لا يَعني التأمُّلُ أن نقطعَ علاقتَنا معَ العالَم، بل بالعكس، أنْ نقتربَ منه أكثرَ كي نفهمَه، ونُحبَّه ونُغيِّرَه. إنه أيضًا وسيلةٌ يستطيعُ كلُّ شخصٍ أنْ يستخدمَها كي يزرعَ الهدوءَ داخلَه ويَتذوَّقَ طَعمَ السَّعادة. إنَّ الهدفَ من هذا الكتابِ أنْ يكونَ دليلَ عملٍ للبدءِ بتعلُّمِ التأمُّلِ بالوعيِ الكامل، الذي يُعَدُّ أكثرَ طُرقِ التأمُّلِ سِحرًا، والذي دَرسَتْه وأثبتَتْ فاعليتَه العديدُ مِنَ الدِّراساتِ العِلْميةِ الحديثة. إنَّ هذا النوعَ منَ التأمُّلِ ليسَ مُجردَ طريقةٍ علاجيةٍ أو مُمارَسةٍ يوميةٍ لنشاطٍ ما؛ إنه طريقةٌ للعَيش، تَفتحُ لنا أبوابًا مُؤصدةً وتَقودُنا إلى عَوالمَ لم نكتشفْها من قبل، لكنَّها كانتْ دوْمًا في دَواخلِنا. من خلالِ ٢٥ درسًا يَعرضُها لنا هذا الكِتاب، نستطيعُ التعرُّفَ على الأساسياتِ في هذا النوعِ منَ التأمُّل؛ بَدءًا منَ الركائزِ الأُولى — كيفَ يُمكِنُنا أنْ نستخدِمَ تنفُّسَنا، وجسَدَنا، ووَعْيَنا للَّحظةِ الحاضِرة — حتى الوصولِ إلى حالةِ التأمُّلِ العَميقِ واستخدامِها لمُواجَهةِ المُعاناة، وخلْقِ توازُنٍ في مَشاعرِنا، ومُراكَمةِ السلامِ في الرُّوحِ والقَلب.
يقدم المعالج النفسي كريستوف أندريه (٢٥) درسًا في التأمل بالوعي الكامل، تحت أربعة أجزاء رئيسية، ويرفق مع كل درس لوحة جميلة يتجلى فيها الإبداع وذات دقة عالية، ويصف التأملات المرتبطة بها بطريقة تخدم هدف الدرس، النصائح المذكورة في الكتاب واقعية وسهلة التطبيق وتساعد القارئ على تخطي الصعوبات التي يواجهها في ممارسة التأمل. الكتاب تمت صياغته بأسلوب سلس مترابط يتواصل مع القارئ ويلامسه، وفيه الكثير من الحكم والاقتباسات الرائعة التي تبقى في الذهن، وترجمة الكتاب بواسطة الطبيب النفسي سامح عبد الكريم صالح جيدة جدًا ودقيقة. يمكن الاستماع وتنزيل تمارين التأمل المصاحبة للكتاب، ومُرفق بالكتاب مصادر ومراجع لمن أراد التوسع في القراءة. ويمكنكم استماع وقراءة المزيد في مجال علم النفس والاجتماع في 15 دقيقة على تطبيق أخضر.
" العديد من ردود أفعالنا العاطفية المنفجرة ليست في الواقع استجابة للحظة الحالية. إنها تراكم لكل اللحظات التي كنا فيها في موقف مشابه ولم ندافع فيها عن أنفسنا،ولم نستخدم صوتنا، أو لم نعبّر عن مشاعرنا. " ،..التأمل بوعي يجعلنا في مواجهة مع هذه المشاعر بحيث يتيح لأنفسنا التعامل مع فوضى المشاعر المشتعلة في الذهن، والأمور العالقة التي لم تحسمها. “ التأمُل بالوعي الكامل أقلَّ تكرارًا وأقلَّ عُنفًا. عندما نعي الأفكار المُضنية حين تعود إلى نشاطها تحت تأثير الصَّخَب اليومي، فإن ذلك سيُساعِدنا على عدم الخضوع لها، على الأقل ليس بشكلٍ كامل. نستطيع حينها أن نقوم بخيارٍ حقيقي وهو أن نُصغي إليها، ثم ننتقل إلى شيء آخر. إن هذا الشيء هو أن نتقدَّم وأن تُحاوِل، حتى وهي تهمس لنا بأن ذلك غير مُجدٍ؛ وحتى حين تقول لنا إن ذلك أقوى منًا؛ وحتى حين تصرُخ فينا بأن نتوقَّف عن القيام بهذه المحاولات. من المهم ألا نُنصِت إليها. يُساعِدنا الوعي الكامل على ألا نترك أنفُسنا تحت تأثير التهديد القادم من عُمق ذواتنا. عندما لا نكون على ما يُرام، فإننا بممارسة التأمُل نقوم بوضع خوفِنا وقلقنا في مساحة الوعي الكامل. وأيضًا بالممارسة، عندما لا نكون على ما يُرام ولكن ليس بشكلٍ كبير، فإنَّنا نُواجِه الأمواج الصغيرة كي نستعدً بشكلٍ أفضل للعواصف.”
القلق أو الخوف من المستقبل أو القادم، السقوط في ظلمة الاكتئاب والعجز عن المواصلة والنهوض ليوم آخر، والتفكير الوهمي، جميعها تجعل النفس في اضطراب دائم وترقب، فتضحى البوصلة غير معروفة الوجهة .
"عدم اليقين، والغموض، والشك ... كيف يُمكِننا أن نُطوّر قدرتنا على تحمُّل فقد السيطرة على دواخلنا، أو فقد الوضوح، دون أن تُحاوِل فورًا التعلَّق بما هو منطقي ومُحدَّد؟ كيف نتحمل عدم اليقين؟ إن عدم اليقين مصدر للقلق؛ حتى إنه يُمكِننا أن نقول إنَّ كل حالة قلقٍ قد يكون سببها حالة من عدم اليقين. لهذا السبب يُربِكنا كلِّ من الموت والمستقبل، فهُما دائمًا مجهولان."
منطقة الراحة وصعوبة مغادرتها ، وتداعياتها على ثبات الذات : "فإننا تُحاوِل دائمًا في حياتنا أن نضع حدًا لكلِّ ما هو غير مُؤكِّد؛ بأن نحصل على ضماناتٍ واحتياطات، وأن نقوم بالتحقُّق من كلَّ شيء، رغم كلّ ما يُمكِن أن بسبّبه ذلك من إرهاقٍ لذواتنا من كثرة أشكال الحماية والحواجز التي نضعها في حياتنا. إننا نحرص على مَلء روحنا بكلَّ ما هو مُؤكَّد، دون أن يُطمئتَنا ذلك؛ لأننا نعرف في أعماقنا أنَّ كل ذلك دون جدوى. كل هذه الجهود، كل تلك التعويذات والابتهالات ليست سوى سلوكِ دون هدف؛ لأن الحقيقة هي ما يأتي؛ تُوجد في حياتنا مشكلات لا حلَّ لها، وعلينا أن نقبل بها لكن دون أن نتوقِّف عندها، بل يجب أن نستمرّ بالعيش والشَّير قُدمًا، حاملين هذه المشكلات في حقائبنا. كيف نتحمَّل الشك؟ علينا أن نقبل المرّات التي لا نعرف فيها كيف نُفكِّر أو ماذا نفعل، وأن نعدِل عن هذه الحاجة إلى التعلّق بأحكام أو أفعال ثابتة، أو تبئِّي أفكارٍ غير فعَالة لكنها مُريحة؟ علينا أن نتوقَّف عن أخذ الخيارات، أو اعتبارٍ أن خياراتنا هي دائمًا الخيارات الصحيحة؟ أحيانًا لا يكون أمامنا حلُّ سوى أن نقول لأنفسنا: «لا أعرف، لا أستطيع أن أعرف، لا أستطيع إلا أن أشك ."
التأمل بوعي يعد علاج داعم لأشكال العلاجات النفسية الأخرى ؛ كالتحليل النفسي ، أو العلاج المعرفي السلوكي. ويساعد الفرد إذا أحسن التأمل تخطي الألم، بل كيف يتعامل معه في اللحظة الحاضرة دون أن يشوش أهدافه في اليوم . تحلي الفرد بالمرونة النفسية أهم أهداف التأمل بوعي فهو أحد مفاتيح علاج جميع أمراض الفرد النفسية . وكذا الوصول إلى الرضا و السكينة التي نواجه بها نقص الحياة واضطراباتها. يُساعِدنا التأمُل بالوعي الكامل على أن نلتزم بالنشاطات التي تهمُّنا، ومن ثَم يُساعِدنا على الانفصال عن العبودية لنتائجها.
" عندما تُمارِس تمارين التأمُل بالوعي الكامل بشكلٍ مُتكرَّر، ستُعرّض أنفسنا حينها إلى ذهن لا يفعل إلا ما يحلو له، وإلى مشاعر وأحاسيس تُؤلِمنا. ولكننا عندما نُقرِّر البقاء هنا، رغم كلِّ هذا؛ أن نبقى بالتمرين رغم عدم الراحة والفوضى، فإننا سنملك قُدرة مهمة؛ إنها قدرتنا على نحمل الإحساس بالفوضى وفقد السيطرة. أن نبقى رغم الألم ليس نوعًا من محاولةِ جَلْد الذات، أو حبِّ تعذيبها؛ بل هو فقط أن نقبل إمكانية حدوث ذلك يومًا ما في حياتنا، وأن نكون مُستعِدِّين لذلك ولو قليلًا."
كتاب يدعو للتأمل بنواحي عديدة في حياتنا اليومية والنفسية. وأختم بهذا الاقتباس، في معنى القوة :
نظرية الاستنزاف الذهني (Ego Depletion Theory) التي طرحها عالم النفس Roy Baumeister.
تقول هذه النظرية إن الإرادة ليست صفة، بل طاقة محدودة تُستهلك مع الوقت.
كل مرة نجبر أنفسنا على الصبر، نكتم كلمة، نتحكم بردّة فعل، نتحمّل ضغطًا أو نؤجل رغبة… نستهلك جزءًا من طاقتنا النفسية دون أن نشعر.
وفي النهاية، حين نصل إلى لحظة الانفجار أو الإرهاق، لا يعني أننا ضعفاء، بل أننا استنفدنا ما لدينا من طاقة للمقاومة.
يحدث هذا في العمل حين نحاول أن نبدو متماسكين دائمًا، وفي العلاقات حين نختار الصمت على النقاش حفاظًا على الهدوء.
نظن أننا نمارس ضبط النفس، لكننا في الحقيقة نسحب من رصيد محدود حتى ينفد.
لهذا، لا تحتاج دائماً إلى مزيد من القوة، بل إلى إعادة شحنها: بالراحة، بالعزلة أحيانًا، وبأن تقول “لا” حين تتعب.
فالإرادة لا تنكسر فجأة… إنها تُرهق ببطء. والتوازن لا يعني أن تبقى قويًا طوال الوقت، بل أن تعرف متى تتوقف لتستعيد نفسك.