوا ما فاتهم بشرط أن يفقهوا هذا الدّين حقّ الفقه ويستشعروا واجباتهم الإنسانيّة تجاه الكون.
وممكن أن نختم تلخيصنا بدعوة (نحو تطبيق مقصد الارتفاق الكوني)
وفي ختام ما سبق لن يكون هناك أفضل من قوله عزّ وجلّ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)