وكم ناديتُ في أيّام سُهْدي أو لياليهِ: "أيا أمي، تعالي فالمسي ساقي واشفيني"
يئنُ الثلج، والغربان تنعب من طوىً فيه، وبين سريري المبتل حتى القاع بالأمطار وقبرك، تهدر الأنهار وتصطخب البحار إلى القرار يخضّها الأعصار.
أما حملت اليك الريح عَبْرَ سكينةِ اللّيْلِ بُكاءَ حفيدتيكِ من الطوى وحفيدكِ الجوعان؟ لقد جعنا وفي صمتٍ حملنا الجوع والحرمان ويهتك سرَّنا الأطفال ينتحبون من وَيْلِ أفي الوطن الذي آواكَ جوع؟ أيُّما أحزان تؤرِّقُ أعينَ الأموات؟
اتسم شعره في الفترة الأولى بالرومانسية وبدا تأثره بجيل علي محمود طه من خلال تشكيل القصيد العمودي وتنويع القافية ومنذ 1947 انساق وراء السياسة وبدا ذلك واضحا في ديوانه أعاصير الذي حافظ فيه السياب على الشكل العمودي وبدأ فيه اهتمامه بقضايا الانسانية وقد تواصل هذا النفس مع مزجه يثقافته الإنجليزية متأثرا بإليوت في أزهار وأساطير وظهرت محاولاته الأولى في الشعر الحر وقد ذهبت فئة من النقاد إلى أن قصيدته "هل كان حبا" هي أول نص في الشكل الجديد للشعر العربي ومازال الجدل قائما حتى الآن في خصوص الريادة بينه وبين نازك الملائكة.وفي أول الخمسينات كرس السياب كل شعره لهذا النمط الجديد واتخذ المطولات الشعرية وسيلة للكتابة فكانت "الأسلحة والأطفال" و"المومس العمياء" و"حفار القبور" وفيها تلتقي القضايا الاجتماعية بالشعر الذاتي. مع بداية الستينات نشر السياب ديوانه "أنشودة المطر" الذي انتزع به الاعتراف نهائيا للشعر الحر من القراء وصار هو الشكل الأكثر ملائمة لشعراء الأجيال الصاعدة وأخذ السيات موقع الريادة بفضل تدفقه الشعري وتمكنه من جميع الأغراض وكذلك للنفس الأسطوري الذي أدخله على الشعر العربي بإيقاظ أساطير بابل واليونان القديمة كما صنع رموزا خاصة بشعره مثل المطر، تموز، عشتار، جيكور قريته التي خلدها. وتخللت سنوات الشهرة صراعات السياب مع المرض ولكن لم تنقص مردوديته الشعرية وبدأت ملامح جديدة تظهر في شعره وتغيرت رموزه من تموز والمطر في "أنشودة المطر" إلى السراب والمراثي في مجموعته "المعبد الغريق" ولاحقا توغل السياب في ذكرياته الخاصة وصار شعره ملتصقا بسيرته الذاتية في "منزل الأقنان" و"شناشيل ابنة الجلبي" . سافر السياب في هذه الفترة الأخيرة من حياته كثيرا للتداوي وكذلك لحضور بعض المؤتمرات الأدبية وكتب في رحلاته هذه بوفرة ربما لاحساسه الدفين باقتراب النهاية. توفي عام 1964م بالمستشفى الأميري في الكويت، عن 38 عام ونقل جثمانه إلى البصرة و دفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير.
هذه ليست قراءتي الأولى لشعر السياب، فقد قرأته من قبل في دواوين متفرقة أبرزها وأهمها بلا شك (أنشودة المطر)، وعبر مجموعة أعماله الكاملة التي طبعتها دار العودة في طبعاتها الشهيرة لأعمال أهم الشعراء العرب المعاصرين. حين قرأت عن صدور الأعمال الشعرية الكاملة للسياب بطبعة جديدة بتحقيق علي محمود خضير وبتقديم أدونيس، انتابني شعور مختلط من البهجة والشك معًا: البهجة لأن من تصدى لهذه الطبعة "المحققة" هو من أخرج لنا، إعدادًا وتقديمًا، الأعمال الكاملة للشاعر الراحل بسام حجار. أما الشك، فبإمكانية إضافة شيء جديد لم يكتشف بعد من أعمال الشاعر الكبير المجهولة. الأمر الأول الذي لا بد من الإشارة إليه والإشادة به هو أن المحقق قد بذل جهدًا كبيرًا في تعقب القصائد في نسخها المطبوعة الأولى وفي الطبعات المختلفة من الدواوين التي آثر السياب أن يدمج بعضها ببعض وأن يتخلى عن عدد كبير من قصائد بعضها، كما أن المحقق بذل جهدًا كبيرًا في المقارنة بينها أو الإشارة إلى أماكن التعديل والحذف والإضافة فيها، وهي مهمة شاقة بلا شك. إن كان هناك من مأخذ لي على عمل المحقق فهو بشكل أساس أنه أباح لنفسه نشر قصائد الشاعر في نسخها الأولى كما نشرها السياب في الصحف والمجلات المختلفة، وليس كما نشرها بصيغها المعدلة في الدواوين والكتب التي نشرها لاحقًا، وكان الأولى أن يبقيها المحقق كما هي وكما ارتضى لها الشاعر أن تظهر، مع الإشارة في الهامش إلى مواضع الحذف والتعديل. أمر آخر مزعج جدًا بالنسبة لي تمثل في كثرة الأخطاء الطباعية والكتابية وعدم الدقة في التشكيل بما يخل بالتركيب النحوي للجمل والإيقاع الموسيقي للعبارات، وهناك أمثلة أكثر من أن تحصى على ذلك، والقارئ المدقق سيعثر عليها بسهولة، وهذا الأمر كان بالإمكان تجنبه وتحاشيه بقدر أكبر وأكثر دقة من المراجعة بالطبع. رجوعًا إلى شعر السياب نفسه، لا بد من الإشارة إلى أمر مهم في تجربة إعادة القراءة هذه بالنسبة لي، وهي أن بدايات السياب وبواكيره لم تكن تشي أبدًا بالتحول الهائل الذي مر به بعد أن تجاوز مرحلة الشعر الرومانسي المغرق في التأوهات والحسرات وملاحقة أطياف الجميلات اللاتي أذهبن لبه وكسرن قلبه، كما تجلى ذلك في دواوينه الأولى أزهار ذابلة وأساطير أو أزهار وأساطير بعد ذلك. ثمة نقلة نوعية فريدة من نوعها على كافة المستويات تجلت في ديوانه الأهم أنشودة المطر الذي كرسه كأحد أهم رواد الشعر الحديث إن لم يكن أهمهم على الإطلاق بالفعل. وهنا سأعترف شخصيًا أنني وجدت مشقة كبيرة في قراءة أعماله الأولى لإغراقها في الرومانسية الفجة على عكس أنشودة المطر، والمعبد الغريق، ومنزل الأقنان، وشناشيل ابنة الجلبي وإقبال. ولا شك أن السياب ليس بدعًا في هذا الأمر فهناك كثير من الشعراء الذين مروا بنقلات فنية كبيرة في مسيرتهم الشعرية ممن لم تكن بواكيرهم تشي بما آل إليه شعرهم من تحول جذري وبالغ الأهمية، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر أمل دنقل ومحمود درويش ومحمد الثبيتي. من جانب آخر، فإن ما نشر بعد رحيل السياب الفاجع وعبوره السريع على هذا الكوكب لا يعكس حقيقة تجربته الشعرية في أطوار نضجها، فأغلبه يعود إلى بداياته التي آثر هو في حياته أن يتجاهلها وينساها، ولست ألوم القارئ إن وجد صعوبة في ضبط ذائقته القرائية لتتكيف مرة أخرى مع الفيض الرومانسي المفرط المتمثل في قصائد البدايات تلك، التي لست أدري إن كان في نبشها من أدراجها المعتمة ونشرها خدمة له أم جناية على شعره الذي خلد اسمه بين شعراء العربية إلى الأبد.
المقدمة إللي كاتبها أدونيس لوحدها بس تاخد 5 نجوم، ما بالك بقى الشّعر نفسه! الحقيقة أنا بدأت واحدة واحدة معاه، كان لازم أمشي معاه من البدايات وأشوف التّطور، وتطور بدر شاكر السياب مرعب! يعني الفرق بين أول قصيدة وتاني قصيدة وتالت قصيدة في أول ديوان خلّاني أقول ده شاعر مختلف فعلا، والكلام عنه مش مجرد كلام مرصوص ومحفوظ وخلاص، ولا مجاملات بين شعراء حقبة زمنية معينة! لازم نعترف إن تجربة بدر تجربة شعرية فريدة، ولازم الناس تقرأ شعر بدر شاكر السياب.
أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعث المطر؟ وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع؟ بلا انتهاء - كالدَّم المراق، كالجياع، كالحبّ، كالأطفال، كالموتى - هو المطر!
وهيهات، إنّ الهوى لن يموت ولكن بعض الهوى يأفلُ كما تأفل الأنجم الساهرات، كما يغرب الناظر المُسبَلُ كما تستجمُّ البحارُ الفساح مليًّا، كما يرقد الجدولُ كنومِ اللظى، كانطواء الجناحِ كما يصمتُ النايُ والشمألُ!
هل تُرى أنتِ في ذكرياتي دفينة أم تُرى أنتِ قبرٌ لها؟ فابعثيها وابعثيني وهيهات! ما للصِّبى من رجوعِ إن ماضيَّ قبري وإني قبرُ ماضيَّ: موتٌ يمدّ الحياة الحزينة؟ أم حياةٌ تمدّ الردى بالدموع؟
حياته بقسوتها ولينها، بما فيها من مرتفعاتٍ وانحدارات، وما اعتراها من ضعف وقوة في قصائد هو رائد رونقها، بعد كلّ قصيدة أنهيها تنفتح في صدري نافذة، يا للجمال الشعري الذي جعلني مزدحمة بالنوافذ التي تطلُّ على المطرِ وهو يتلو أنشودته. أعمال شعرية كاملة بكلِّ ما يعنيه الكمال من سمو