«السر في خطأ القضاء» هو كتاب لمؤلفه ف. جيلرمه المحامي، أمام محكمة استئناف باريس، تحسس فيه المؤلف عيوبَ القضاء تحسس الطبيب الحاذق جسم المريض لتشخيص الداء، ووصف الدواء في قالب يروق لأنظار القارئين، وفي مقدمتهم أولئك الذين قصدوا به من قضاة ونواب وخبراء وغيرهم ممن عهدت إليهم إقامة صروح العدل على أمتن أساس؛ حيث إن الغاية الشريفة التي يرمي إليها وهي إصلاح القضاء لمصلحة المتقاضين قد سمت به فوق المصلحة الذاتية المبنية على التماس الزلفى إلى القضاة من طريق كيل المدائح لهم بحق أحيانًا وبدون حق غالبًا. يتشكل الكتاب من ثمانية أبواب، تناقش “الغلطات القضائية” ونتائجها، وضرورة البحث في العناصر المكونة للغلطات القضائية، والتعريب الفلسفي للخطأ والصواب، وكذلك تعريف الخطأ القضائي. كما يناقش الكتاب الصفات الواجب توافرها في القاضي، وقاضي التحقيق ومهامه، والفساد في الصناعة، ومدى صلاحية الاعتراف بالجريمة كدليل، وكذلك ضرورة الإشراف على وسائل الدفاع، ومبدأ حسن النية. ويناقش الكتاب قضية الشهادة وما يتعلق بها من الخطأ القهري، والشهادة من حيث الأحوال النفسية التجريبية، والرؤيا والوهم والخيال، والخطأ الإداري والشهادة الكاذبة، وكذلك أسبابها، وكذلك شهادة المرأة والأطفال. ويناقش الكتاب قضية (الخبير) وما يتفرع عنها من مسائل (الطبيب الخبير) والجنون العقلي، وخبراء الخطوط والحسابات، وناقش كذلك قضية (الجمهور) من حيث تعليقه مجردًا، ومن جهة الأحوال النفسية، والشهرة العامة، وهيكل المحلفين، والمجالس الحربية، والصحافة. وكذلك اهتم الكتاب بمناقشة قضية هامة في هذا الباب وهي (مذهب القضاء والقدر في القضاء) والغلطات القضائية المدنية والأسباب والنتائج.
ألَّف هذا الكتاب محامٍ فرنسي على دراية بالواقع القضائي، وكان همّه تسليط الضوء على أسباب خطأ القضاء في فرنسا آنذاك -الكتاب يتجاوز عمره المائة سنة- ومحاولته إيجاد حلول لهذه الأخطاء، فالكتاب حقيقةً يناسب الدارسين للقانون -مثل حالتي- أو العاملين في السلك القانوني والقضائي بالذات، وهذا ما دفعني لشراءه إضافةً إلى حبّي للإطلاع على القوانين المختلفة نتيجةً لاختلاف البيئات، وأيضاً حبي للتاريخ ومن ذلك تاريخ القانون :)
سأدرج بعضاً من الاقتباسات التي لفتت نظري:
١- "اعتاد الفرنسيون اعتبار من حكمت عليه محكمة الجنايات أو الجُنَح كمن جُرِّد من حلية الشرف، وأن شأنه كشأن المحكوم عليه بالأشغال الشاقة في الأزمان السالفة؛ حيث كان يُدمغ بالنار على كتفه إشارةً إلى إجرامه !" - بحثت في الإنترنت من باب الفضول فوجدت معلومةً تقول أن الوشم كان من استخداماته في فرنسا أن يُوشَم به المجرمون لكي يميّزهم الناس.
٢- ذكر المؤلف أنه آنذاك في باريس كان كثيرٌ من الوزراء وأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب مُدرَجين في جداول المحامين، واعتبر هذا عيباً يؤثر على القاضي في حكمه نتيجةً للسلطان الكبير من عضو مجلس النواب على القضاة والنفوذ العظيم لديه.
٣- ذكر المؤلف في حديثه عن شهادة الزور وانتشارها في المحاكم عدداً من القضايا التي يشهد فيها الشخص زوراً على نفسه لعدة أسباب ومن ذلك الأسباب حمايةً لمن يحبّهم وتضحيةً لهم، فقد يتلبّس شخصٌ ما جريمةً لكي ينقذ شخصاً شُغف به حباً من العقوبة، فيذكر أنه لابدد للقاضي أن يكون عارفاً بأحوال الشاهد النفسية ويتفرّس ملامحه وتصرّفاته ويكون حاذقاً ليحقق العدالة.
٤- يطلب المؤلف من القضاة عدم الثقة بشهادة النساء والأطفال، ويحمل على النساء محملاً غير منطقي فيرى أن النساء جُبلن على الكذب وفشى فيهن الهستيريا، وهذا فيه تحامل ونحن كمسلمين نقبل شهادة النساء فيما يقبله الفقه والشرع فلاشك أن بعض الأمور كالحدود لقسوتها وعِظَمها لا تُقبل فيها شهادة المرأة لأنها ناقصة عقل وعاطفية لكن هذا لا يعني عدم قبول شهادتها إطلاقاً فيما دون ذلك.
٥- ذكر المؤلف خطأً وقع به عدة قضاة في عدة قضايا، وهو تجاهلهم لسماع شهادة شهود النفي لصالح المتهم، مما أودى بحياة عدة أبرياء.
٦- ذكر المؤلف أن القانون الفرنسي لم يشترط قاعدةً صريحةً فيما يتعلق بعدد الشهادات إلا أن المعروف في علم الحقوق القديم أن الشاهد الواحد لا يمكن الأخذ بشهادته في إدانة المتهم، أما الآن -يحكي المؤلِّف عن عيبٍ في زمانه- فتكفي شهادة واحدة من امرأة أو غلام أو رجل شهادته مجروحة لسوق المتهم إلى الإعدام أو السجن.
٧- ذكر المؤلف كلاماً يروق لي اقتباسه، عن مدى التأثير الجَمْعي للناس، وسهولة الاقتناع بما قد لا يكون حقيقة لكن فقط لأنه يصدر من ذوي السلطة سواءً كانت السلطة هذه هي القضاء أم المجتمع، وهذا الكلام وإن كان الكتاب قديماً فإنه بلا شكّ ينطبق على واقعنا وعلى مايحصل من استعداء وإرهاب للناس بوسائل التواصل الاجتماعي بالذات ونبش للتغريدات ولتاريخ الشخص عند حصول أدنى موقف، قال المؤلِّف: "لنفرض أن قد سِيق أحدهم إلى السجن بتهمةٍ بالغة، فإن الناظرين إليه لا يلبثون أن يروا سِمات الإجرام مرسومةً على وجهه، وإن يكن في الحقيقة بريئاً! وهم إذا كانوا يعرفونه بالذات سرعان ما يفتشون في دفاتر أعماله السابقة ولو كانت من الأعمال المعتادة في حياة كل إنسان، ويقلّبونها على وجوه من المعاني لا تتفق مع صالح ذلك المسكين"