هذا الكتاب هو أطروحة دكتوراه قام بها الباحث جاكوب سكوفجارد بيترسون، وهي أطروحة فريدة من نوعها، جديرة بأن ينسج على منوالها في تحليل كلٍّ من جدلية العلاقة بين الدين الإسلامي والسياسة، وجدلية العلاقة بين الدولة والمجتمع، في عهد الدولة القومية. فالدراسات المتعلقة بهاتين الجدليتين المترابطتين، كما قرر المؤلف في آخر سطور دراسته، نادرة، بل بالغة الندرة، رغم محوريتها البالغة بالنسبة للحاضر والمستقبل معا. فحل معضلة الدولة القومية الحديثة في العالم الإسلامي، كان ولا يزال مرهونًا بالتنقيب عن صيغة لعلاقة متوازنة راسخة بين الإسلام والدولة والمجتمع. وأساس هذه المعضلة هو: من يحدد من؟ الدولة هي التي تحدد ما هو الإسلام، وما هو المجتمع؟ أم الإسلام هو الذي يحدد ما هي الدولة وما هو المجتمع؟ ويثير هذا السؤال بدوره جملةً من الأسئلة المتفرعة منه: أين مفهوم الأمة؟ ما الإسلام؟ ما الدولة؟ من صاحب الولاية في تحديد ما هو الإسلام، وما هي الدولة؟ ما هو ميزان الفصل بين الرؤى المتعددة بخصوص كل علامات الاستفهام هذه؟ لا تقف أهمية هذا الكتاب عند حدِّ السبق لطرق هذا الموضوع الحيوي في مصر بما لها من ثقل جيواستراتيجي إسلامي، فهو نتاج بحث عنيف ومستوعب على مدى ست سنوات، أثمر دراسةً بالغة التوثيق، استعانت بمراجع بلغات أوربية عديدة، فضلًا عن اللغة العربية، سودت عناوينها قرابة عشرين صفحة إلى جانب سجلات فتاوى دار الإفتاء المصرية منذ نشأتها عام 1895 حتى عام 1996. واتبع الباحث منهجية تحليلية سياقية لكل من محوري دراسته: تعريف الدولة بالإسلام، والمفتون ودار الإفتاء المصرية. فدرسهما في سياق كل من المعطى العالمي والمعطيات الإقليمية والمعطيات الداخلية على مدى مائة سنة، وبذا لم تعد الدراسة مجرَّدَ تأريخ ديني، بل تحليل لجدلية الديني مع كل من الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي معًا.
أكثر ما أحبه في عملية الكتابة، أن اثنيّن قد لا يعرفان بعضهما أبدا، يُمكن أن يكملا مشروعا بعضهما، فأنا اعتبرت هذا الكتاب هو الجزء المُكمل لكتاب الفذ نزيه الأيوبي "الإسلام السياسي" فبينما يُركز الأيوبي في كتابه على الخطاب الإسلامي الذي يُعاكس الخطاب الذي تتبناه الدولة ويصطدم معها ويشكل جوهر حركات الإسلام السياسي، لا يفرد كثيرًا من الصفحات للحديث عن إسلام الدولة متمثلًا في جهازه البيروقراطي ومؤسساته التقليدية، هنا، يناقش جاكوب تلك النقطة بالتحديدة، إسلام الدولة كمؤسسة من خلال مؤسسة دار الإفتاء بالتحديد منذ تأسيسها عام 1895 وحتى عام 1996 نهاية البحث، من خلال هذا الكتاب يمكننا أن نلقي الضوء على مرحلة مهمة جدًا من تاريخ مصر فالكتاب لا يناقش الإسلام فقهيًا، بل يناقش تفاعلات مؤسسة الإسلام مع محيطها ومجتمعها والتحولات التي مرت على مصر خلال مائة سنة، وفي الكتاب الكثير من المواضيع المثيرة عن استقبال المجتمع للفوائد البنكية ومنظمات التأمين وعمليات التحول الجنسي ورؤية الهلال، ومثل تلك الحوادث التي أصبحت شبه مسلمات لا تجر كثيرًا من الجدل اليوم، يجب أن نفهم ونعرف كيف استقبلها المجتمع في البدايات. لذلك أن أشجع كل من قرأ بحث الأيوبي، أن يُكمل ويثمن تلك القراءة بقراءة ذلك البحث الضخم المحكم، ومؤلفه المُستفز الذي لا يُظهر في كلمة واحدة ولا في أي سطر طيلة الكتاب عن أي موقف يخص أو انحياز، مستوى من الانضباط والموضوعية مُستفز جدًا وغريب ومثير للإعجاب والغيرة
مع نشأة الجهاز البيروقراطي للدولة وتوغُّله في مصر القرن التاسع عشر، كان هناك ميل نحو مأسسه كثير من الأوضاع غير الدولتية - من وجهة نظر السلطة- بإدماجها ضمن هيراركية الدولة، ومن هنا ينظر " جاكوب سكوفيجارد بيترسون" في تلك الدراسة الممتعة والفريدة في موضوعها إلى وظيفة " المفتي" بوصفها من الوظائف التي تم مأسستها عبر إنشاء دار الإفتاء المصرية عام 1895م ، وظهور منصب " مفتي الديار" كمنصب وظيفي سلطوي، ويجب أن ينُظر إلى هذا الأمر بوصفه استمرارًا لجدلية الديني والسياسي في القرن التاسع عشر، فعنوان الكتاب هو في الواقع معبّر عن تلك الإشكالية، معضلة من يحدد من، هل الإسلام هو الذي يحدد ما الدولة؟ أم أن الدولة هي التي تحدد ما الإسلام! لقد أرادت الدولة المصرية أن تنتج إسلامًا يكون معبّرا عنها من خلال دمج المفتي ضمن الجهاز البيروقراطي للدولة، ومن ثم يقول جاكوب إنه قد انبثق من ذلك إسلام رسمي جديد أكثر تسييسًا.
انطلاقًا من هذه الفكرة يحاول الكتاب عرض تاريخ دار الإفتاء، وعلاقتها بالخطاب السياسي المصري، فكما يصف جاكوب دار الإفتاء " شكيمة الإسلام الرسمي المفضلة للتكييف بين الدولة والدين"، لكن لا يؤكد جاكوب بصفة مطردة أن هؤلاء المفتين كانوا جميعًا من خلفية فكرية واحدة أو أن لهم مواقف متسقة موحدة، أو مدى خضوعهم لسلطة الدولة كان بنفس المقدار، كل ذلك يحاول جاكوب بيانه عبر تتبع سيرة دار الإفتاء ومن تولوا رئاستها مع التركيز بوجه خاص على المنهجيات التي طبقوها، وأهم المجادلات التي أثارتها فتاواها.
ظهرت دار الإفتاء المصرية في وقت كان الأزهر قد فقد جزءًا كبيرًا من استقلاله السياسي والفكري عن الدولة، لذلك ستجد في الكتاب كيف أن السلطة الخديوية كان يمكن لها أن تعزل شيخ الأزهر أو مفتي الديار عن منصبه بكل سهولة، وهناك حالات كثيرة انتقل فيها مفتي الديار من منصبه إلى مشيخة الأزهر مباشرة، وكان ذلك مرتبطًا في واقع الأمر بمدى فكره الإصلاحي الذي أثبته في موقعه عبر دار الإفتاء والذي يمكن تطبيقه في الأزهر، وهؤلاء الإصلاحيون يُطلق عليهم جاكوب إسم " السلفيين" ويقصد بهم من كانوا على فكر مفتي الديار الشيخ محمد عبده، وعندما يقول أن بعض المفتين كانوا شخصيات بارزة في الحركة السلفية= فهو يقصد السلفية بهذا المعنى، ومن ثم سيتكلم عن حسونة النواوي ومحمد عبده بوصفهم مصلحين، اختيرا لهذا المنصب بسبب هذا الفكر الإصلاحي، ويتكلم عن دور محمد بخيت المطيعي في إصلاح المحاكم الشرعية، لكنه يؤكد أن فكره مختلف عن محمد عبده، فيقول عنه بأنه كان محافظًا بدرجة أكبر بكثير من محمد عبده الذي صاغ للمفتي لعب دور عام محوري في البيئة المصرية.
ويتكلم جاكوب عن الفتوى الترنسفالية لمحمد عبده وما أثارته من جدل وصخب في البيئة المصرية، وعمومًا جاكوب مهتم برصد تلك الفتاوي التي تصدر عن مفتي الديار وثير الجدل والصخب في البيئة الفكرية، ومحاولة قراءة سياقها وربطها بموقف الدولة نفسها وتوجهها في هذا الأمر، سنرى ذلك في الكتاب تحديدًا مع فتاوى محمد سيد طنطاوي مثل فتوى شهادات الاستثمار.
يؤكد الكتاب أن بعض المفتين تبنوا الخط الإصلاحي لمحمد عبده ، بينما رفضه آخرون، من أمثال الشيخ محمد بخيب المطيعي والشيخ حسنين مخلوف، ويرى كذلك أن المفتين قبل انقلاب يوليو كان عندهم نوع من المرونة في الموازنة بين القصر أو الخديوي الذي كان يمكن أن يعزلهم في أي وقت وبين الشارع وبين الأحزاب السياسية، ويشيد بدور المفتي عبد المجيد سليم في الموازنة بين البريطانيين والملك والوفد، إلا أن ذلك الدور المرن مع انقلاب يوليو عام 1952م لن يكون له مكان في ظل سيطرة الضباط الأحرار على الحكم، إلا أنه في الفترة من ( 1928) إلى الانقلاب في عام ( 1952 ) سوف تظهر مؤسسات فتوى منافسة لدار الإفتاء مثل: الإخوان وهيئة كبار العلماء بالأزهر و لجنة الفتوى بالأزهر، لكن في المرحلة التالية من لحظة الانقلاب إلى عام ( 1978) يلاحظ جاكوب دخول دار الإفتاء المصرية مرحلة الأفول؛ حيث اقتصر دورها العام على تأييد توجهات الدولة في قضايا مثل: تحديد النسل و الوحدة العربية، ويرى جاكوب أن في تلك الفترة فقدت دار الإفتاء مصداقيتها عند الناس في مقابل موقفهم من الإخوان المسلمين، ويتكلم طبعًا جاكوب عن جريمة إلغاء المحاكم الشرعية وأثر ذلك في عمل دار الإفتاء.
يرى جاكوب أنه قد حدث إحياء لدار الإفتاء مجددًا مع تعيين المفتي جاد الحق في السبعينات إلى بداية الثمانينات الذي رحب -على حد قول الكتاب - بعملية الأسلمة العامة للمجتمع المصري، وفي نفس الوقت دافع جاد الحق عن إسلامية الحكومة أمام هجمات جماعات الجهاد، ومع ذلك يقرر جاكوب أن قضية "هل الشريعة مطبقةأم لا" يكتنف إجابتها الغموض عند جاد الحق الذي تلقى الطعن في مصداقيته من الإسلاميين خصوصًا بعد تأييده قانون جيهان السادات للأحوال الشخصية، فقد اعتبره الإسلاميون ألعوبة في يد الحكومة، بمعنى ما كانت ولاية جاد الحق مفعمة بالطابع السياسي لتوجهاته، ورغم اختفاء الدور المحوري للمفتي بعد جاد الحق لفترة يسيرة، إلا أن الدولة كانت تفكر في دور نشط للمفتي، ووجدت بغيتها في محمد سيد طنطاوي الذي كان يدور مع عقارب السلطة أينما دارات، وحيثما كانت توجهات الدولة حيثما كانت فتاوى طنطاوي تخدم هذه التوجهات.
وسيدرس جاكوت ثلاث حالات من فتاوى طنطاوي التي أثارت جدلًا، الحالة الأولى فتوى شهادات الاستثمار التي أحلّها طنطاوي، والحالة الثانية هي فتوى تغير النوع الجنسي= وقد انحاز فيها طنطاوي كما يرى الكتاب إلى جانب الطب، الحالة الثالثة هي قضية التأمين وشركات التأمين التي كان طنطاوي مؤيدًا لها، وبتحليل هذه الحالات وبقراءة السياق الجدلي حولها يصل جاكوب إلى أن هذه الحالات تؤكد أن منهجية دار الإفتاء في السبعينات و الثمانينات هي بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه من خلال التكييف بين الإسلام والمجتمع المصري.
بالنهاية نحن أمام دراسة ضخمة ، بذل فيها جاكوب جهدًا كبيرًا، وهي في نفس الوقت دراسة فريدة، فلا توجد دراسة عربية- فيما أظن- عالجت هذا الموضوع بهذا الشمول والاتساع ؛ بما يُلقي الضوء حول قضية مأسسة منصب المفتي عبر عملية تدريجية، وكيف أصبح هذا المنصب جزءًا من بنية هرمية في جهاز الدولة، وكذا تحولات هذا المنصب توهجًا وأفولًا حسب قوة المفتي وفكره الإصلاحي ومدى قدرته على تقديم إسلام معبّر عن الدولة المصرية، والكتاب من إصدار مركز نهوض للدراسات والبحوث، ويجب أيضًا أن نشيد بالترجمة الرائعة للدكتور السيد عمر .
دراسة هامة عن تطور مهنة المفتي في مصر، وكيف تمت مأسسة مهمة الإفتاء لتكون أحد أدوات الدولة المصرية الحديثة لتطويع المزاج الديني. يناقش الكاتب كيف تطور دور المفتي من المحاكم الشرعية إلى إبداء الرأي الفقهي والديني في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ويناقش أبرز المفتيين الذين جاءوا في القرن العشرين، وأهمهم محمد عبده وجاد الحق. تعاملت دار الإفتاء مع قضايا شائكة كثيرة جدًا، مثل التلغراف وهل يمكن الاعتماد عليه لرؤية هلال رمضان، والتحول الجنسي، ومعاهدة السلام مع إسرائيل، وشركات التأمين وغيرها.
يناقش الكاتب أيضًا أبرز التيارات الفقهية التي سيطرت على الأزهر، وكيف ظهرت التيارات السلفية والمجلات الإسلامية غير التابعة للأزهر، والتي عملت على توجيه الاتهامات للمفتين آنذاك ودورهم في دعم الدولة المصرية أيا كانت توجهاتها.
This book outlines the history of Darul Ifta in Egypt From 1895 till 1990s. What was the role of Darul Ifta in Egyptian Society at that period? How did the Muftis function and what obstacles did the face in their ifta-period? Answers to these questions can be found in this book. The researcher went through the records of Darul Ifta in Egypt and did four case studies with their impact on various organs of that society. A book worth reading.