الذاكرة لا تخمد ما دام الراهن يستدعيها. وعندما تمتلئ الذاكرة البعيدة بصور القهر والاضطهاد وعندما تطغى على الذاكرة القريبة الصور ذاتها، مع اختلاف الناس والزمن والجغرافيا، لا يمكن لحاملتها- إن كانت كاتبة -إلا أن تعيد تظهير جميع الصور المتناثرة في ذاكرتها، سواء منها ما عاشته وما عايشته من خلال ذاكرة الآخرين . فالذكريات الأليمة ما لم تُبلسَم بالتسامح تبقى كالجرح غير المندمل تنكأه أبسط الأحداث فيعاود نزّ الآلام. بعمق الروح المتسامحة، غير الغريبة عن هنرييت عبودي التي كانت ترجمت للقارئ العربي رسالة فولتير عن التسامح، تروي لنا الكاتبة بسرد مشوق تاريخ أسرتها السريانية وحكاية مدينة ماردين، وحكاية ديار بك وولايات الاناضول الشرقية ، بل حتى حكاية أهالي مدينة حلب التي فتحت صدرها للمنكوبين. فنتعرف من خلال أحداث الرواية على جانب مهم ومؤثر من تاريخ المجتمع السوري الحديث. وتصور لنا الرواية على لسان أبطالها، وبلغة نابضة بالواقعية، درب الآلام الذي سلكه السريان العرب هرباً من المذابح وحملات التهجير التي تعرضوا لها في الربع الأول من القرن العشرين عندما عصفت بالامبراطورية العثمانية المحتضرة الرياح المجنونة للعصبية الاثنية والطائفية التي ما برحت تضرب بالجنون نفسه في شتى أرجاء منطقتنا وكأنها قدرنا الذي لا تخمد ناره تحت الرماد. "من الظلم أن تكون آلاف مؤلفة من الضحايا البريئة قد قضت في لحظة من لحظات جنون التاريخ من دون أن تجد من يرثيها ويروي فاجعتها"؛ فللحقيقة حقها وللتاريخ حقه، وكذلك لروح التسامح الذي ترى هنرييت عبودي فيه وسيلتنا لمواجهة ذلك القَدَر: لهذا كتبت روايتها مودِّعةً ماردين.
بما أني من سورية ومن مدينة القامشلي تحديداً ومدينة ماردين التركية على الحدود مباشرة وقبالة مدينتنا فقد عشت أحداث الرواية بكل فصل وبكل جزء وقد مرت علي الذكريات الكثيرة التي تناولتها الكاتبة المبدعة والتي سمعتها من أجدادنا عن ماردين ونصيبين وتركيا والمذابح والتهجير والظلم والقهر الراوية ممتعة وشيقة .بالإضافة لذلك فنحن على اختلاط بأهل ماردين كأهل وجيران بعد أن استقروا في سورية ولدينا الكثير من العادات والأكلات المشتركة والمطبخ الميردلي مطبخ عريق جداً ..باختصار الراوية أعادتني لمنطقتني التي غادرتها من 2012 م وذلك للتشابه الكبير بين القامشلي وماردين ..
تقع الرواية في 312 صفحة، تروي فيها هنرييت عبودي مذابحِ الأرمن عام 1915 على أيدي العثمانين. ومع أني لا أومن بالروايات كمصدرٍ للتاريخ، إلّا أن هذهِ الرواية اخذتني إلى تلك الحقبة الزمنية وكوّنت في عقلي تصوراً لها..
وكأنّي ودعتُ ماردين التي لَم أزرها قط، ودعتها مع عائلةِ مسعود، حينَ دقَّ ناقوس الخطرِ فيها وآذنَ الركب بالرحيل.. رِحلة طويلة، ثقيلةٌ على من راحَ يقطعها مشياً على الأقدام، ولكنها ثقيلة على القلوب أكثر. القلوبُ المُثقلة بالذكرى، والتي راحتْ آملةٍ عودة قريبة، تاركةً خلفها بساتين ماردين وثمارها الشهية، وبيوتها الحجريّة، ودارهم الأثريّة؛ تِلك الدار التي لطالما جمعت العائلة، وكانت باحتها الواسعة ملتقى للأهل، الباحة التي فيها عَبَق الريحان، وزينتها أشجار الكباد، وشهِدت على السهرات والأفراح. ثم هاهم يغادرون كل هذا فراراً بحياتهم وأنفسهم إلى حَلب.. ومع أن والدتهم حلبيّة الأصل إلا أن هذا لا يزيحُ عن قلوبهم مرارة الفراق والهجرة.. «ولكن يبقى الذهاب إلى حلب اغتراباً مؤلماً. فقد فطرت على حب الماضي، على الحنين الدائم إليه. وماضيها هو في ماردين» تشتت العائلة بعدَ حلب، منها إلى مصر وبيروت وسنجار، وإلى تشيلي في أمريكا.. تفرّقت العائلة التي جمعتها دارٌ واحدة.. دار الجدّ يونان، ليتشتتوا في بقاع الأرض دون لقاء ودونَ عودةٍ إلى ماردين.
ولهذه الرواية جُزء ثانٍ صدر عن دار مدارك حديثاً بعنوان "الأرض الطيبة" تكمل فيه هنرييت سرد حياة هذه الأسرة بعد أن استقرت في حلب بالتزامن مع الانتداب الفرنسي.