تختزن مسيرة المقاومة الفلسطينية من الذاكرة والتجارب السياسية والنضالية ما يمكن أن يشكل مخزونًا معرفيًا ومعلوماتيًا يمكن أن يمثّل أحد أكبر روافد الهوية الوطنية الفلسطينية، على الرغم من قساوة تلك التجارب ومن الخيبات التي تعرضت لها والثغر التي وقعت بها في بعض جوانبها. تقدم صفحات هذا الكتاب مذكرات عَلَم من أعلام المقاومة الفلسطينية الذي عايش القضية منذ نكبة عام 1948 حتى اليوم. واكب منير شفيق هذه القضية منذ طفولته قبيل النكبة والتحق في مسيرتها مبكراً، فعايش المحطات التاريخية الكبرى التي مرت بها هذه القضية، والتحولات العربية والإقليمية والدولية التي أثرت فيها، وتعامل معها وفق مقاربات فكرية وأيديولوجية وتنظيمية مختلفة، بل متناقضة أحياناً، لكنه كان يتحكم في تلك الم
هذه ليست مراجعة للكتاب ولكنه اقتباس طويل نسبيا أنقله من الكتاب بنصه لأنى أراه يُلَخّص شخصية وفكر ومحطات السياسي والمناضل والمفكر الفلسطيني منير شفيق.
تحت عنوان "تهمة التقلّب" يقول منير شفيق عن نفسه: "كان هناك من أخذ يتهمني بالتقلُّب مستندا إلى التحولات التي قمت بها من الحزب الشيوعي إلى الناصرية وفتح، فالمرجعية الإسلامية. واليوم دعم الحركات الشبابية التغييرية، ولا يزال آخرون يكررون هذا الاتهام. وغالبا يوجه البعض انتقادات لما يعتبره تقلُّبات على صعيد الفكر والعقيدة. الواقع أن وصف التقلُّب لا ينطبق على ما قمت به، ولا سيما في موضوع الثوابت الفلسطينية والوطنية والقومية والنضالية. بل ربما كان الاتهام بـ "الجمود" و"الثبات" أقرب إلى الواقع حيث لم أغيِّر الموقف من ثابت واحد بعد خروجي من الحزب الشيوعي. فتجربتي مرت بمراحل تاريخية متناقضة ومتقلبة ومتكاملة في آن واحد. وأنا ما بدلت عن فلسطين والثوابت الأخرى تبديلا.
لعل تحوّلي مع تحوّل التيار إلى الخيار الإسلامي كان التهمة التي أثارت موضوعة "التقلب". فالواقع أن تجربتي هنا لم تكن فردية، بل كانت ضمن صيغة جماعية مرتبطة بالحفاظ على المقاومة وتصعيدها. وإذا طُبّقت تلك المعايير في الاتهام، صار من المتوجّب اتهام العشرات بأنهم متقلّبون، ومنهم شخصيات سياسية وفكرية عربية مرموقة، منهم: عادل حسين، وعادل عبدالمهدي، ومحمد عمارة، وطارق البشري، وعبدالوهاب المسيري ولاحقا كل من صحّحوا الموقف بين العروبة والإسلام من قوميين ويساريين وعلمانيين. أقصد أن هذه الظاهرة المتعلقة بالموقف من الإسلام – لم تكن فردية، بل كانت موجة وتيارا جماعيا.
لديّ ثقة كبيرة، وقناعة أكيدة، أن هذه التغيّرات في حياتي لم تكن لأسباب انتهازية أو لأسباب نفعية، ولا كنت مضطرا لها. وفي كل الأحوال، كانت كل التغيّرات التي حدثت، انتقالا من الإمساك بجمر، إلى الإمساك بجمر أشد تلهّبًا. فعندما كان الشيوعي يُعذَّب ويُضطهد ويُحكم بالسجن أعواما طويلة، كنت أنا شيوعيا؛ وعندما أصبح الشيوعيون يساومون الحكومات، وما عادوا يُسجنون، وبردت جمرتهم الأولى وأصبح الاتحاد السوفياتي ذا أنياب ونفوذ عالمي، كنت أنا في طريق خروجي من الشيوعية، وانتقالي – كماركسي – إلى الناصرية، وأنا في السجن عام 1961، بعد الانفصال، أصبح القومي والوحدوي تحت الحصار ومرمى كل رامٍ عربيا وإقليميا ودوليا. ثم انضممت لفتح بعد عام 1967 التي كانت تعتبر إرهابا، والمنتسبون إليها عرضة للقتل والسجن. ولما أرادت فتح الذهاب إلى التسوية، وأن تصير مقبولة من النظام الدولي، وصار هناك من يبحث عن البحبوحة في العيش، ولا سيما بعد اتفاق أوسلو والتحوّل إلى سُلطة، تركتهم وذهبت إلى "الغلابة" الذين استمروا في المقاومة والجهاد، حيث التضحية والإمساك بالجمر من جديد. وحيث تهمة الإرهاب.
وهكذا، فإن كل هذا المسار، لم يكن فيه بحث عن مكسب شخصي، أو أرباح. بل كانت ترتفع فيه أكلاف التضحية الشخصية في كل مرة. وكانت كل "قلبة" حدثت بفارق، مع ما قبلها، يزيد على خمسة عشر عاما أو عشرين عاما في الأقل، بل إن التغيير كان مصحوبا، إلى حد بعيد، بانتقال مراكز النضال من موقع إلى آخر، ومن أيديولوجية إلى أخرى، لأجيال بعد أجيال، أي أنه كان يجب أن يحدث. لقد تركت الحزب الشيوعي لأسباب جوهرية شرحتها سابقا، ولا سيما موقفه من فلسطين والوحدة العربية والاستقلالية، ودخوله في لعبة الوفاق الدولي، بما يؤثر في موقفه من الإمبريالية. وعندما اقتربتُ من الناصرية بين عامي 1965 و1968، بعد خروجي من السجن كان على الناصرية أن تواجه الانفصال والحصار، وأخطر عدوان وأقسى هزيمة عسكرية، ولم أتزحزح حتى اليوم عن الدفاع عنها ضد الذين تجنّوا عليها وأرادوا اقتلاعها من التاريخ التحرري العربي.
انضممتُ إلى فتح بقناعة كاملة بالحركة ومبادئها واسترتيجيتها، إلا أن تغييرا حصل في خطّهم، بدأ منذ عام 1973 أو قبل ذلك، فهل أكون أنا الذي تغيرت بتركهم؟ أنا لم أتغير؛ أنا باقٍ على الأفكار والمنطلقات نفسها، وذهبت إلى تيار داخل فتح يحمل تلك المنطلقات والأفكار. وفقدت كل مواقعي في تلك الحركة.
باختصار عندما خرجت من الحزب الشيوعي، اعتبرت نفسي ماركسيا أكثر من أولئك الذين بقوا في صفوف الحزب. وعندما حصلت الخلافات بيني وبين فتح، بقيت أعتبر نفسي فتحاويا أكثر من الفتحاويين الذين تغيّروا وذهبوا إلى أوسلو والتسوية. وإذا أراد الإسلاميون، لا سمح الله، الذهاب إلى أمريكا، أو الاعتراف بالكيان الصهيوني، أعتبر أنني إسلامي أكثر منهم وأعارضهم.
مساري في الحقيقة بدأ سياسيا، ولكن أخلاقي ومسلكي ومواقفي لم تتغير. ولو قيل لي مرة أخرى أنْ أبدأ حياتي من جديد، وفي الظروف نفسها، فأنا مستعد أن أبدأها شيوعيا، وأمرّ بالتجربة نفسها. لا أندم على أيٍ من مراحل مساري، وأعتبر أنه كان في الاتجاه الصحيح؛ من حيث الجوهر، اتجاه محاربة الاستعمار والإمبريالية والصهيونية، اتجاه العروبة والإسلام وتحرير فلسطين، ووحدة العرب وتحرير الشعوب المضطهدة في العالم، والوقوف إلى جانب الفئات والطبقات الاجتماعية المقهورة، ساعيا إلى العدالة الاجتماعية. وقد تساءل البعض كيف تختار أن تمر على المراحل نفسها بعد أن وصلت إلى المرجعية الإسلامية؟ الجواب أن أبدأ في الخمسينيات بالمرجعية الإسلامية كان يعني أن أخرج من السياسة والعمل ثلاثين عاما. ولكنت هَرمت واعتدت على ذلك عندما حان دور الجهاد الإسلامي في فلسطين ولبنان.
يقول المتنبي: لا أشرَئِبُّ إلى ما لم يَفُتْ طَمَعًا ولا أبيتُ على ما فاتَ حَسرَانَا
كلّما أقرأ في هذا الكتاب أخرج بدروس سياسية وفكرية وحتى نفسية وشخصية كبيرة، وفي ظني، هو كتابٌ مناسب لقراءة ومراجعة جماعية بعده، وتحليل لكل حقبة/تجربة ودروسها. أعطيه نجمتين، لأنه لم يستفض في تفاصيل كان يهمني أن أقرأها، خاصةً سنوات ما بعد إسلام التيار الثوري وتأسيس الأنوية التي خرجت منها جماعة الجهاد الإسلامي. قرأت هذا الكتاب مرتين ونصف إن صحّ التعبير، بالتوازي مع استماعي لقصة حياته على يوتيوب مرتين، مرة مع كاتب هذا الكتاب، ومرةً مع عزام التميمي، ولكن إحداهما حُذفت ولا أجد لها أثرًا على الإنترنت الآن. قرأت فيه عدة مرات منذ 2022 وحتى مطلع 2024.