يشكل الموت الوجه الآخر للحياة في رواية «جنة الموت اللذيذ» للكاتب فادي شديد الذي اختار لبطولتها نفرٌ من الإنس وأنثى من الجن فجمعهما على غير موعد.. في مقبرة.. وكلٌ كان يبكي محبوبه.. هي قصة جميل الذي لا يحسن النوم إلا على نشاز صديقه الخفاش والجنية سرقريسة أجمل جميلات الكون والتي حاولت إدخال هذا الـ "جميل" في دهاليز عالمها وإنقاذه من الموت بعدما فقد زوجته وابنه؛ فشعر أنه سقط في بئرٍ ليس له قرار، وعليه أن يختار بين عالم الإنس بكل ما فيه من بغضاء وتناوش أو بين عالم الجن بصراعاته وغموض ألغازه!!
الأمر المهم في هذا الاشتغال السردي هو أن السارد/البطل بعد بثه صور الموت بأشكاله المتعددة انتقل مباشرة إلى عرض محكي لا علاقة له بعالم الجن، وإنما بالعالم الحقيقي الذي يعيشه.. ومنه، علاقته بوالدته وزوجته وأولاده وأصدقائه ويتمظهر ذلك من خلال تقنية اشتغال سردية تحيل بمحمولها الى القضية الفلسطينية. فتحضر بين السطور مجزرة دير ياسين وما كُتب عنها، وتداعيات قمة كامب ديفيد الثانية التي كانت تهدف إلى تصفية الوجود الفلسطيني، وعودة بالزمن إلى وعد بلفور، وما جرى في أراضي الضفة وقطاع غزة، وأسرى مضى على اعتقالهم أكثر من ثلاثين سنة عانقهم ذووهم قبل أن يعانقهم الهواء... وحياة أخرى فيها الكثير من الألم ومن الشهادة..
يأخذنا الكاتب في رحلة مع آلام أحد المُهجرين الفلسطينيين ...جميل .
جميل الذي عاش في مخيم للآجئين في الأردن بعدما أغتصبت أرضه وأخذ الاحتلال المجرم نخبة من شجعان شبابها كان من بينهم والده الشهيد , والذي مارآه يومًا
يروي لنا جميل قصته المؤلمة الحزينة بكلمات عميقة ومحزنة ببداية غريبة عن حياته قبل زواجه , الى ان انتهى من سردها بنهاية حُرم منها الآف الفلسطينيين
بالواقع حياة جميل وعائلته تمثل حياة الكثير من المُهجرين من أوطانهم وصراعهم مع الإحتلال
حسرة الفلسطينيين بالعودة لبلادهم تبقى غصة في الحلق لا تُنسى ولا يتعافى منها المرء . هذا النوع من الألم يبقى داخلك حتى لو جائك بعدها شلال من الأفراح
وكفلسطينية مغتربة , إزدت وجعًا وحسرة اثناء قرائتي للمنعطفات الحزينة التي مر بها جميل وعائلته . أتذكر جدي من أمي رحمه الله الذي هُجر قسرًا من قريته (دير بلوط شمال غرب نابلس ) وتشبثه بأمل العودة لبلاده واراضيه وشجرات الزيتون , التي رفض بشدة بيعها والتخلي عنها بقلب مملوئ بأحلام وآمال العودة
لأول مرة منذ أشهر اواصل قراءة رواية ما لأكثر من ثلاث ساعات . الحزن والألم والعواطف التي بها منعتني من تركها وقطع قصة جميل وأولاده. لكني لم أستطع إكمالها بدون أخذ دقائق من الراحة لتكالب الأحزان والأوجاع على قلبي وحزني عليه
أسلوب الكاتب كان منتهى الروعة والجمال , تحلى الكتاب بأسلوب أدبي رقيق ومثير للعواطف بلغة فصيحة جميلة . الأسلوب حتمًا سينجح في كتابة العديد من الروايات العاطفية والإجتماعية
اول 150 صفحة كانت مثل ضباب الشتاء الذي يُيقي الناس بمنازلهم خوفًا وإضطرابًا منه . ثم بعد ذلك بدأ ينصب المطر الحزين ويُكشف لنا من هو جميل ذو الماضي والحاضر الأليم
أتمنى ان يبقى الكاتب على هذا الأسلوب والمنوال العذب مع محاولة تقليل الصفحات والكلام العاطفي على صورة خواطر لكي لا يضيف طابع الملل للرواية وتحافظ على رونقها وجمالها بعواطفها
خطت الرواية حياة ستة ملايين فلسطيني بمأساتهم المكلومة، ستة ملايين أمثال جميل مشاق في الشتات
رغم قراءتي لها على جلسات متباعدة خلال أكثر من شهرين إلا أني كنت أعود في كل جلسة وعلى علم بما قرأته من أحداث وكأني لم أفارقها على غير عادة الكتب الروائية، ربما لأن الفصول الأولى اتخذت طابع البؤس والحزن فقط فاعتدت عليه. .اهتم الكاتب بشدة في اللغة والوصف وتطويعهما لدرجة انه صعب الفهم للمبتدئين أمثالي في الفصول الأولى خصوصاً زاد من قوة الرواية واقتباساتها
ارتكزت الرواية في الثلث الأول على اظهار الجانب العاطفي البائس لجميل، يغرق الكاتب في وصف حالة جميل النفسية والعاطفية لوهلة تظن أن جميل أمامك أو أنت جميل حقاً اذا كان لك ماضي في البؤس والأسى أما الثلث الثاني يحاكي الراوي ما يعيشه اللاجىء الفلسطيني في غربته عن وطنه ونفسه وفي الثلث الثالث يسرد الكاتب بعض من أحداث الانتفاضة الفلسطينة في للأراضي المحتلة تحديداً في مدينة رام الله
على الرغم من نهاية الرواية التي أسعدتنا في لم شمل جميل مع من بقي من عائلته إلا أن واقعية الأحداث فرضت عليها أن تكون هذه النهاية خارج الوطن في منفى اللاجئ ،أتذكر ما قاله مسعود لأخيه علي في مسلسل التغريبة الفلسطينة خلال نصب حدود الخيم :(إذن .. فقد أصبح للخيمة حد .. صارت الخيمة حقيقة .. صارت وطن اللاجئ)
.سعدت في مرافقة الرواية، بداية موفقة للكاتب، في انتظار اعماله الجديدة