كتابٌ فلسفيٌّ استهلَّه الكاتبُ بمقولةٍ تضعُ القارئ في محلِّ تساؤل عن طبيعة هذه الكتابة: «لا يمكننا التفكير في المتعدِّد من غير إقامة جسور بين الاختلافات، من غير أن نؤكِّد الاختلافات في علائقها المُتبادلة». الكتاب الجديد هو الإصدار الثاني للكاتب عن المتوسط بعد "لا أملك إلَّا المسافات التي تُبعدني" بداية 2020.
في مقدِّمة الكتاب، يمضي عبد السلام بنعبد العالي، في تفكيكِ عبارة العنوان التي هي اقتباس عن كيليطو، الذي اقتبسها بدوره عن مونتيني، وذكَرهُ ضمن محاضرة تحدَّث فيها عن مساره وطريقته في الكتابة.
ويضيف: في كتابه عن نفسه Barthes par Barthes، يربط رولان بارت الكتابة المتقطِّعة بأمرَيْن اثنَيْن: الموسيقى، وموسيقى فيبرن على الخصوص، ثمَّ رياضة الكاتش، يُقرِّب بارت التكثيف في الكتابة المتقطِّعة من التكثيف الموسيقي، ليُبيِّن أن الكتابة المتقطِّعة تضبطها موسيقى مغايرة، وأن كثافتها أقرب إلى التكثيف الموسيقي الذي «يضع «النغمة محل "الاسترسال"... فيُومِئ إلى وجهة، كما يتجلَّى هذا في المقطوعات الموجزة لفيبرن: غياب للإيقاع، جلال ومهارة في سرعة التَّخلُّص».
هذا عن علاقة الكتابة المتقطِّعة بالموسيقى، فما علاقتها برياضة الكاتش؟ نعلم أن صاحب أسطوريات كان قد سَبَقَ له أن عقد مقارنة مطوَّلة بين مباراة الكاتش ومباراة الملاكمة، فاستنتج أن الأخيرة عبارة عن حكاية تُبنَى تحت مراقبة أعين المشاهد. أمَّا في الكاتش، فالمعنى يُستمَدُّ من اللحظة، وليس من الدوام والاستمرار. المُشاهِدُ هنا لا يَشغَل بَالَهُ بعملية تكوُّن ونشأة، وإنما يترقَّب الصورة اللَّحظيَّة لتجلِّي بعض الانفعالات. يستدعي الكاتش، إذنْ، قراءة فورية لمعانٍ تتراكم دونما حاجة لرَبْطها فيما بينها، فلا يهمُّ المُشاهدَ هنا مآل المعركة الذي يمكن للعقل أن يتتبَّعه. أمَّا مباراة الملاكمة، فهي تستدعي معرفة بالمآل، وتبيُّناً للغايات والمرامي، وتنبُّؤاً بالمستقبل. بعبارة أخرى، فإن الكاتش حصيلة مَشَاهد لا يُشكِّل أيٌّ منها دالَّة، تتوقَّف على غيرها من المتغيِّرات: فكلُّ لحظة تتطلَّب إحاطة كُلِّيَّة وانفعالاً ينبثق في انعزاله وتفرُّده من غير أن يمتدَّ، ليُتوِّج مآلاً بأكمله. «في الكاتش تُدرَك اللحظةُ، وليس الدَّيمومةَ». إنه مشهدٌ مَبنيٌّ على الانفصال والتَّقطُّع. وتقطُّعه و«عدم انسجامه يحلُّ محلَّ النظام الذي يُشوِّه الأشكال».
مباراة الملاكمة حكاية تروي حركة موصولة، تصدر عن أصل، لتمتدَّ في الزمان، كي تسير نحو غاية، أمَّا مباراة الكاتش، فإن دلالاتها تقف عند اللَّحظيِّ الذي لا يتَّخذ معناه من غاية الحركة ومسعاها، ولا تتوقَّف دلالته على كُلِّيَّة خارجية. لا يعني هذا مطلقاً أن الأمر يقتصر على المقابلة بين الزَّمانيِّ واللَّحظيِّ، بين الحركة والتَّوقُّف، بين التاريخ ونَفْيه، بقَدْر ما يعني تمييزاً بين تاريخ وتاريخ: فـ «تاريخ» مباراة الملاكمة تاريخ توليدي تكويني génétique، لا يُدرِك المُشاهِدُ معناه إلَّا إنْ هو بَنَى Construire حكاية تربط الأصل بالغاية، كي ترى في اللحظة، ليس معنى في ذاته، بل حلقة في سلسلة مترابطة، يتوالد فيها المعنى، ولا يكتمل إلَّا عند معرفة المآل. لذا يُعلِّق بارت: «في الملاكمة تقع المراهنة على نتيجة المعركة». أي أن الأمور تكون في الملاكمة بخواتمها، أمَّا في الكاتش، «فلا معنى للمراهنة على النتيجة» لسبب أساس، وهو أن المعنى لا يمثُل في حركة الأصل، ولا يَنتظِرُ المآلَ، وإنما يتجسَّد في غِنَى اللحظة. بيد أن هذا لا ينفي التراكم، ولا يستبعد التاريخ. لكنه ليس التاريخ التَّاريخانيَّ، وهو ليس حركة حاضر ينطلق من أصل لينموَ في اتِّصال وتأثير وتأثُّر حتَّى يبلغ النهاية والغاية والمعنى sens. ليس التاريخ هنا سريانَ المعنى ونُمُوَّه وتطوُّرَه développement في مسلسل مستمرٍّ و«سيرورة» processus متواصلة، وإنما هو إعادة اعتبار لكثافة اللحظة، لكي تحتفظ بثرائها، من غير أن تذوب في الديمومة القاهرة.
لم أتوقَّف طويلاً عند هذه المقارنة يقول بنعبد العالي، كي أستنتج أن الجاحظ أقرب إلى الكاتش منه إلى الملاكمة، وإنما لأتبيَّن معكم أنه لا يكفينا تحديد طبيعة الكتابة «بالقَفْز والوَثْب» بِرَدِّها إلى حالة نفسية، وتفسيرها بمَلَل القارئ أو حتَّى مَلَل الكاتب، لا يكفينا التأويل السّيكلوجيّ، وإنما لا بدَّ من التأويل "الشِّعْرِيّ" الذي يُمكِّننا من أن نذهب حتَّى القول إنه مَلَل الكتابة ذاتها.
نقرأ على ظهر الكتاب مقولة لمارتن هايدغر، جاء فيها: «مادام هذا الكتاب باقياً أمامنا من غير أن يُقرأ، فإنه يكون تجميعا لمقالات ومحاضرات. أما بالنسبة لمن يقرؤه، فإن بإمكانه أن يغدو كتاباً جامعاً، أي احتضاناً واستجماعاً لا يكون في حاجة لأن ينشغل بتشتت الأجزاء وانفصالها عن بعضها.. إن كان المؤلف محظوظاً، فإنه سيقع على قارئ يُعمل الفكر فيما لم يُفكر فيه بعد».
لا تستهدف الكتابة «بالقَفْز والوَثْب»، إذنْ، خلاصة خطاب، و«زبدة» فكر، وعلى رغم ذلك، فهي ليست نظرة «خاطفة»، ولا هي توقُّف وعدم حراك. إنها «حاضر» متحرِّك، حتَّى لا نقول هارباً. فهي تُومِئ إلى وجهة، من غير أن تدلَّ على طريق.
كاتب ومفكر مغربي حاصل على الدكتوراه في الفلسفة، وهو أستاذ جامعي بجامعة محمد الخامس بالرباط، له كثير من المقالات والدراسات العلمية، وقد نشرت له مجموعة من الكتب من بينها: (الفلسفة السياسية عند الفارابي). (الميتافيزيقا، العلم والأيديولوجيا) (أسس الفكر الفلسفي المعاصر) (ثقافة العين و ثقافة الأذن). (ميتولوجيا الواقع). (الفكر في عصر التقنية) (بين الاتصال والانفصال). (منطق الخلل).
من موضوع لآخر يقفز بنا المفكر عبدالسلام بنعبدالعالي في جو من الرؤى والمفاهيم الفكرية الفلسفية بقشورها التي تشغل الفكر المعاصر. مقدماً مقاربات الفلسفة لهذه الإشكاليات، التي لها منطقها الخاص ولها منهجها الخاص. كما يتطرق لوضع الفلسفة اليوم ومآلاتها، كيف السبيل لاستيعابها، ومستقبلها في العالم العربي. ودورها في صناعة العقل والفكر في عصر التكنو علم. وأثرها على التطور البشري في تقدمه وانحداره. كما قدم بالدرس بعض النماذج عن نتاجهم واتجاهاتهم الفكرية، منهم :عبدالفتاح كيليطو ، و عبدالله العروي، ورولان بارت.
كما تطرق إلى الترجمة ودورها في تجسير الهوة بين لغتين أو ثقافتين، بتعددها اللساني والهوياتي. وكحَجر معرفة الآخر! ومواضيع أخرى تعنى باليومي والمعاش وأثره على حياة الفرد الاجتماعي وإدراكه الحسي بصفته الكائن الحشد؛ كجائحة كورونا من منظور الفلسفة؛ لاسيّما ما ارتبط منها بالإنسان، والكينونة، والعلاقة، والهويّة. وكذلك الكمامات؛ بين (التفاعل/ و الحجب/ و" الخلود إلى الوحدة.") أو ك" تجربة تربكُ صور الوجْه وتَستفزّ الهويِة." على حد قول الباحث في الفلسفة المعاصرة حسَن الوفَا.
خمس نجوم مستحقة، عشان في أسئلة كتيرة كانت بتشغل بالي، لقيتها مشروحة بمنتهى البساطة! في كام سؤال مقلق بيحوم حوالين الأدب والكتابة، كانوا دايمًا شاغلين بالي، ومن الإجابات هنا بسلاسة، عرفت إن في ناس بتفكّر زيّ، وده إللي خلاني أحب الكتاب ده جدا! وده زائد إنه عرّنفي بصورة جميلة على كيليطو، وإللي هبدأ أدوّر على كل أعماله. المتوسط دار استثنائية، عمرها ما خذلتني، فشكرًا للجمال ده، وشكرا لكتابة عبد السّلام بنعبد العالي.
مجموعةٌ من المقالات، وهذا دأب المؤلف في غالب كتبه التي أعرفها. أقرؤها بحثًا عن أفكار يقتبسها أو يؤسس عليها مقالاته. وقلّما تجد في هذا الكتاب مقالاً بلا فكرة جيدة، تصلح لأن تؤخذ أو تُنقد.
هذه المقالات، على الرغم من قصرها، تضيء جوانب كثيرة غير ملتفت لها، خاصة فيما يتعلق بالفلسفة كحقل معرفي. محاولة إحياء الفلسفة في العالم العربي على طريقة عصور التنوير، واختزالها في المسار الغربي ابتداء من سقراط إلى رسل هي محاولة بائسة وتعيق مفهوم الفلسفة في أساسه. يقول بنعبد العالي -وأنا أتفق معه- بأن حضور الفلسفة اليوم وبالذات في الثقافات التي أنتجت "الفلسفة" مثل ألمانيا وفرنسا، هو حضور في هامش الحقول المعرفية الأخرى كالأدب والسينما واللسانيات وغيرها. الحجية هنا ليست في ما يقوم به الغرب، وإنما هذه الممارسة الفلسفية هي الأقرب لواقع الانسان واهتماماته الصادقة والأجدى في الإجابة على تساؤلاته
ربما مأخذي على كتابات الاستاذ عبد السلام وانا أراه اكبر من ذلك ، استنادها على فكر الاخر .. ادرك ان في الامر مجهود وبحث، تجميع ، ترتيب واسقاطات شخصية تظهر من خلالها طبعا شخصه وفكره .. إنه مأخد اجده عند غيره دون ذكر أسماء ..
من يفعل ذلك يرأبي يقع في فخ التكرار ، اذ يكفي ان اقرأ لفلان كتاب واحد فكأنك اطلعت على معظم كتبه !
رغم ذلك كتاب مهم ، مقالات يمكن العودة اليها في أي وقت
#الترجمة عبور وحركة انتقال، لاتنفك بين أصل ونسخة. انها لا ترمي الى ان تجر الى شفة اخرى، لاتريد أن تجر لغة نحو اخرى، وانما تسعى لان تقيم جسرًا وتخلق لغة ثالثة، تلاقي بين لغتين، بين نصين وثقافتين وموطنين
عندما ذكر كيليطو سياق "الكتابة بالقفز والوثب" التي اقتبسها بدوره من مونطيني كان يضعها في مقاربة لأسلوب الجاحظ في الكتابة من وجهة نظره ومن هنا تكتسب تلك المقاربة ثقلا معتبرا أما ما يستدعيه الكاتب في كتابه هذا بأنه يكتب بالمثل- "بالقفز والوثب" - لهو مثارة للسخرية أكثر منه مغزا عميقا فالكتابة بمواضيع مختلفة في شذرات بالتأكيد ليس هذا ما كان الجاحظ يكتب به في خلدان كيليطو، هذا بعيدا عما داخل هذة الصفحات وإن كان له عنوان آخر لكان أفضل ف بالتأكيد كيليطو يريد لمقاربة الجاحظ تلك أن تعرف بعضا من الخلود
ليس المهم أن نتعلم الفلسفة.. لكن المهم أن نتعلم كيف نتفلسف) كما يقول كانط الفلسفة ليست معرفة أي ليست علما معرفيا قائما بذاته. ليس المهم أن تدرس الفلسفة في الجامعات العربية والمدارس الآن... المهم حسب وجهة نظر الكاتب أن تتسرب الفلسفة إلى العلوم الأخرى الفلسفة مهمشة الآن في العالم الغربي المعاصر حتى أن أشهر الفلاسفة المعاصرين لا يطلقون على أنفسهم لقب فيلسوف أهم فلاسفة فرنسا ميشيل فوكو مثلا يعرف نفسه على أنه مؤرخ أخذا بنصيحة أو رأي مؤلف الكتاب في أن القارئ هو من يشارك صنع الكتاب مع الكاتب وأنه يمشي معه في الطريق الفكري ويفكر معه.... تطبيقا لذلك اعتبر هذا الكتاب مهما جدا لأنه أجاب عن سؤال قديم بالنسبة لي وجعلني اكون رأيا استأنس به لا داعي للسعي وراء موضة الفلسفة في عالمنا العربي فهي موضة قديمة بمفهومها التقليدي وأصبحت مهمشة في العالم كله ... الفلسفة إذا هي التفكير النقدي وممارسة هذا العلم وهذه الطريقة في كل أصناف المعرفة. الفلسفة هي التفكير العلمي المنهجي الصحيح فتصبح الفلسفة موجودة في علوم الأدب والتاريخ بل في الفيزياء والكيمياء والطب أهم درس فهمته من الكتاب. الكتاب الذي فيه الكثير من الأفكار الذكية العميقة التي تجعلنا نقاوم سلطة حاضرنا من سطوة الإعلام والسوشيال ميديا وسيطرة مجتمع أو عالم الفرجة وسطوة اللاتفكير وسلطة التلقين وفرض الرؤيا الواحدة الجاهزة المعلبة والتواصل الافتراضي والقطيعة الحقيقية وعدم استيعاب الاختلاف ......
اول قراءة لأعمال عبد السلام التي ألفها بنفسه، قد قرأت سابقاً كتاب موجز تاريخ الظل وكانت بترجمته واحببته. منذ مدة طويلة كنت اود قراءة احد اعماله الشخصية وكنت اتوقع بإن فلسفته ستعجبني وبالفعل اعجبتني كثيراً. أعجبني اختياره لمواضيع المقالات واسلوبه في الطرح، كانت كل المواضيع تصب في فكرة واحدة وهي اهمية الفلسفة في عصرنا الذي يتسم بالسرعة والبلاهة معاً واهمية دورها تحديداً بإنها تأتي كلحظة تأنّي وتفكر.
”مأساة عصرنا، ومأساة البلاهة، لا تكمن اذًا في كونها لافكراً، وإنما في كونها لافكراً يفكر، فهي لم تعد ذلك الجهل الذي قد يُتدارك عن طريق التربية والتكوين، ولا فراغ الفكر الذي قد يملؤه الانفتاح على السؤال، وإنما غدت تقدم نفسها على أنها فكر، بل كل الفكر“
عبدالسلام بنعبد العالي اكتشاف رائع! خصوصًا لمن يود التعرُّف إلى فن كتابة المقال، وما الذي تعنيه الكتابة التي تُعمِل الفكر.
اقتنيت الكتاب من جناح منشورات المتوسط في معرض أبوظبي بعد ما شاهدت بائع الكتب يعرضه على قارئ، وذاك القارئ لم يكترث له، فأصبح الكتاب من نصيبي (أو بالأحرى اختارني.)
- يتنقل بنا عبدالسلام عبر شتى المواضيع التي يمكن للفلسفة ان تعالجها ليوم في عصر وسائط الاتصال ومجتمع الفرجة ، يتنقل بنا بالقفز والوثب ، ف��ن مهمة القارئ الى كورونا الى الترجمة مروراً بالصين الى عبدالله العروي وكيليطو وغيرها من المواضيع - الكتاب يقع في ١٣٢ صفحه ، عبارة عن مقالات فلسفية قصيرة - عبدالسلام يتميز دائما بطرحه للمواضيع من وجهة نظر جديدة وتقديم الموضوع بشكل مكثف ومختصر .. - تتنوع صعوبة المقالات بين السهلة التي يمكن للقارئ العادي فهمها وبين الصعبة التي تحتاج الى اطلاع واسع نوعاً ما ... - الكتاب مفيد وممتع ويستحق القراءة
اقتباسات : واقع اليوم لم يعد يحتاج الى تعرية ، هو من الصلافة بحيث يتبدى لك عارياً متحدياً كاشفاً عن وجهه. وفي هذا المعنى كان كونديرا قد أشار الى حاجة الانسان المعاصر " الى ان يرى نفسه في مرآة الكذب المجمِّلة ، وان يتعرف على نفسه في هذه المرآة برضا مؤثر " من هنا وجدت وسائل الاعلام طريقها الى النفاذ ، فغدت ادوات لتكريس الافكار الجاهزة وتحصين اللافكر وبثه وإشاعته.
خصمُ الفلسفة اليوم هو البلاهات والترهات التي يصنعها "مجتمع الفرجة" ، ويحاول الاعلام بما يمتلكه من قوة جبارة ان يرسخها وينشرها . مأساة عصرنا ، ومأساة البلاهة لاتكمن اذن، في كونها لا فكر، وانما في كونها لافكراً يفكر، فهي لم تعد ذلك الجهل الذي قد يتُدارك عن طريق التربية والتكوين .ولا فراغ الفكر الذي قد يملؤه الانفتاح على السؤال ، وانما غدت تقدم نفسها على انها فكر ، بل كل الفكر ، ومن هنا اكتفاؤها بذاتها وصلابتها وتجذرها ، خصوصاً عندما ستزداد الافكار الجاهزة ذيوعاً مع انتشار وسائط الاعلام وعندما تعمل الصورة في "مجتمع الفرجة" على مخاطبة ملكاتنا جميعها ، واستثمارها في غرس البلاهات.
مقالات قصيرة ذات افكار كبيرة محفزة على إعادة التفكير في شتى مجالات الحياة المعيشية. مقالات تطرح افكار الفلاسفة وتؤسس عليها وليس فيها ما هو مطلق.فهذا اهم ما في الفلسفة
أنْ تقرأَ لعبد السلام بنعبد العالي هو أنْ تفكّر بشكلٍ مختلف في ما اعتدتَ أن تتناوله بشكلٍ عاديّ جدًا، فعلى مفكّر اليوم أن لا يعاودَ استهلاك أفكارٍ سابقة هي لا شكّ صحيحة، لكنّه يجبُ أن يأتيَ بأفكارٍ جديدة تتماشى والزمن الحالي، صحيح أنّ الفكرة لا تموت، لكن طريقة عرضها وتماشيها تختلفُ والراهن. فالمُفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي انطلاقًا من فكرته يوصلُ لنا ما يريد قوله مع استناده إلى وجهات نظر أخرى، والاستناد هُنا يفضي إلى شيءٍ واحدٍ وهو أنّ قراءاته المكثّفة لم تصنعْ منه مفكرًا فحسب، بل علّمتْه كيف يفكّر، وكيف يصوغ تلك الأفكار لينتجَ أفكارَه وآراءه الخاصّة حولها، إذ تشعرُ أنّك تقرأ فكرةً جديدة انطلاقًا من رؤية جديدة. وهذا ما لاحظتُه في كتابيه «الكتابة بالقفز والوثب» و «انتعاشة اللغة »الصادرين عن دار المتوسط(2021/2020) ففي «الكتابة بالقفز والوثب» يتعرّض إلى الكتابة في حدّ ذاتها باعتبارها على حدّ تعبيره :" الكتابة مختبر الفكر". في حين يرى أن مهمّة الكاتب كما يراها هايدغر « أنّ المؤلفَ لا ينقلُ معارفًا يمتلكها، فهو ليس حكيمًا، وإنما هو، كعرافة معبد دلف، يكتفي بأن يومئ ويشير، أن يدلّ ويُحيل وأقصى ما ينشده، إنْ هو وقعَ على القارئ المناسب، هو أن يكون وراء نمو وزيادة توغل الفكر.» كما تطرّق في الكتاب ذاته إلى أمرٍ بالغ الأهمية وهو ما أسماه بمجتمع الفُرجة الذي فقد فيه _على حدّ تعبيره_ أفراده« القدرة على إدراك التجربة الواقعية، أفرادٌ لم يعدْ بإمكانهم أنْ يستشعروا حقيقة العالم الواقعي» وأيضًا القدرة على التمييز، وهذا تحديدًا ما نراه اليوم، أفراد لا يعرفون شيئًا عمّا يدور حولهم، فبإمكانهم استيعاب أيّ فكرة دون محاولة حتى التفكير في مدى صحّتها، مجتمعٌ مستهلك لا مفكر. مغلوبٌ على أمره. يرى عبد السلام بنعبد العالي أنّ المجتمع الآن غلبت عليه ثقافة الصورة التي أصبحتْ تولد معناها من اللا معنى كما وصفها، دون جهدٍ لإعمال الفكر والتفاعل مع ما يطرح بشكل جِدّي، إذ أصبح يعيش نوعًا من «الدوخة الأيدولوجية». في حين يتناول في كتابه الثاني « انتعاشة اللغة» أو ما أسماه كتابات في الترجمة، أهمية الترجمة التي وصفها بأنها أي الترجمة: هي التي تنفخ الحياة في النصوص، وتنقلها من ثقافة إلى أخرى. والنَّصُّ لا يحيا إلَّا لأنه قابل للترجمة، وغير قابل للترجمة، في الوقت ذاته» كما أبرز علاقة الترجمة والفلسفة وهذا ما أشار إليه المفكّر المغربي عبد الفتاح كيليطو في تقديمه للكتاب؛ إذ وصفه بأنه «أوّل دراسة فلسفية أُنجزت عن الترجمة في الثقافة المغربية»، وبالفعل المطّلع عليه يدرك تمامًا أن عبد السلام بنعبد العالي تطرّق إلى أهمية الترجمة من ناحية فلسفية، استطاع من خلالها أن يقول أنّ الترجمة تتجازو كونها تنقل لنا معارف وثقافة الآخر، بل تعيد صياغة مفاهيم فلسفية مهمّة فيما يتعلّق بالهوية والوحدة والتعدّد، كما أنّ الترجمة _برأيه_ هي التي تنهض بوعي الشعوب، وإلّا ستظل قاصرة لا دور لها ، إذ يلمّح إلى كون الشعوب المتحضّرة هي الشعوب التي تعنى بالترجمة كضرورة حياتية مُلحة. إلى هنا أعتقد أنّه طرح سؤالٌا فيما يبدو خطيرًا، هل الشعوب العربية نجحتْ في الارتقاء بالترجمة، التي دائمًا يقترن إزدهارها بتطور الشعوب المتحضرة؟ كنتُ سأطلق على عبد السلام بنعبد العالي امبرتو إكو العرب، لكنني تراجعت، قلت لِمَ كلّ شيء جيد ننسبه إلى الغرب؟ أليس من الصحي أن نسمّي الأسماء بمسمياتها ونعطي لكل ذي حق حقه، ففي هذين الكتابين تحديدًا، نرى أن عبد السلام يصوغ مفاهيمه هو في شتى المواضيع من زاوية نظره ورؤيته لها، خاصة فيما يتعلّق بالترجمة، الفلسفة وعلاقاتها بالمجتمع والفرد، كما تطرّق إلى الإنسان الآن؛ الذي يراه: «لم يعد يقوى على تحدّي الافتراضي واستعادة الواقع» وفقد أيضًا «القدرة على الخلود إلى الوحدة»، أي أنّ الإنسان هذه الأيام فقدَ الكثير من الأشياء التي يجبُ عليه تداركها ليستعيد إنسانيته، في هذا العالم الذي تطور فيه العلم بشكل كبير، عالم توحش الذكاء الاصطناعي واكتساح التكنولوجيا لحياة البشر بشكل يدعو إلى الخوف والحذر في الوقت ذاته من المستقبل. بين انتعاشة اللغة والكتابة بالقفز والوثب نحن أمام مفكر، ومنظّر من طراز خاص اسمه عبد السلام بنعبد العالي استطاع أن يزاوج بين الترجمة والفلسفة بطريقة تجعل القارئ لا يستفيد فقط، بل يستمتع أيضاً، كون الطريقة التي يشرح بها أفكاره قريبة جداً من المتلقي، وهنا برأيي تبرز قوته في صناعة الفكرة، وفي صياغتها، وطرحها على نحو بسيط للباحث وللقارئ العادي، وقطعٌا أن تكون قريبًا بكتاباتك من الجميع، أمرًا ليس بالسهل ولا بالمتاح. كما أن القارئ لكتابيه(انتعاشة اللغة، الكتابة بالقفز والوثب) يدرك أنه أمام قارئ موسوعي، استفاد مما قرأه دون أن يعيد اجترار تلك القراءات، وهذا ما يميز كتاباته عن الباقي من وجهة نظري. أعتبرُ عبد السلام بنعبد العالي من أفضل مَن قرأتُ لهم في هذا الزمن الافتراضي الذي تشابَه فيه كل شيء حتى ماعادت اللغة تبهر ولا الأفكار تقول شيء، فهو علامة مضيئة في الفكر العربي والإسلامي الجديد، مفكر وفيلسوف من العيار الثقيل. لا يطرح الأفكار لمجرد الترف الفكري وإنما من أجلِ حل أو وضع أجندة جديدة في العالم الذي نعيشه. سارة سليم