تدفعنا أحداث العالم المتوالية والمتسارعة إلى البحث فى الإشكالية بين السياسي والديني أو الفكري, ماضيا وحاضرا, مما بدا انعكاسه واضحا فى السنين الأخيرة على السياسة الدولية, بعد ما ظهر ذلك الانعكاس على سياسات داخلية فى العالم الإسلامي منذ أواخر القرن العشرين, وهو ما حمل بعض دول هذا العالم الأخير على المسارعة إلى "إعادة هيكلة الشأن الدينى: كمحاولة منا "لضبط" تلك العلاقة بين رجل العلم ورجل السياسة فى الفضاء الإسلامي... كل ذلك كان يتم انطلاقا من هموم آنية ورؤى براجماتية قاصرة, وطلبا لحلول ظرفية, تظل عقيمة فى غياب تحليل فلسفي عميق ومعالجة علمية صارمة, من ثم جاء هذا الكتاب ليس فقط لإعادة النظر فى مفاهيم سابقة تخص إشكالية "السلطة العلمية" فى الإسلام. ومن ثم كانت مغامرة تجديد النظر فى أم العلوم الإسلامية, تمثل فى هذا الكتاب طريقا "ملكيا" للناظر إلى تاريخ إنتاج المعرفة وتدوينها فى الإسلام كتاريخ للمجتمع يعكس همومه الحاضرة ويرصد تطلعاته المستقبلية: ولم يكن خوض تلك المغامرة أمرا ممكنا دون استحضار تفاعل الإنتاج الفكري مع محيطه الاجتماعى والسياسي واستشراف أهدافه الأخلاقية والسياسة كذلك.
طرح فيه الباحث وبشكل فلسفي عميق تلك الجدلية الكبرى بين السلطة المعرفية والسلطة السياسية وذلك بالحفر في جذور النشأة في الأصول مع الشافعي ثم عرج على عصور الإنحطاط وأدبيات كتاب الدواوين الساسية وأثر أدبيات الساسة الفرس فيها ثم تمكّن السلطة من تطويع السلطة المعرفية ممثلة في " فقهاء السلطة" إلى جانبها بالرغم من وجود تلك المسافة بين رجل العلم ورجل الساسية , وعرّج أخيراً على تجربة الجويني وكتابه " غيّاث الأمم" في محاولة لإيجاد طريق معرفي جديد ضمن افتراضيات الجويني في خلو الزمان من قائم بالسلطة السياسية والمعرفية وإيجاد طريق ذلك في كليات ومقاصد قطعية تحفظ قوامها الجماعة بمفهوم " الأمة" ثم عرّج على تجربة الشاطبي واكتمال علم المقاصد على يديه في محاولة لإنتزاع الفقه من غرقه في الفروع وإيجاد قواعد ومقاصد كلية اصطلح على تسميتها" بعلم المقاصد ... الكتاب في أشواط كثيرة يقترب من الإشكالية المعرفية والمنهجية التي تحاول أن تجد طريقها إلى السطح وذلك في هوامش كانت الأهم بالنسبة لي " لتحديدها الإشكال في البيان كما تناوله الشافعي و أقر على أنه ما ينبغى العناية به كما نوه بذلك الشاطبي " لكن لا تزال إشكالية البيان في اعتماده متداول لغة العرب وإغفال النقلة التي أتى بها اللسان القرآني وهو " مصطلحات مفهومية " وهي نقطة نبّها لها الشاطبي في مقدمة الموافقات ..
أخيرا يظهر الأثر البعيد في داراسات الفيلسوف طه عبد الرحمن على هذه الدراسة القيمة وذلك في جانبين مهمين وهما " إرتباط المنطق والعقل العربي ومزاوجته بين العلم والعمل" وهو تأثر واضح بتقسيم طه العقل إلى " مجرّد, ومسدد, ومؤيّد" والجانب الآخر هو :في الجانب الخلقي والعملي لعلم الكلام الإسلامي والفقه وأصوله وهو وإرتباطه بالإشكالات العملية الواقعية وهو مايسميّه طه عبد الرحمن " الجانب التداولي" .
وأخيراً الكتاب لا يستغنى عنه لكل باحث عن علاقة السلطة السياسية بالسلطة المعرفية في " الحضارة الإسلامية " وأثر ذلك على علم الأصول والفقه
هدف الكتاب الأساسي هو التدليل على أن نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة كانت مرتبطة بالأساس بالهاجس السياسي بل أن هذا العلم بالأساس كان محاولة من السلطة العلمية لضبط وتقويم السلطة السياسية. وفيما يخص هذا الهدف فشل الكاتب في إثبات هذه العلاقة, وتمادى حتى أنه كان مستفزاً أحياناً من خلال قراءته الغير منطقية لكلام الفقهاء وتطور العلم على ايديهم. كما فات الكاتب إستخدام الأمثلة لتوضيح ما يقصده ما كان سيوفر عليه تكرار الكلام والأفكار عدة مرات طوال الكتاب.
ورغم الفشل في إثبات وجهة نظره - وهي غرض الكتاب الأساسي - فإن الكتاب يظل جدير بالقراءة لما يثيره من أسئلة ونقاشات جديرة بالإعتبار.
- هل يمكن إعتبار حياد الفقهاء حيال الأزمات السياسية موقف إيجابي دعموه بالتورية في كتاباتهم؟. من وجهة نظري هذا الحياد هو خذلان عملي وأخلاقي للحق بل إن تبعاته في تاريخنا الإسلامي لا تغتفر.
- من الواضح إرتباط نشأة علم الكلام بالتطورات السياسية في بداية الدولة الإسلامية وهو الإرتباط الغير واضح مع نشأة علم الأصول كما أراد الكتاب أن يُثبت. بل إن رأي ابن خلدون الذي ينتقده الكاتب والذي يفسر نشأة علم الأصول بالتباعد الزمني عن الصدر الأول للإسلام أقرب للصواب.
- في رأيي أن تأصيل الشافعي للإجماع بإعتباره أصل من الأصول يلي القرآن والسنة كان الخطوة الأولى في التضييق على الإجتهاد وغلق مدرسة الرأي. ودائماً ما كنت أميل للرأي المعتزلي أو على أقل تقدير رأي ابن حزم فيما يتعلق بالإجماع.
- إذا كانت فرضية خلو الزمان من الشريعة بالأساس تستدعي البحث عن القواعد الكلية التي لا تخفى أو تستعصي على فهم العامة لتكون الملجأ وقتها, وبإعتبار صحتها وقطعيتها, فلماذا لا تكون البديل دائماً وأبداً لكامل البناء الفقهي الإسلامي.
على هامش الكتاب: أين مكان النص القرآني في كامل البناء الفقهي الإسلامي. للأسف فإن الجريرة الكبرى للفقه الإسلامي وعلم أصول الفقه هو التعامل مع النص القرآني, فمع دعوى أن معظم آيات القرآن ظنية الدلالة تراجعت النصوص قطعية الثبوت الوحيدة في الشريعة الإسلامية عن دورها المفترض في أن تكون القيم على كل الإجتهادات الفقهية والتنظير للعلوم الدينية لتفتح الباب أمام النصوص الظنية وآراء الرجال لتكون هي القيمة حتى على فهم نصوص القرآن.
ختاماً أجمل فقرة بالكتاب هي المنسوبة للفخر الرازي "إن القدح في العقل لتصحيح النقل يُفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً وأنه باطل. وإن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء, ثم وجدنا أدلة نقلية يُشعر ظاهرها بخلاف ذلك, لزم تأويل الدلائل النقلية بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة. فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه".
كتاب رائع حقيقة، وتمنيت أن قد قرأته أثناء دراسة علم أصول الفقه. يجلّي فيه الجدلية التي ابتدأت منذ انتهاء زمن الخلافة الراشدة، الجدلية بين السلطة المعرفية والسلطة السياسية، بين الصراع على مر التاريخ الإسلامي حتى الآن، وأساليب العلماء بين الممانعة وبين التبرير للطاغية الحاكم. بيّن هذا الكتاب على الحقيقة الانفصال الحقيقي بين السلطة السياسية عن السلطة العلمية في بدايات الحكم الملكي ( الوراثي ) وإن تسمى باسم الخلافة، وقد باتت سلطة العلماء محدودة، وكانوا هم وقود كثير من الثورات الشعبية على الدولة الأموية، ومنهم من عذّب ومنهم من قتل ومنهم من جرّد من ثيابه وجلد في السجون! وكانت هناك خطط لتدجين الناس في المدينة المنورة والبصرة بالشهوات والنساء والمحرمات لاشغال الشباب عن المعترك السياسي والمعرفي لتمرير مخططات الطغاة والمستبدين. كان العلماء الكبار يختم عليهم بختم يعرف منه أنه مخالف للسلطة القائمة، مما أدى لضمور شعبية كثير منهم لعدم الاعتراف الرسمي بهم! وقد ارتبط مصير أهل العلم بالمحن والتنكيل حتى حرر التميمي في القرون الأولى كتاباً له عن هذا الارتباط. وتباينت الآراء فيما بعد لإنتاج أصول فقهية تقيم السلطة العلمية التي تسحب البساط من تحت قدم رجل السلطة السياسية حتى لا يعبث بالأحكام الشرعية اعتماداً على ( المصلحة المرسلة ) فقامت المفاهيم الأصول فقهية ، وربط العلل بالمقاصد لتحد من سلطة الطغاة، والتي لم تتمكن بعد من غزو مجال السلطة العلمية للاستئثار به، ولقد كان من منظّري السلطة السياسية المطلقة ( ابن المقفع ) الذي كتب رسالة الصحابة بيّن فيها أدبيات منقولة من النظم الاستبدادية الكسروية وإعادة تدويرها تجاه الحكام، وقد بدأ بالتنظير لقدر من تمليك الملوك والسلاطين السلطة المعرفية، فنشطت الحركة العلمية الأصولية لسد تلك الثغرة، ووضع الضوابط والمعايير التي تجافي التحكم الذاتي لتميل إلى القواعد والأسس المتجاوزة للأمزجة قدر الإمكان ، مما جعل الأصول تتطور لتكون أكثر العلوم الإسلامية تجريدية بعد اجتماع أهل الكلام، وأهل التشيع، وأهل السنة على هذا الهيكل التجريدي لإقامة سلطة أخرى تحد من سلطة المقابل السياسي! وحماية جناب الشريعة من المفاهيم الفضفاضة. أي الحماية من الأدلجة السياسية. وقد ذكر المؤلف أمثلة كثيرة جداً لتطور بعض القواعد الفقهية مثل ( الضرورات تبيح المحظورات ) فمعنى الضرورة الشرعية عند القاضي ابن العربي ينحصر بين الضرورة أو الاضطرار الطبيعي والإكراه السياسي، بحيث أن الإكراه السياسي يسلب من الشخص الاختيار.
كما أن العلماء لم يتجهوا فقط لهذا الأمر بل وجهوا إلى نقد كل من يبرر للحاكم الظالم أفعاله، ومن يمتدحه مع ظهور طغيانه وظلمه، وقد عُد العمل مع السلطان في القرن الرابع لدى طبقة من العباد من الفسق ولا بد له من توبة!
وقد ترك الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - استخدام ماء وما لدى ابنه لما دخل في سلك القضاء تبعاً للسلطة السياسية!
تلك جدلية فيها من التصارع الشيء الكثير الذي أنشأ مفاهيماً كثيرة أخذت دورة كبيرة من الصراع والتطور لا بحسب الصورة المتوهمة والمتخيلة من أن أهل العلم اعتزلوا السياسة واستغرقوا في العلوم ولم يتلفتوا إلا للإفتاء فقط، بل هي جدلية مثبتة لعملهم واستمرار تنظيرهم للنموذج المثالي للحكم رغم ما يحدث في الواقع. فهم لا ينطلقون من الواقع لإرساء مفهوم العدل، بل ينطلقون من الواقع لنقد مشكلاته ومحاولة الإصلاح لمقاربة النموذج الأمثل للحكم.
بل ذكر المؤلف في المقدمة أن علم الكلام أساسه علم كلام في السياسة، وأن من كره علم الكلام في البداية كرهه باعتبار جانبه السياسي - ربما - لما يجر من مهالك .
كتاب ثري جداً جداً جداً
وأرغب بإعادة قراءته من أجل التلخيص وإن كنت أجلت هذا الأمر حتى تصفى الأجواء السياسية في الأمة قليلاً لأعيد قراءته بتركيز من أجل التلخيص
ارتبطت معى كلمه أصوليه بالإرهاب او بالتشدد في الدين بغير علم او تفكير لكن بعد قرأتي لهذا الكتاب اكتشفت المعنى الحقيقى لهذا المصطلح والمخالف تماما لما توطن في عقلى من النافذه الإعلامية
هناك كثيرون ممن يخشون من اقحام الدين في السياسه ولكنى على النقيض اخشى من اقحام السياسة في الدين
نحن شعب يحتل الدين عنده المرتبه الأولى حتى لو لم تظهر مظاهر التدين على الشخص
فصل الدين عن السياسه تماما هو شئ غير عملى ومن ينادي به فقضيته خاسره واقرأ هذا الكتاب واستنبط من حاول ان يستقطب الأخر على مدار التاريخ الإسلامى. هل المعرفة (وهم العلماء) هم من هاجمواالسلطة(وهم الولاه والسلاطين وسياستهم) ام السلطه هى التي لا تيأس من محاوله ترسيخ سياستها بإسم الدين فتفسره على اهوائها
انا مندهش ممن يرفضوا الإستعانه بدين يحوي كل هذه التيارات الفكريه والمذاهب المستنيره التي تخاطب جميع العقول والقلوب ويعادو بكبرياء عوام الناس بمصطلحات لا يفهم الناس منها سوى انه لن يكون وجود او اهميه للدين ويتركوهم لفئه واحده فقط تدعي او تظن انها تمتلك الدين وأي خلاف معها فهو ضلال او فسق او اي صفه اخرى حسب تقسيماتهم بالرغم من ان الدين الحنيف بعيد عن التشدد ولا يمكن ان تشمئز الفطره السليمه والعقل المتفتح من احكامه
هذا الكتاب يلقى الضوء على انه لا يمكن فهم حكم فقهي او اي حدث اخر بطريقه مجرده اي بدون وضعه في تاريخه وظروف الفتره السياسيه والإجتماعيه وبالتالي لابد من مراعاه تلك الظروف عند محاوله استنباط فتوى في العصر الحالى
يعالج الكتاب العلاقة بين المعرفة والسلطه وكيفيه واسباب نشأة علم الأصول وتطوره على مدار التاريخ الإسلامى فتجد نفسك مسافرا في تلك العصور ملما بأحداث ومعلومات لا ترتبط ارتباط مباشر بموضوع الكتاب لكنك تحصلها في الطريق فتشعر بمضاعفة الإستفادة
الكتاب مقسم الى ثلاثة اقسام, استمتعت بالقسم الأول فالثاني كثيرا لكني لم اجد مبتغايا في القسم الثالث الا قليلا من اجزائه.. القسم الثالث من الكتاب تناول ابو اسحاق الشاطبي وتأسيس علم المقاصد
هل أثرت التجربة السياسية الإسلامية في تشكيل بنية وخطاب أصول الفقه؟ يفترض الكتاب، ويحاجج، أن أصول الفقه مجال لسحب بساط الطاعة من السلطة السياسية لصالح السلطة العلمية.ـ مستفز ومحفز للنظر!ـ
وأخيرا تم الانتهاء من هذا الكتاب الثقيل معرفيا، شعرت بالمتعة في كثير من اجزائه كما شعرت بالملل لطوله فهو يقع في ٦٦٠ صفحة !!! وكان بإمكان الكاتب ان يختصر الكتاب الى النصف ولكنه أكثر من التكرار وإعادة المعلومة بصيغ مختلفة. طبعاً الكتاب يحتاج لنقاش في جزئيات كثيرة منه ولايكتفى به بل لابد من قراءات أخرى في نفس الموضوع الذي يناقشه حتى يخرج القارئ برؤية شبه متكاملة لنشاة الاصول والمقاصد ولا أخفي ان كثير من الافكار لم استوعبها لقلة بضاعتي في مصطلحات الأصوليين و كنت أتمنى لو كان عندي "ذخيرة" كافية من علم أصول الفقه لكنت استفدت منه بشكل كبير ربما!! الكتاب يدرس في قسم منه العلاقة الجدلية بين رجل العلم وبين رجل السياسة في الإسلام والصراع بين السلطتين؛ (السلطة المعرفية التي يمثلها رجل العلم وخاصة الفقيه والأصولي) ×وبين (السلطة السياسية التي يمثلها رجل الحكم يسانده كُتاب الدواووين وفقهاء السلاطين) كما يتتبع بالبحث وباستنطاق كتب بعض الأصوليين الكبار النشأة الأولى لعلم أصول الفقه وعلم المقاصد مركزاً على البعد السياسي والاجتماعي في نشأة العلمين منتقدا بالآن ذاته التركيز على البعد المعرفي فقط "رغم أهميته" في دراسة نشأة هذين العلمين. فهو يرى ان علم الأصول نما وترعرع كمعالجة واستجابة لمشاكل واقعية و أوضاع استثنائية شبيهة بالتي يمر بها الوضع السياسي. يركز الكاتب على ثلاثة من كبار الأصوليين محللاً أجزاء من كتبهم الأساسية التأسيسة في علمي الأصول والمقاصد وذلك بالبحث عن المنطق الداخلي للخطاب الأصولي فيها، فيبدأ مع الشافعي و"رسالته" (2 هجري) والتي بقدر ما كانت حاجة معرفية لإعادة ترتيب الخطاب الشرعي وضبط الفوضى، بقدر ما كانت تحمل بعد سياسي، محاولةً سحب البساط من تحت رجل السلطة الذي يريد الانفراد بالسلطة لوحده، محاولاً استغلال وتوظيف مفاهيم شرعية كالأمر والطاعة والواجب والإجماع والمصلحة وغيرها. فعلم الأصول يمثل ضبطاً وقانوناً لكل عمل ومن ضمنه العمل السياسي والمجال الذي يعمل على ضبطه هو مجال المعاملات والتشريع والأوامر والأحكام فبدون علم الأصول يبقى هذا المجال عرضة للاضطراب والتشويش. والشافعي برسالته يكون قد مهد الطريق للعلماء من بعده لكي يتسائلوا ويقلقوا بتساؤلهم رجل السياسية عن ضروروة وجود منطق للعمل ومقاصد للسلوك وضوابط للتشريع والأمر... ثم ينتقل بنا الباحث الى الأصولي الكببر إمام الحرمين ابو المعالي الجويني، متناولاً بالتحليل أجزاء من كتابه "غياث الأمم في التياث الظلم" هذا الكتاب الذي وضعه صاحبه في بداية عصر الانحطاط (5هجري)، وفيه يُنظّر الجويني لمرحلة يستشرف قرب وقوعها وهي غياب السلطة العلمية وغياب السلطة السياسية فمالعمل حينئذاً؟؟! يسعى الجويني لإيجاد ضوابط علمية وذلك بتأسيس القول بالمقاصد الشرعية الكلية القطعية. وقد اتخذ الجويني من جزئيات علمي الأصول والفقه مجالا لإبراز مفاهيم ومقاصد شرعية كلية. أما ثالث الأصوليين الذين يتناولهم الباحث فهو أبو إسحاق الشاطبي (8 هجري) وهو نزيل غرناطة آخر قلاع المسلمين في الأندلس والعصر الذي عاش فيه كان عصر انحطاط وركود وحملات صليبية في المشرق والمغرب، ورغم ان الزمان لم يكن شاغرا تماما كما توقع الجويني الا ان ما نظّر له في المقاصد هو ما سيعمل عليه الشاطبي ويقوم بتطويره والإضافة عليه، فالشاطبي رغم انه لايصرح انه أخذ الكلام في المقاصد من الجويني -رغم ذكر بعض الاقتباسات له ضمن كتابه- الا ان علم الجويني كان قد انتقل اليه عن طريق تلميذه الغزالي ومن الغزالي لتلميذه القاضي ابن العربي المالكي الذي نقل كتب الغزالي الأصولية الى المغرب، فمحاولات الشاطبي هي تتويج لجهود رجال العلم "الأصوليين" في الإسلام بدءاً من الشافعي مرورا بالجويني والغزالي والعز بن عبد السلام والقرافي وغيرهم، ويرى الباحث ان مشروع الشاطبي اتى لملأ فراغ معرفي في علمي الأصول والفقه وهو افتقاد الدليل والقطع واليقين، فمحاولة الشاطبي تستهدف إعادة النظر وتعميق الرؤية لمفهوم المصالح الذي سيصبح بجانب مفهوم المقاصد المركز والمحور الذي يدور حوله مشروعه، ويرى الشاطبي ان التوصل الى أسرار التكليف لاتكفيه المنهجية الأصولية القديمة القائمة على تحديد الضوابط اللغوية المعروفة في علم الأصول كقواعد لفهم الخطاب الشرعي، فلايكفي الاكتفاء بها رغم أهميتها بل لابد في التكاليف الشرعية من البحث عن الحكمة أو الأسباب المعقولة والمقاصد الكلية المستقرأة من الخطاب الشرعي والمبرهن على قطعية ثبوتها والمجمع عليها. ومشروع الشاطبي في "الموافقات" هو مشروع إنقاذي لِ التوفيق بعد الاختلاف+ التوحيد بعد التشتت + عمل يبغي القطع ويسبتدل الظن بالبيقين ولا سبيل لتحقيق ذلك وهي(مقاصد عملية) الا بطرح مواز للظنون + طلب الكليات العقلية واعتماد استقراء النصوص الشرعية وهي(مقاصد نظرية) تعتبر وحدها الموصلة الى اليقين والقطع ومنع الخلاف. في النهاية الكتاب كبير ويغطي جزئية مهمة في نشاة العلمين ويجيب او يحاول الإجابة عن بعض التساؤلات ولكنه في الآن ذاته يفتح الباب لنقاشات أوسع وقراءات أكثر......
كتاب أكاديمي صعب يفترض معرفة القارئ بأصول الشريعة. إذا صبرت مع الكاتب ستجد أنك أمام عمل ضخم يحاول تقديم نظرية و هي أن العلماء المتمرنات علم الأصول كسلاح في مواجهة تغول السلاطين و إهدارها لقيمة العدالة في المنظور الإسلامي. الكتاب ينتقل من الشافعي إلى إمام الحرمين إلى الشاطبي ليرصد كيف تطور علم الأصول في مواجهة تدهور أوضاع المسلمين التدريجي داخلياً و خارجياً.
يعيب الكتاب تجاهله لحقيقة أن أغلب العلماء قد تم تدجينهم أو تحييدهم بواسطة ذهب و سيف السلطة و لو أن هذا الموضوع تم مسّه عرضاً. و أرى أن التركيز على أمثال أبو حنيفة و مالك و ابن عبد السلام رحمهم الله في حين يتم تجاهل أباً يوسف هو تمييع للواقع.