ما يزال أحمد حسين، مؤسس ورئيس حزب مصر الفتاة (الحزب الاشتراكي فيما بعد)، ما يزال يدهشني في كل ما كتبه، قرأت له في السياسة، وهي مجاله الأساسي، وأعجبني كثيرًا، وقرأت له في أدب الرحلات، وأعجبني كذلك، وقرأت له بعض أفكاره في الدين الإسلامي، وأعجبتني كذلك، ولا شك أن هذا الرجل كان فريد من نوعه في ذلك العصر الفائت، وهو في هذا الكتاب يتحدّث عن إفلاته من أمر اعتقاله في مايو 1941، وذلك قبيل مداهمة الشرطة لمقرّ الحزب للقبض عليه، بلحظات، ثم هروبه لثلاثة أشهر طويلة قضاها في التخفّي داخل وخارج القاهرة، ثم نجاح الشرطة بالصدفة في القبض عليه، ثم فراره من المستشفى التي نزل بها تحت حراسة الشرطة من أجل إجراء عملية جراحية له، ثم تسليم نفسه للاعتقال للمرة الثانية بعد فترة، ثم دخوله السجن لعامين حتى أُفرج عنه.
والتفاصيل جدّ جدّ شائقة، وأسلوب أحمد حسين، كما ألفته منه، يغري بالقراءة في وصف أحداث هروبه وتنكره وتخفّيه، وما إلى ذلك، ولكن حسنة هذا الكتاب لم تكن في أحداث هذا الهروب ولا أحداث الاعتقال نفسها، وإنما من هذا الوصف الباهر لحالة الشعب المصري حينما كان روميل يقترب من الدخول إلى مصر، ثم توجّهه إلى مرسى مطروح، ثم سقوط مرسى مطروح، ثم انتشار الاضطراب في كل مكان في مصر توقعًا لدخول الجيش الألماني وما سيحدثه من خراب أكيد في نتيجة حتمية لمغادرة احتلال وقدوم احتلال غيره.
وكنت في كتاب محمد التابعي، "من أسرار الساسة والسياسة"، قلت إن وصفه لحالة مصر في تلك اللحظات العصيبة قبل اندحار الجيش الألماني بقيادة روميل عند العلمين، يعتبر أجمل وصف مثير للأعصاب أقرأه عن تلك الفترة، ولكن كتاب أحمد حسين هذا جعلني أسحب هذا اللقب منه، فبينما اهتمَّ التابعي ببيان حالة الحكومة والوضع السياسي وتخبّط واضطراب رجال السياسة والحكم وحالة رجال الاحتلال في مواجهة الكارثة المرتقبة إن دخل الألمان مصر، كان أحمد حسين مهتمًّا بحكاية حالة عامة الشعب أنفسهم، بعيدًا عن ساسته ورجال حكمه، وبيان مبلغ الشائعات منه والحديث الذي لا ينقطع بين أفراده العاديين عن الحرب والأقاويل عنها والمشاعر المضطربة التي انقسم بينها طوائفه.
وغني عن الذكر أن أحمد حسين يكره الإنجليز، فهم سبب اعتقاله، لأنه أيّد الحرب، ولأنهم وصل إليهم أنه أرسل رسالة لهتلر، ولذلك فقد جعلوا الحكومة المصرية تصدر هذا الأمر باعتقاله، والذي يدور حوله الكتاب، ولذلك كانت الصفحات الأخيرة في هذا الكتاب تغشاها نبرة ثقيلة آسرة من الحزن وخيبة الأمل في أن كل هذه اللحظات العصيبة لم تؤد إلى تغيير في الوضع في مصر والعالم، ولم تنل مصر حريتها أو يتغيّر شيء، أو كما يقول: لقد كنا نطمع أن تنهار انجلترا في هذه الحرب لكي نتحرر من سلطانها وسيادتها، ولكن الحرب كانت تندفع نحو نهايتها، والدلائل كلها تدل على أن انجلترا ستخرج منها منتصرة فائزة، وأننا سنعيش من جديد في عالم تسيطر عليه الامبراطورية البريطانية، لقد كنا نؤمل في عالم جديد لا يسود فيه اليهود، ولا يكونون أصحاب الكلمة العليا في شؤونه، فدلّت الدلائل على أن العالم سيظل رهنًا لمشيئة اليهود، لقد كنا نؤمل أن تكون هذه الحرب هي الفرصة الذهبية لكي تنال البلاد العربية، بل والإسلامية في مشارق الدنيا ومغاربها، حريتها واستقلالها، ولكني خرجت من المعتقل لأرى أن العالم العربي والإسلامي لم يكن في أي يوم من أيام تاريخه أسوأ من حالته في ذلك الوقت، فإيران التي كانت حرة مستقلة قد اجتاحتها الجيوش الأجنبية، وسوريا ولبنان قد أصبحتا منطقة نفوذ إنجليزية، فوق كونها منطقة نفوذ فرنسية، وكان كل شيء يدل على أن منطق القوة كما كان وسيبقى إلى الأبد هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في حرية الشعوب واستقلالها.
..
لقد كان هذا كتابًا من التاريخ الغضّ الحيّ، بكل زخمه وأحداثه وبدائه آرائه، رحم الله أحمد حسين.