هذا كتاب جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام الذين نزل القرآن بألسنتهم واشتقت العربية من ألفاظهم واتخذت الشواهد في معاني القرآن وغريب الحديث من أشعارهم وأسندت الحكمة والآداب إليهم. ولما كان الشعر أعظم ما تنافست فيه العرب وتسامت به أشرافهم إلى أرفع الرتب تسابقت في ميادينه ألباب العقول، فحفظوا دواوينه وملأوا به الأصقاع، وكان أعظم هؤلاء بديع الأدب ممن يصول أمام اللغة والصرف وبليغ البيان والظرف "أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي" المتوفى سنة 170هـ، فألف كتابه هذا الذي نضعه بين يدي كل مهتم وكل قارئ أحب أن يتزود من هذا المنهل العذب، الرفيع القيمة، عالي النسب الذي جمع فيه المنتقيات من أشعار العرب وقصائدها والفائق من فوائدها.
لأجل ذلك، ومن منطلق العناية بهذا السِفر النادر وخوفاً من ضياعه، بعد أن سقمت نسخه القديمة، دأب الأستاذ "محمد بيك الحسيني" إلى إكمال ما كان قد بدأ به الأستاذ "سعيد أفندي أنطوان عمون" أحد موظفي ديوان المالية بالديار المصرية في عهد الخديوي "عباس باشا حلمي الثاني" فأشرف الحسيني بعد ذلك على طباعته وتنقيحه وكان انتهاء طبعه في أواخر صفر عام أحد عشر بعد ثلاثمائة وألف من هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
تأتي أهمية هذا الكتاب من أن واضعه أخذ من فحول الشعراء الأصل النفيسي من أشعارهم، مع ذكر ما جاءت به الأخبار المنقولة والأشعار المحفوظة عنهم وما وافق القرآن من ألفاظهم وما روي من بعدهم وما وصف به كل واحد منهم وأول من قال الشعر وما حُفظ عن الجن. أما الشيء اللافت في هذا الكتاب أن ما في القرآن الكريم مثل ما كان في كلام العرب من اللفظ المختلف ومجاز المعاني، فمن ذلك نجد قول امرئ القيس بن حجر الكندي: "قفا فاسألا الأطلال عن أم مالك/وهل تخبر الأطلال غير التهالك" فقد علم أن الأطلال لا تجيب إذا سئلت وإنما معناه قفا فاسألا أهل الأطلال وقال الله تعالى (وأسأل القرية التي كنا فيها) يعني أهل القرية.
رتب أبو زيد القرشي في هذا الكتاب عيون الشعر العربي كما يراها , مبتدئاً من المعلّقات منتهياً بالمنتقيات, على سبعة أجزاء كلّ منها تضمّ سبعة شعراء , مدوّناً لكلّ منهم أفضل قصيدة له, فهي تسع وأربعون قصيدة. في مقدمته يتكلّم عن علاقة الشعر بالقرآن, وأن لغة القرآن كانت من جنس كلام العرب,قد يحيل هذا إلى جدل كان في عصره فيمن يحاول اللمز بعربية القرآن , حتى كان هذا المبحث ممكناً و بحاجة للإثبات, المبحث الذي لم يخترعه أبو زيد القرشي طبعاً , بل هو مثبت ومتردّد في كتب التفاسير واللغة. ويتكلّم عن علاقة الشعر بالجنّ , و الشعر بالنبي , ثم الشعر بالصحابة ,ليس فيما قالوه من شعر فقط, و إنما في مفاضلاتهم بين الشعراء. التحقيق في النسخة التي لدي ( دار الكتب العلمية )سيء و ضعيف ومحدود الجهد والمصادر, ولا علم لي بالنسخ الأخرى التي أرجو أن تكون أفضل.
تسع واربعون قصيدة من عيون الشعر العربي، تقرأها تعيش بها تبحث عن معانيها تًذهل من سعة خيالها وروعة وصفها, شعر في الوصف والحماس والفخر في الرثاء والشجاعة. لن تجد مثيلاً لها في اي شعر او لغة، احيانا كنت اقف اما البيت مرة ومرتين وثلاثة حتى اجلو ما غمض من كلماته، وخلال قراءتي لهذا الكتاب ادركت كم هي ضحلة معرفتي باللغة العربية، وصدق ابن العباس حين قال: من اراد ان يفهم القرآن فعليه بشعر العرب فهو لسانهم والمعبر عنهم.
عن المرءِ لا تَسألْ وسَلْ عن قَرينهِ فكلُّ قرينٍ بالمقارنِ مُقتدِ
ومنتقية عروة بن الورد،
فيَوْمًا على نجدٍ وغاراتِ وأَهلِهِا ويوماً بأرضٍ ذاتِ شَثٍ وعرعَرِ فذلكَ إن يلقَ المنيةَ يلقها حميداً وإن يَستغنِ يومًا فأجدِرِ
ومُذهبة حسان بن ثابت،
لَعَمْرُ أَبِيكَ الخَيْرِ حَقّاً لَمَا نَبا عَلَيَّ لِسَاني في الخُطُوبِ ولا يَدِي لِسَاني وسَيْفي صَارِمَانِ كِلاَهُمَا وَيَبْلُغُ، ما لاَ يَبْلُغُ السّيفُ، مِذْوَدِي وإنْ نَالَني مالٌ كَثيرٌ أَجُدْ بِهِ وَإنْ يُهْتَصَرْ عَودي على الجُهْدِ يَجْمُدِ فلا المالُ يُنْسِيني حَيَائي وَلاَ وَاقِعاتُ الدّهرِ يَفْلُلْنَ مِبْردي
ومرثية مالك بن الرَّيب،
أَلاَ لَيْتَ شِعري هَلْ أبيتَنّ ليلةً بجَنبِ الغَضَا، أُزجي القِلاص النّواجِيا فَلَيتَ الغَضَا لم يقطَعِ الركبُ عَرضَهُ وليتَ الغَضَا مَاشىَ الركابَ لَياليِا لقد كان في أهل الغضا، لو دنا الغضا مزارٌ، ولكنّ الغضا ليْسَ دانيا
ومَشوبَة القُطَامي،
كانت مَنَازِلَ مِنّا قد نَحُلّ بها حتى تغيّر دَهرٌ خائنٌ، خَبِلُ لَيسَ الجديدُ به تَبقَى بَشاشَتُه إلاّ قليلاً، ولا ذو خُلّةٍ يَصِلُ والعَيشُن لا عَيشَ إلا ما تَقَرُّ بِهِ عينٌ، ولا حالةٌ إلاّ سَتَنْتَقِلُ والنّاسُ، من يَلْقَ خيراً قائلونَ لَهُ ما يشتهي، ولأمِّ المُخطىءِ الهَبَلُ قَدْ يُدْرِكُ المتأنّي بعضَ حاجتِهِ وقد يكونُ معَ المُسْتعجِلِ الزَّلَلُ
ومُلحَمَة الكُمَيت،
رأيْتُ عذابَ الماءِ إن حِيلَ دونَهُ كفاكَ لما لا بُدَّ منه شَريبُها
إحدى عيون الشعر العربي في مهده الأول وريعان شبابه، وتحري أفضل قصائد من ألوان الشعر المختلفة ( المعلقات - المجمهرات - المنتقيات - المذهبات - المراثي - المشوبات - الملحميات) أضفى عليه جمالًا فريدًا ورونقًا حالمًا عذبًا، فحسم الحيرة في أشعر الشعراء
وحديثه عن علاقة القرآن بالشعر هو مبحثٌ فريد وكذا الشعراء وشياطينهم والجن الذي يأتي إليهم، والإبحار لمعرفة من قال الشعر أولًا وصفات الشعراء وتراجمهم وأخبارهم، فهو مصداق لقوة اللغة العربية وعذوبتها وعزّتها المخبوءة فلا يكاد يظفر بها إلا من بذل نفسَه في معرفتها والاطلاع على شؤونها.
تحب الشعر , تعيش بالشعر , تسكر بالشعر ..... تقفز كل هذه المشاعر المرهفة تتخلص قي قصيدة من قصائد أمروء القيس أو طرفة بن العبد.... كتاب يقسم الشعراء من حيث الشاعرية والقدم.....
تعجبني فكرة تصنيف المبدعين إلى طبقات، فضلًا عن ترتيبهم فرادى؛ لما يحمله الإبداع من فرص غير منتهية للتنوع. وقد سبق القرشيُّ الجمحيَّ في هذا. لكن الترتيب غير مفهوم، ولم يبرره القرشي، وأرى أن بعض القصائد والشعراء مظلومون بعدم تواجدهم في "سباعيات" القرشي، مثل: المثقّب العبدي ونونيته الشهيرة "أفاطم قبل بينك متّعيني"، وعلقمة الفحل وما ورد عن سجاله مع امرئ القيس، والشنفرى بلاميته وتائيته. لكنها من المحاولات الأولى في هذا المجال، التي لن تخلو بالضرورة من عيوب يتلقفها مبدعو العصور التالية ويطوّرون عليها.