"وجلست تحت قدمي الشيخ الثمانيني، أتأمل الخريطة التي رسمها الزمن على وجهه الشاخص دائمًا إلى السما، كأنه ينتظر الخبر منها. أعتقدت دومًا وأنا طفل صغير، أن أحد ملائكة الفجر قد مدّ يده وخطف النور من عيني الشيخ عبدالصادق عقابًا له على تلصصه عليها، أو غيرة من صوته الذي يطرب أهل الأرض، والسماء؛ حينما يفترش مصطبته شرق الجبانة، ويتلو القرآن صبيحة كل جمعة، وفي الأعياد و مولد النبي وطلعة رجب والنصف من شعبان؛ فتركته حبيس ظلمة أبدية. بعدما أتممت العشرة الخامسة من عمري، أو زيد قليلًا؛ كنت ما زلت أهوى مشاكسة هذا العجوز الذي لا تفارقه الابتسامة. إلا أنني كلما زدت في العمر صاعًا؛ ازداد خجلي منه صاعين.
---------------------- هبة الله أحمد ولدت وتعيش بالإسكندرية. باحثة ماجستير صحة نفسية. فازت في مسابقة نادي القصة بأسيوط 2018 عن قصة "صُحبة". كتبت مقالات في النقد السياسي والاجتماعي الساخر في عدد من المواقع الإخبارية. وتعد مجموعتها "النّوّالة أول إصدار أدبي لها.
سبق أن قرأت هذه الجموعة وناقشتها ومؤلفتها هبة الله أحمد من كتاب السرد الجدد والشباب الذين اهتموا بتوظيف الموروث الشعبي في نتاجهم القصصي تحديداً، التي عملت على الإفادة من الحكايات الشعبية والرؤى الخرافية التي تحملها أطر الحواديت، للتعبير عن أزمات الإنسان الراهن، خاصة من الجانب النفسي. وتستند قصص المجموعة الفائزة بالجائزة المركزية لقصور الثقافة في مصر، إلى توظيف حكايات «التِرسة»، حيوان بحري، يعتقد أن تناول دمائه ساخنة وفي ساعات مبكرة تردّ إلى الجسم نضارته، وتملأ جوانبه، خاصة عند من يعانون نحافة مفرطة. ولأن الغرض ليس التسلية إنما هو تصوير الحالة النفسية عند إقدام الفرد على المكاره من أجل إرضاء المحبوب، ربما جرياً وراء الوهم، بوصف الأحلام أوهاماً في كثير من الأحيان، فالقصص تستدعي بالضرورة «النداهة»، أو «حورية القيالة»، التي تغوي «سعد»، وهو معادل «سعد اليتيم» أيضاً، الحكاية الشهيرة، تغريه بالجمال، فيبدأ بالانجذاب نحوها.
النوالة المجموعة القصصية الأولى للكاتبة هبة الله أحمد والتي تعرفنا فيها على كثير من الموروثات الشعبية التي تميز الطابع المصري، عرضت الكاتبة أفكارها بأسلوب ساحر وأخاذ وبكلمات دافئة وعبقرية تشي بكاتبة متمرسة وليست مجرد كاتبة استهواها القلم ففكرت التجربب، في كل قصة تترك الأدبية مع حالة شعورية مختلفة وتتركك عالقا ما بين الدهشة والحزن وكثير من التأويلات والتساؤلات، أنصح بها بشدة.. وبانتظار جديد الكاتبة المبدعة.
مجموعة قصصية بديعة للكاتبة الشابة هبة الله أحمد .. لغة جيدة سلسة سهلة.. تضع لنا هوامش لكلمات قد لا نعرف معناها ..
تغوص بنا في الحكايات وتدهشنا في نهاياتها الغير متوقعة أحيانًا مثل قصة حورية القيالة أو صحبة، أو توجعنا بمرارة واقعها .. فنجدها تقول في قصة كاسيت رن على لسان رن التي سميت باسم جدتها الراحلة وهي تنظر إلى صورتها: "مددت يدي لأعدل من وضع الإطار المائل، ولم أدر من منا أسقط تلك الدمعة الحارة التي تبلل يدي".
وفي قصة النوالة أجادت هبة العزف بالكلمات فخرجت لنا قصة جميلة لصابرة المرأة التي انجبت بعد الأربعين طفلًا مريضًا فطلقها زوجها وتحملت من أجل صغيرها وجلست تنسج على النول سجادة وهي تغني مع ثومه وتتذكر حكايتها مع بركة ابنها، وكعادة الكاتبة تختم لنا قصتها بدهشة حزينة موجعة..
ونجدها في قصة قرص الرحمة تصف القطار بصورة معبرة على لسان بطل القصة فتجعله مرة كقطار للموت ومرة كقطار للحياة: "في تلك الليلة، صعدت روح جدي إلى السماء، وكان ذلك أول معرفتي بالموت، الذي أصبح كصافرة قطار الصعيد، الذي يخترق الحقول بسرعة مخلفًا وراءه ضجيجًا وأوراقًا جافة متطايرة، ثم سكونًا، فسطوعًا، ورحلة من جديد". "وفي كل عيد كشأن كل سكان القرى، أول من نعايدهم هم أمواتنا، في كل زيارة تزيد قراءة الفاتحة مرة أو أكثر حسب حصيلة من سقط من قطار الحياة".
تهتم الكاتبة بقضايا نسائية شائكة في عدة قصص فنجدها تسخر من زوج إحداهن في قصة مانيكان فتقول: "محاولة الاهتمام بنفسها لتفادي انتقاد جابر الدائم أنها كانت تشبه الغزالة إلا أنها تحولت إلى بقرة حلوب، ونسى أنها تُحلَبُ لأولاده، وأشياء كثيرة أخرى".
القصص جميعها مكثفة لا إطالة فيها ولا ترهل وبالمجموعة الكثير من الموروثات والأهازيج الشعبية والعادات والتقاليد في مدن وقرى مصر تمتعنا بمعرفتها ..
استمتعت للغاية وللمرة الثانية بقراءة المجموعة وأتمنى للكاتبة مزيد من التوفيق والإبداع ..
استلهمت هبة قصصها من نبع التراث الشعبي الذي لا ينضب ابدًا، واستطاعت بتمكن كبير من الأدوات أن تغزل لنا قصصا حيّة تحمل من المشاعر والفلسفة الكثير. عمل رائع.