لا يطاوعني قلبي لكي أقول.. إنما هذه القصيدة أُمطرت بالرصاص منذ سطورها الأولى ولو لم يحدث ذلك لما انتهت.
*********************
يمتلك گروس عبدالملكيان خيالاً مدهشاً، يستطيع به أن يصطاد انتباه قارئه بسهولة، خيال بصري، لفظي، معنوي، متعدد، وهو متمكّن جدّاً في تنويع استخدامه بحيث يبدو القارئ وكأنه مستلب أمام هذا التعدد العظيم في الحيل الشعرية، لكن ليس هذا فقط ما يميّز عبدالملكيان، إنما كونه يستخدم هذا الخيال، ليصل إلى مناطق بعيدة في الشعور والتفكير البشري، إنه يعبّر عن قضايا مختلفة وغير مألوفة، تبدو نصوصه في حالة من التجاذب الذي يولّد طاقة كبيرة، بين المتخيّل والموضوع، لكن ومرة أخرى، ليس هذا فقط ما يميّز گروس، إنما كذلك شعوره العميق بالمسؤولية عن موضوعاته، ما يجعل نصوصه تفيض بالصدق والحرارة، إنه شاعر نادر، يجعلك تقف مطولاً أمام الشمس بعد أن تقرأه، علّك تجفّف رطوبة عميقة تتركها نصوصه في الروح.
مهدي سلمان، شاعر بحريني
هذه المجموعة هي مقتطفات من المجموعات الشعرية الثلاث الأولى لگروس عبدالملكيان، يخلق من خلالها عالمه الشعري بأجواء حية، سينمائية وسريالية. إنه لا يعلّق الفكر بالخيال، ولكنه يفكّر فيه، ومن خلال نافذة الخيال يعرض اهتماماته الأنطولوجية، الاجتماعية والرومانسية على القرّاء.
"ها قد أطلقت آخر الطيور غير أنني ما أزال حزيناً شيء ما في هذا القفص الفارغ لم يتحرر."
"يوم آخر يمرّ من أمامي ضجر حتى من قميصي"
"صوت الباب يمر من قميصي من صدري يمر من حائط الغرفة من الأحياء القديمة ويجعل طفولتي حزينة."
"انس المدفع الرشاش الموت وفكر في حكاية النحلة التي وسط حقل الألغام كانت تبحث عن ساق زهرة."
شعر لذيذ، وعذب للغاية. عظمة السهل الممتنع متجلية في شعر عبدالملكيان هنا؛ أن تكتب بسهولة مطلقة، وتغرف من روحك مع كل ذلك. تتشظى وتتبعثر في قصيدتك، تضيء وتنبعث ولا تتوقف، تتصاعد وتهوي ولا تترك سوى دهشة اللحظة. يالها من لذة!
لابد أن أشكر السيد أصغر علي كرمي على هذه الترجمة البهية، والتي حافظت على بساطة النص وعفويته، كما كانت متناسبة مع درجة صوت الشاعر، فلم تكن متكلفة أو متصنعة أبداً.
”أردتُ البقاء فذهبت أردت الذهاب فبقيت ليس الذهاب مهمًا ولا البقاء بل إنني كنت ما لم اكن.“
”تضربني على كتفي كي تنفض وحدتي! ما الذي يسعدك في نفض ندف الثلج عن كتف رجلٍ ثلجي؟!“
”أن تقفز، لا تحتاج لأجنحة إنما إلى قلب.“
”ها قد أطلقت آخر الطيور غير أنني ما أزال حزينًا شيءٌ ما في هذا القفص الفارغ لم يتحرر.“
يا إله الجمال! نقلت أغلب مافي الكتاب إلى ملاحظاتي، لربما تركت قصيدتان، وذلك ليس لأنها أقل عذوبة وجمالًا، بل فقط لأنني لم أقدر على فهمها.. أتمنى أن اصادف أشعارًا كهذه، أشعارًا بتشبيهات عبقرية ومشاهد/مشاعر شديدة الوضوح يراها القلب قبل العين، أن تكون سهلة سلسة، لكن في كل بيتٍ منها قطعة من روح صاحبها.
يُقال أن الشعر المترجم يفقد جزءً من روح القصيدة الأولى، في هذا العمل أقرأ الشعر وكأنه في مهده، تشعر بلحظةِ الانفجار الهادئ للقصيدة، يُبحر گروس نحو النفس وتأملاتها والبلاد وخيباتها، يكتب عن التفاصيل والكلّيّات دون أن تجد فرقاً بينهما، هذا الديوان شعرٌ خالص.
أرى شخصاً باستمرار يختبئ خلف الأشجار يختفي في الظلال منتظرا فرصة عزلتي يتعقبني مع مسدس في جيبه (سلوكه طبيعي تماما) فهو لا يعلم أني أنا أنا من استأجرته.
في كل ترجمة شعرية جيدة هناك شاعران: كاتب النص ومترجمه. وليس من المبالغة في شيء القول بأن المترجم الجيد شريك للشاعر في كتابة نصه المترجم إلى لغة غريبة عن لغة النص الأصلية. الوقوع على مثل هذه الترجمات لا يحدث ولا يتكرر كثيرًا، بل هو في حكم النادر والشحيح وقد أسعدني الحظ في الوقوع على إحدى تلك الترجمات البديعة التي هي شعر خالص لا أثر فيه لعجمة الترجمة ولا لتأتأة ولعثمة المترجم وهو يحاول نقل ما لا ينقل وترجمة ما لا يترجم إن صدقنا جدنا العظيم، الجاحظ. الكتاب هو (جسر لا يوصل أحدًا إلى بيته) الصادر عن منشورات تكوين عام 2020م للشاعر كروس عبدالملكيان، أما المترجم/الشاعر فهو أصغر علي كرمي. لا معرفة سابقة لي بالشاعر أو المترجم، وكم كان سيفوتني الكثير من الشعر لو لم أتعرف عليهما في هذا الكتاب الصغير الحجم المليء بالشعر المصفى الذي يدعوك لقراءته مرات ومرات. الكتاب كما يصفه المترجم في كلمة الغلاف الأخير عبارة عن مقتطفات من المجموعات الشعرية الثلاث الأولى للشاعر، الذي يقول مهدي سلمان الشاعر البحريني عنه أنه "يمتلك خيالاً مدهشًا، يستطيع به أن يصطاد انتباه ��ارئه بسهولة". والخيال في شعره ليس حلية أو حيلة يبهر بها قارئه (وإن تحقق ذلك بالفعل)، بل هو وسيلة للغوص عميقًا في أغوار النفس الإنسانية وما يعتمل فيها من مشاعر وما يضطرم فيها من أفكار. ومضات من المجمو��ة: • العيون المغلقة مفتوحة أكثر/ والجفن/ ستارة تعمق الرؤية • الغابة/ شجرة وحيدة/ هاربة من التراب/ بآلاف الأشكال • صعد الركاب/ وشد القبطان الأشرعة/ لكن البحر/ استيقظ مبكرًا/ ورحل قبلهم. • علينا القبول/ أنه أبدًا/ لم يعد أي جندي من الحرب/ حيًّا. • تهب الريح/ فيرتفع الغبار الجالس على الكرسي/ يدور في الغرفة/ ويستلقي بجانب المرأة/ وهو يفكر في الأيام التي/ كانت لديه فيها شفتان. • يهز الطبيب رأسه/ تهز الممرضة رأسها/ يمسح الطبيب عرقه/ والجبال الخضراء/ تصير صحراء/ على شاشة الكمبيوتر! • أطوي البحر/ وأضعه تحت رأسي. • انظر/ السحابة المنتصبة فوق المدينة/ ليست إلا يومًا كنت قد دخنته. • بكيس أسود مجعد/ فيه ملابس العمل/ بيدين للعمل/ حاجبين للعمل/ جالس في ساحة الميدان/ التمثال حجري/ الذي لسوء الحظ/ لديه قلب. • أي جسر هذا المكسور/ وفي أي مكان في العالم/ ذلك التي لا يوصل/ أحدًا إلى بيته. • انس المدفع الرشاش/ الموت/ وفكر في حكاية النحلة/ التي وسط حقل الألغام/ كانت تبحث عن ساق زهرة. • قلت:/ أحبك/ فهرعت للشارع/ فمساحة الغرفة/ لا تكفي للطيران.
الغياب له عدة أشكال منها الموت. والموت له عدة ثقوب منها الرصاص. والرصاص له عدة أهداف منها القصيدة. كَروس عبدالملكيان هو الشاعر الذي ان ضربته على كتفته سترى فتات قصيدتان او ثلاث تنتفضان منه. والقصيدة الوحدة فيها من الاستعارات والخيال والبحر ما يكفي ليسلب انتباهك.
"ها قد أطلقت آخر الطيور غير أنني ما أزال حزيناً شيء ما في هذا القفص الفارغ لم يتحرر."
دائماً نتساءل ما هي الحرية وكيف نتحرر. من النادر أن نتساءل كيف بإمكاننا أن نحرر الآخرين وهل أصلاً من استطاعتنا فعل ذلك ونحن غير أحرار؟ لا اعلم. ولكن اشعر بأن إذا نقلت مشاعري لغوياً بالكلمات المُناسبة والحرارة المناسبة سأحرر نفسي. لذلك؛ كَروس هو المحرر. يحررك من تأتأتك، يحررك من محاولاتك للوصف. حتى وان لم يوفر لك الاجابة لشعورك، سيشرحه وهذا يكفي.
ها قد أطلقت آخر الطيور غير أنني ما أزال حزينا شيء ما في هذا القفص الفارغ لم يتحرر.
_____________________________________
غيابك غيّر خارطة البيت ومهما بحثت عن تلك الزاوية المجنونة من الغرفة لا أجدها. _____________________________________
أردتُ البقاء فذهبت أردت الذهاب فبقيت ليس الذهاب مهماً ولا البقاء بل إنني كنت الذي لم يكن. _____________________________________
وضعوا على قميصي ثلجاً لا يذوب حتى لو استخدمت كلمة كالشمس لا يذوب رجل الثلج داخلي يسمونه هيكلاً عظميا لكنه عمق الشتاء فيّ أبداً. من تسلسل مشاهد الأرض المكررة أطوي البحر وأضعه تحت رأسي أحدّق في الكرتون الأسود المثبّت في السماء ومع شريط جندب الليل أغفو أعيدوا الشريط أعيدوه حتى يصيح الديك اعثر عليّ تحت الخزانة أخاف أن يطعنوني في جانبي أو يطلقوا رصاصة على رأسي ثم يقولون: (حسناً، هكذا كان دورك.) _____________________________________
أن تقفز، لا تحتاج لأجنحة إنما إلى قلب. _____________________________________
بكيس أسود مجعّد فيه ملابس العمل بيدين للعمل شعرٍ للعمل حاجبين للعمل جالسٌ في ساحة الميدان التمثال الحجري الذي لسوء الحظ لديه قلب. _____________________________________
فتيات المدن يفكرن في القرية وفتيات القرى يمتن في أحلام المدينة الرجال الصغار يفكرون في راحة الرجال العظماء والرجال العظماء يموتون في أحلام الرجال الصغار الهادئة أي جسر هذا المكسور وفي أي مكان في العالم ذلك الذي لا يوصل أحداً إلى بيته. _____________________________________
إنني ميت ولا يعرف هذا إلا أنا وأنت أنت الذي، وحيداً، تصبّ لنفسك الشاي في فنجانك. إنني أشدّ تعباً من أن أجلس أذهب للشارع وأصافح أصدقائي كأن شيئاً لم يحدث تدير المفتاح في القفل لن يفتح قلبك إنني أعرف إنني ميت ولا يعرف هذا غيري أنا وأنت إنك لم تقرأ الصحف الأخرى بصوت مرتفع لم تقرأها وهذا الصمت أجنّني حدّ أنني أتمنى أحياناً لو أصير نملة لأبني بيتا في جوف ناي فتأتي الريح بالأنغام لمنزلي أو تأخذني الريح من الرصيف الحجري وتلقي بي على قميصك الأبيض إنني أعرف أنك سترميني مرة أخرى بين هذه السطور بين هذه الأيام ثمة صورة في أحلامي تخيفني صورة حبل معلق في السقف ورجل معلق في الحبل من خلفي وهذا لا يعرفه سواي أنا وأنا خائف من أن أستدير نحوه. _____________________________________
انس المدفع الرشاش الموت وفكر في حكاية النحلة التي وسط حقل الألغام كانت تبحث عن ساق زهرة. _____________________________________
"ها قد أطلقت آخر الطيور غير أنني ما أزال حزينا شيء ما في هذا القفص الفارغ لم يتحرر."
"يجلس أحياناً مع نفسه ويطلق من عقله قذائف ذاكرته
خاض حروباً عديدة لكنّ وحدته لم تكن يوماً خصمه"
"كالنهر الجاف الذي يعبر السدود ولا أحد يعرف إن كان ذاهباً أو عائداً."
انتهيتُ من هذه المجموعة الشعرية القصيرة لگروس عبدالملكيان وشعرتُ بما كتبه مهدي سلمان على الغلاف: "يجعلك تقف مطولاً أمام الشمس بعد أن تقرأه، علّك تجفّف رطوبة عميقة تتركها نصوصه في الروح."
شعر عذب ورقيق وبسيط وهُنا يكمن عمقه إذ تبدو النصوص في حالة من التجاذب بين المتخيّل والموضوع، بين الشارع والحرب، الثلج والرصاص.
مجنون من كلما تحدث رأى جدارًا على جانبه الآخر مجنون من يظل يحفر ليًلا ليخفي تحت السرير فتات الظلام مجنون من يقول سأذهب الآن لكنه غادر بالفعل يقول: سأبقى لكنه باقٍ حقًا.
(هذهِ الأبيات أهديها إلى أبي عبد الحسين الجزائري رحمه الله) غيابك غير خارطة البيت ومهما بحثت عن تلك الزاوية المجنونة من الغرفة لا أجدها أشعر أن ممن ليس موجودًا قد ظفر بالموجود وصرعه
تقع الأحجار في الحب بصعوبة لكنها أبدًا لا تنسى (واسمي مروة الذي يعني الحجارة البيضاء)
"قد يكون الشعر بالنسبة للإنسان السعيد ترفًا ذهنيًا محضاً غيرَ أنه بالنسبة للمحزون وسيلة حياة!"
- *نازك الملائكة* .
هو الشعر الذي كان جسراً متصلاً يصل بينا و بين هذا الجمال الفارسي للشاعر #كروس_عبدالملكيان . النصوص الشعرية هنا .. لم تفقد الترجمة من جمالها و عذوبتها .. تقرأ و لا تكتفي و تعاود القراءة مرة تلو الآخر و لا ترتوي .
"أو لأقل لك: أعِد هذا الفيلم إلى الوراء قليلًا إلى أن يصبح معطف الجلد في واجهة المحل نمرًا.. يركضُ في السهول البعيدة وتعود العكاكيز إلى الغابة.. سيرًا على الأقدام. والطيور تعود ثانيةً إلى الأرض.. كلّا! أعدهُ إلى الوراء أكثر دعْ الله يغسل يديه مرّةً آخرى وينظر في المرآة لعلّه يقرر شيئًا أخر."..
اللغة الشعرية المستخدمة بديعة، لكن هذا الديوان يتخلله الكثير من القصائد المبهمة والملغَّزة بشكل مُفرط. أحب الشعر المتوازن، فلا يكون مُلغزًا إلى حد الغموض التام، ولا واضحًا وصريحًا.
هناك بعض القصائد الجميلة، لم أندم على قراءته ولكنه خيَّب توقعاتي.