"أنَّى تواريتُ انكشفتُ كأنني شخصٌ ثنائيٌّ ولي وجهانِ!"
"سقطتُ في قعرِ ذاتي حينها انكشفتْ حولي المرايا تُعرِّي عتمةَ الجُّبِّ"
"تَعَدَّدْتُ في مَوْتِي هو الأمرُ أنَّني سَئِمْتُ اتِّخاذي شَكلَ مَوتٍ مُحَدّدِ!"
حاولت مرارًا قراءة الشعر الموزون -وبالتأكيد كنت مقصرة في محاولاتي- ولكن عامل الموضوعة المطروحة في القصيدة كان دومًا يشغلني. القصيدة التي تبدو جيدة، بأدوات وفنيات أقرب للكمال، ولكن بموضوع استعراضي؛ لم تكن تلفتني. كنت دوماً أبحث عن كتابة الهامش، تلك التي توغل في مناطق خفية وبصوت خافت وبحساسية عالية. الشاعرة حوراء الهميلي كانت اقتراحًا من صديق، وكانت كلمته الأولى أن هذه الشاعرة تُفَلسِفُ الوجود عبر الشعر. وكم كان صادقًا في ذلك! هذا الشعر يأخذ قارئه لفلكٍ فكريّ يتضوّع بالسؤال والمعنى والحيرة. يغمرُ قارئه بحالات الغياب عن العالم، عبر الوجود الصامت في خضم الصخب. حوراء لا تكتب للعامة، وهذا واضح عبر قصائدها. حالاتها الشعرية فذّة وهائلة لا تصلح للجميع أبدًا. إنها تكتب للقلّة/ للخاصّة وحسب.
أحببت الفصل الأول بشدة، وظللت أعيد قراءته مرةً تلو أخرى. هذه شاعرة تستحق الاحتفاء حقاً.
وأنت تقرأ (الظمأ) تشعر بأن إحساسك مبلل. يكسبك رئة ثالثة تستنشق منها رائحة الزمكان/ الحب /المطر. أنت لا تقلّب صفحات بل تدير مجرات الجمال. هنا القصيدة أنثى بكل ما تحمله الكلمة من معنى. هنا الفن يعانق الشعر في أبهى صورة حيث الغلاف شاعري جدا، وأضف إلى ذلك المزج الغيبي بينه وبين النصوص. تبدأ الشاعرة بمونولوج ساحر حيث تقول: " ما عدتُ أذكر شكلي حين تعكسني هذي المرايا متى وجهي تَبدَّلهُ؟
ما عدتُ أعبأ كيف الجرحُ لوَّنني القمحُ يصفرُّ لو يشتاقُ مِنجلهُ"
لا تقف عند هذا العرض المسرحي المذهل بل تتجلى وتصل لأبعد مدى. " وطأت العرش فارتدّت سمائي نسيجُ الكونِ حَوّرَ لي جهاتي! سقطتُ هناك لكن كنتُ أطفو وأكتشفُ الخرائطَ بانفلاتي صعدتُ لعالم الملكوت عَلِّي أراوغُ بالمماتِ رُؤى الحياةِ"
ثم تُطلُّ من ثقب الذاكرة لتناجي الروح لعلّها تجد أجوبة عن الأسئلة الوجودية. لكنها توقعك في ظمأ أبدي يجعلك وأنت لا زلت في بدايات القراءة مندهش، ومن حيث لا تعلم يسكنك نص لا تستطيع الخروج منه، أعني بذلك نص (لغز مُفرغٌ بانزياحٍ كوني) فقد اجتاحني بشكل مخيف جدًا لدرجة كلما قرأتُ من بعده نصوص رجعت له. فعلا إنه لغز !
بعد ذلك تجدها تشد خاصرة الحنين حيث تقول: أُحبهُ حجم تشكيكي وهلوستي حجم احتياجي الذي في الروحِ أحبِسُهُ الحبُ ذنبٌ وغفرانٌ لمعصيتي وأطهرُ الذنبِ ما ذاتي تُقدِّسُهُ".
وكثيرًا ما تحتمي تحت مظلة الذكريات من مطر النسيان.
لكن هناك هاجس ملفت بالنسبة لي في هذه التجربة وهو توزيع النصوص؛ ربما منهجت الشاعرة النصوص بطريقة الموضوع بحيث قسمت المجموعة إلى ثلاثة أقسام، وهي:تأويل على وجه المرايا، من شد خاصرة الحنين، نبوءة يد.وفي قناعتي الشخصية الشعر فوضى مرتبة بمعنى لو تم توزيع النصوص من دون تصنيف ذاتي وجداني وغيره لكان أجمل بكثير.
تمنيت ان لا ينتهي الديوان، هذه ليست أشعار، بل قطرات مطرٍ زرقاء تحولت على شكل بحيرة من الشعر والشعور، هذا الديوان منذ ابتدأت بقراءته حتى انتهيت وانا اشعر بقشعريره تكتسي جسدي كاتبة مبدعة ونادرة ما شاء الله تبارك الله✨.
هو هكذا الظمأ الأزرق، يجبرك على التوقف والعودة، لا تستطيع التهامه دفعةً واحدة من ثقل ما يحمل من ثقافة وشاعرية قليلاً ما تجد مجموعة شعرية لأنثى تحرر شاعريتها من قيد الذكورة الشعرية، أو لغة الخاطرة، هكذا وجدت هذه المجموعة، مليئة بالشعر واللغة الأنثى
كلما قرأت نصاً أو نصين تتوقف وتقول لنفسك: أخيراً .. هذا الحس موجودٌ فعلاً
كيف تسكن الذات في الأحلام من الخارج! وكيف تسير في الدرب من عوالمه المتوازية بعيداً عن عالمه الأب .. لا أدري
ربما من الملفت في هذه المجموعة التصدع بجوار النص للمحافظة على رصانته، والموت على صدره حتى يحيا هو، كأن الزمان زمان تربطنا به خيوط رفيعة مشاكسة
حوراء هنا لم تكن غيرها كانت هي هي شعرها لم يكن هو، بل كان هي صورها توظيفاتها تراكيبها كلها كانت هي لغة يملؤها الظمأ بالحب الحب الأنثى الحب الأزرق ظمأ أزرق