What do you think?
Rate this book


248 pages, Paperback
First published January 1, 1975





“السجن يا أنيسة في داخل الانسان، أتمنى ألا أحمل سجني أينما ذهبت، ان مجرد تصور هذا عذاب يدفع بالانسان إلى الانتحار!”قد يمر علي المرء وقت ما يشعر فعلا أنه في سجن...ٍسواء فعليا أو رمزيا
“لماذا لا يقرأ الجلادون والحكّام التاريخ؟؟
لو قرأوا جزءاً من الأشياء التي يجب أن يقرأوها،لوفّروا على أنفسهم وعلى الآخرين الشئ الكثير.ولكن يبدو أن كل شعب يجب أن يدفع ثمن حريته،والحرية،أغلب الأحيان،غالية الثمن .”
في الأيام الأولى كنتُ أسأل نفسي مئات المرات: والعالم الخارجي، ألا يزال موجودًا؟ والمقاهي أتستقبل البشر؟ ودور السينما ألا تزال الحفلتان في المساء، الأولى في السادسة والثانية في التاسعة؟ والشوارع والأضواء ورجل ينتظر امرأة على محطة الباص؟”
وأصمت. لكن العالم الخارجي يظل في رأسي كتلة نار راكضة. هل هذا العالم موجود فعلا؟ هل مازال الناس يذهبون الى دور السينما؟ يضحكون؟ يجلسون في الحدائق؟ والسيارات ألا تزال تسير في الشوارع؟ والباعة والمتاجر، والمتحف؟ آه اشد ما أتلهف لأن أذهب الي المتحف، والنساء؟… النساء في المدينة الكبيرة آلاف، عشرات الالاف، كل امرأة عالم من الجنون والدفء، هل تنقضي هذه السنين وأخرج مرة أخري؟ سبع سنين. ست سنين، ما أطولها: آلاف الأيام انتهت ولم نقض بعد نصف المدة التي حكمنا بها. هل تنتهي المدة؟ ألا يستطيعون ان يلفقوا لنا تهمة جديدة ونقضي في السجن خمس سنين أخري؟ انهم قادرون علي كل شئ! ألم يحكم علي مجدي ثلاث سنوات جديدة قبل أنتهاء المدة الأولي بيوم واحد؟ وعثمان..؟ تركوه في الخارج اسبوعاً واحداً، ثم جاء مرة اخرى يحمل علي كتفيه ثماني سنين!
……
والانسان في العالم الخارجي يستطيع أن يذهب إلى المرحاض متى يشاء، لا أحد يمنعه، لا أحد يدق عليه الباب ويطلب منه أن يخرج فورًا، لا أحد يجبره على حمل القذارة بصفيحة ترتج بين يديه وتتسرب إلى ثيابه ويديه ..
هل ما زال العالم الخارجي موجودًا بالفعل؟”
لقد قال أن أكل السجن لذيذ، لا أصدق ابداً، عندما رأي وجهي ساخراً قال بإصرار:
-الجوع أحسن معلم. قبل السجن كان لي مزاج خاص: هذا طيب، هذا أحبه، هذا لا أحبه. في السجن كنت آكل أي شيء، ولكي لا أعلق قال:
-حشو مصران، المهم ان يأكل أي شيء، فقط لكي لا يجوع، ومع ذلك كان الأكل لذيذاً.
“البشر. هناك، ينتزعون من الإنسان كل شيء: الدموع، الرغبة، وحتى الذكريات. أما الافكار التي تعبر رأسه في الليل فإنهم يريدونها أن تتحول إلى كلمات، إلى أسماء، ومقابل ذلك يمنحون الإنسان الضرب والألم وحنينًا موجعًا للنهاية والموت!”
سأبقي ساعات الي جانب قبرها، لكن لماذا ماتت؟ ان قوة غامضة وغبية هي التي تدير هذا الكون، وهي نفسها التي انتزعت أمي في وقت كنت أريدها ان تبقي.
أعرف انها كانت تتكوم لساعات طويلة أمام زاوية السجن، وأمامها سلة فيها أكل وخبر وبرتقال، وفيها ثياب، وفي مكان ما من الثياب رسالة. كانت تنتظر دون تعب، حتي اذا سمحوا لها بالدخول، كنت أري من بعيد ابتسامة تملأ وجهها، وفي تلك الدقائق، التي لم تكن تزيد علي العشر أتزود بالقوة، بالجنون، بالمحبة، كنت أتزود منها لفترة طويلة تكفيني أسابيع، حتي عندما يمنعون الزيارة.
وماتت.
“أريدك ان تكون حاقداً وانت تُحارب، الحقد أحسن المعلمين، يجب ان تحول احزانك الى احقاد، وبهذه الطريقة وحدها يمكن أن تنتصر، اما اذا استسلمت للحزن فسوف تهزم وتنتهي، سوف تهزم كإنسان، وسوف تنتهي كقضية”
“- هل يمكن للإنسان أن يعيش بهدوء في هذا البلد اللعين؟ لا أحد ينجو، الذي يعمل في السياسة والذي لا يعمل، الذي يحب هذا النظام والذي لا يحبه.. بلد مجنون ويجب أن يُدمر!”
"لا تنفعل، لا تغضب، لا تحزن." حتي الفرح الشديد حرمه عليَّ الدكتور فالي. كان يسخر عندما نطق الكلمة الأخيرة، هل يتصور ان علي الشاطئ الشرقي للمتوسط انساناً واحداً يمكن ان يموت من الفرح؟ الفرح بالنسبة للشعب السجين طائر مهاجر. حتي الجلادون لا أظن انهم قادرون على الفرح.
-وأي شئ آخر في عالم الحرية يا انيسة؟
-كل شئ تغير ، الشوارع غير الشوارع ، البيوت غير البيوت ، الحدائق ، الأضواء ، أشياء كثيرة تغيرت!
-وماذا ايضاً يا أنيسة؟
وتضحك وهي تجيب:
-وانت يا رجب تغيرت كثيراً. كبرت عشر سنين، عشرين سنة، من يراك الآن لا يعرفك: الشيب، التجاعيد.
وتتغير نبرة صوتها وتتقلص الابتسامة وهي تضيف:
الله يلعن السجن ويومه، قلنا حين تخرجت من الجامعة سعادتنا بدأت، لكن ما مر شهر حتي تحول الفرح إلي مأتم!
لو ظلت أمي، لظللت شاباً وصامداً، لو ظلت هدي لظللت أقوي وأشد، لكن جسدي هو الذي عذبني، لم يتركني ارتاح يوماً واحداً.
“البكاء يهدّ أكبر الرجال، إن أقسى ضربة توجّه لرجل هي أن يرى أمه أو أخته تبكي أمامه”
يا إلهي كم تغير رجب، لم يعد ذاك الذي أعرفه، الذي عشت معه. انه الآن انسان آخر. هل مات رجب ذاك؟ هل تركه في السجن؟ والانسان، هل يمكن ان يتغير بهذا المقدار؟ الصوت المشبع بالثقة والمودة، تراجع ليحل مكانه صوت هامس يخنقه البلغم والسعال، العيون الضاحكة، التي كانت تسميها أمي عيون اللصوص، أنطفأت تماماً، عيونه الآن مثل مرايا مجللة بالبخار، لا تري ابداً، تتطلع، لكن لا تري.
….
قلت له والأطياف والأفكار تتراكض في رأسي بسرعة مجنونة:
-السجن غيرك؟
-لا.. لم أتغير ، واذا تغيرت ، فنحو الأحسن!
-السجن يغير الانسان إلي الأسوأ، ألا تري كم كبرت؟ كم تعبت!
-ولكن لم أعد أعتمد علي أحد، تعلمت أشياء كثيرة. غسيل الملابس ، الصحون ، ولا تستغربي يا انيسة إذا قلت اني أصبحت اشطر من امرأة في خياطة الأزرار والرقع.
"لو كان رجب حيا اكتب لكم رواية او شيئاً آخر تستمتعون وأنتم تقرأونه، لكن رجب رحل، رحل منذ وقت بعيد، ولا أجد الآن تكريماً لذكراه إلا أن أهرب الأوراق التي عاد بها الي وراء الحدود وأنشرها كما هي."