بيوت مُلْك، وأُخرى مستأجَرة، مساكنُ زائلةٌ ومؤقّتةٌ، تتنقّل بينها الكاتبة عابرةً مدناً سوريّةً مختلفةً، ومحيلةً المنازل إلى محطّاتٍ، أو استراحاتٍ تتيح لها تأمُّل سياق حياتها، وخياراتها، ومنبع رغبتها في البقاء بين الأبواب المغلقة. الطابع الذاتيّ للكتاب يُحيله إلى نوعٍ من الشهادة الشخصيّة، لكنّ نور أبو فرّاج تراهن على أنّ ذكرياتها قد تتقاطع إلى درجةٍ كبيرةٍ مع تجارب شباب وشابّات الطبقة الوسطى من جيل الثمانينيّات في سوريا، الذين عاشوا حياةً مستقرّةً نسبيّاً، قبل أن تأتي الحرب وتُحدِث قطعاً في سياقهم، وتطردهم قسراً من مساحاتهم الآمنة. في وجه الزوّال وعدم اليقين الذي تُحدِثه الحرب، يُمسي الوصف تخليداً للزائل؛ ولهذا يحاول الكتاب تذكير القُرّاء بالوقت الطويل الذي يلزم لبناء بيتٍ، بالمعنى الرمزيّ، أو الإنشائيّ، لكنّه مع ذلك يحذّرهم من أن يمسوا أسْرى للمكان، ويشجّعهم على حمل بيوتهم كتذكاراتٍ، أو أمتعةٍ صغيرةٍ في رحلتهم الطويلة.
أشعر بالمسؤولية لكوني صاحبة التقييم الأول لهذا الكتاب. أعرف أن رأيي لن يكون مهما ولكن مازلت أشعر بالمسؤولية على أي حال.
حين أمسكت الكتاب لتصفحه في ركن دار النشر في معرض الشارقة للكتاب، سألني البائع عما شدني إليه بالذات. أجبته مختصرة؛ أحب الكتب التي تقع أحداثها في زمن حرب، وأرحب دائما بوجهة النظر النسائية لأنني لا أراها في الكتب كثيرا.
وأعتقد فعلا أن الصحفية نور امتلكت وجهة نظر خاصة جدا بالحرب. لم تكن بطلة، ورغم أن الحرب مستها كما مست الملايين، إلا أنها بدت بعيدة عنها في الوقت نفسه.
تستخدم الكاتبة أسلوبا مباشرا وصريحا في سرد ذكرياتها، تتنقل بين الأزمان قليلا ثم تعود للحاضر دائما. تحكي نور عن لقاء والديها، عن جدتها التقليدية، عن أمها الفوضوية قليلا، عن حصص السباحة مع أقربائها، وعن شركاء السكن في فترة الجامعة. رغم أنني توقعت رؤية البؤس في كل زاوية، إلا أن ما وجدته هو حياة شابة اعتيادية قد أرى نفسي فيها أحيانا.
أحببت غياب الذكر الصريح للحرب رغم أنك تشعر به كظل يلازم القصة، إلا أن الحرب لم تكن حدثا واحدا يأتي ليمضي. ولكنه فعل مضارع غارق في الحاضر بكل تفاصيله كما تقول الكاتبة.
ولكل ما سبق أحببت الكتاب واستمتعت بقراءة عاديته جدا!
نور أبو فراج استطاعت أن تعبر عن الكثير من المشاعر التي مررتُ بها عندما كنت أعيش بالشام. الكتاب إدماني بشكل لا يصدق ولم أشعر بالممل للحظة واحدة وانتهيت من قراءته خلال يومين فقط. ويسعدني أن أقول بأنه يستحق الإضافة إلى قائمة "القراءة لعدة مرات"، فهو يطرح أسئلة فلسفية ويتحدث عن تجارب تمنيت لو أختبرها في سنوات حياتي في الشام، لكن خجلي ولربما فقري للشجاعة منعاني من ذلك. كتاب يستحق الخمس نجوم بجدارة، وأتطلع للكتب القادمة بقلم الكاتبة المبدعة.
رغم تصنيف "فيلة صغيرة في بيت كبير" على أنها رواية، لكنها أقرب إلى السيرة الذاتية أو سرد مذكرات شخصية متناثرة في محطات من حياة الكاتبة. لا أقول ذلك سلبًا بالضرورة، لكن التوصيف مهم لأن توقعاتي كانت مختلفة تمامًا.
ما جعلني أبتعد أكثر عن النص هو الأسلوب التقريري في أجزاء كثيرة في بعض الأحيان؟ دون تعمّق شعوري أو بناء درامي يُبقي القارئ مشدودًا. بدا لي وكأن بعض المقاطع مأخوذة من دفتر يوميات أكثر من كونها نصًا أدبيًا متماسكًا.
كما لاحظت محاولات متفرقة لإضفاء نبرة شاعرية على اللغة، لكنها غالبًا ما بدت مُقحمة أو مُصطنعة، ولم تنجح في إضفاء ذلك العمق أو الجمال الذي كانت الكاتبة تطمح إليه.
الكتاب فيه بعض اللحظات الإنسانية الصادقة، وبعض المقاطع التي قد تلامس من عاش تجارب مماثلة في سوريا، لكنّ قريب من نص مبثور
فيلة صغيرة في بيتٍ كبير لنور أبو فرّاج: تصنيفٌ خادع لنصّ جميل
سليم بَطّي الجزيرة
كالسراب الذي يخدع العطشان السائر لأيّام في صحراء قاحلة، تخدع كلمة "رواية" المنقوشة على غلاف نصّ "فيلة صغيرة في بيت كبير" القارئ. وهذه الخدعة لم تقف فقط عند حدود الغلاف الأمامي، بل وزنّرت الغلاف الخلفي أيضًا. قد يتساءل العامّة عن سبب اللغط الدائم بخصوص تصنيف العمل، وما أهمّيّة ذلك إن كان العمل جميلًا؟ ماذا يهمّ القارئ إن كان النصّ رواية أو قصّة قصيرة أو متتالية قصصيّة أو حتّى سيرة ذاتيّة أو غيريّة؟ بالطبع نحتفي كقرّاء ونقّاد بالعمل الجيّد ونشجّع صاحبه، ولكن في نهاية المطاف، للرواية، كما الشعر وكما المسرحيّة، خصائص وميّزات تختلف عن بقية الفنون الأدبيّة، وتقديم عمل على أنّه رواية وهو في الواقع غير ذلك، لا يقلّ خيبة عن شرائك تذكرة لفيلم سينمائي للتفاجئ فور دخولك قاعة العرض بأنّ الفيلم الذي وعدت نفسك برؤيته ليس إلّا مسرحيّة. هل هذا يقلّل دور المسرحيّة على حساب الفيلم؟ بالطبع لا، فللمسرحيّة جمهورها كما السينما، ولكن لماذا خلط الأوراق؟ يقول قائل إنّنا في زمن الحداثة الأدبيّة حيث تتقاطع أجناس الأدب وتضيع المسافات بين الرواية والقصّة والمسرحيّة، وحتّى الشعر، وهذا في الواقع أزمة تدعونا للوقوف عند عتبتها ومساءلة أنفسنا: من قرّر تجريد الأجناس الأدبيّة من لبناتها؟ وما قيمة الأدب إن خلطنا حابله بنابله؟ ومن قال إنّ الإبداع يعني الفوضى وهدم ركائز نقديّة عمرها مئات السنوات؟ بيت نور أبو فرّاج كان جميلًا، لكنّه أغلق نوافذه على عالم الرواية السحري الذي وعدنا به غلاف النصّ: رواية "فيلة صغيرة في بيت كبير"، لتبدأ قراءة العمل مشدوهًا بلغة ورقّة ودقّة لغة الكاتبة في التعبير والوصف عن أزماتها النفسيّة وعلاقتها بذاتها وبالآخر من حولها سواء كان هذا الآخر أفراد أسرتها، مجموعة أصدقاء، البيوت والمدن التي عاشتها وعاشت بها، وحتّى بذاتها المفقودة في بلدٍ يتأرجح فوق سكّة الحرب الصدئة. بفصول قصيرة لم يتعدّ أغلبها الأربع صفحات، كتبت نور قصّتها. وأسمح لنفسي أن أقول قصّتها وفقًا للكثير من المعلومات التي ضخّتنا بها الرواية "إن آمنّا أنّها كذلك"عن بطلة العمل، من سنّها ودراستها واسمها ورغبتها في الكتابة وغيرها من التفاصيل الأخرى التي تركتنا مقيّدين بفكرة أنّ نور تكتب عن نور، ونورٌ من نور. نصّ نور يبدأ من الذات، ويمرّ وينتهي بها، وهنا كانت حتميّة موت أيّة شخصيّة قد تنافس نور في سيرتها المحكيّة عن لسانها. وإن غابت الشخوص عن الرواية فماذا يبقى منها؟ قد نقول تبقى الحبكة، والتي بدورها كانت مفقودة هي الأخرى، فالعمل يبدأ وينتهي من دون خيط رابط للأحداث الشبه مغيّبة، فنور تنتقل من فكرة لأخرى ومن مشهد لآخر كمن يقفز بين جبالٍ عائمة، تهتزّ بعنف مع كلّ قفزة لأنّها لا تقف على أساسٍ صلب. وبالحديث عن الذات، واحدة من أهم سمات الرواية الناجحة أن يكون صوت القصّ منفصلًا عن صوت الكاتب، وهذا ما لم تنجح به الكاتبة. فنور الكاتبة كانت نسخة مطابقة لنور في الكتاب، وهذا ليس أمرًا تعاب عليه الكاتبة لو لم يُبوَّب عملها بـ "رواية". "فيلة صغيرة في بيت كبير" هو أقرب لأدب الشذرات، أو الخواطر التي يعدّها، وأقصد الخواطر، الكثير من النقّاد وأنا منهم ضربًا من الكتابة، لكنّها ليست جنسًا أدبيًّا فنّيًّا تحكمه قواعد لغويّة وبنى معماريّة كتابيّة. أزمة هذا النصّ أنّه يفتقد إلى التحوّل الفنّي الأدبي، ونقول هنا الأدبي لأنّه يشمل الرواية وغيرها من فنون الكتابة كالقصّة وحتّى الشعر في بعض الأحيان. أنت تقرأ النصّ وتفرغ منه من دون تحوّل، صدمة، تقرأ بصوتٍ واحد لا يقابله أيّ صوت آخر، لا مسافات جماليّة. أنت لا تقرأ عن شخصيّة، بل عن الكاتبة نفسها، عن همومها ومشاكلها وصراعاتها الداخليّة النفسيّة وعن المجتمع الذي جزّأها إلى شخصيّتين، رافضة وخانعة، صادقة وكاذبة، قويّة وضعيفة، اجتماعيّة ومنطويّة، لتأتي الحرب وتُكمل هذا الفصام في شخصيّتها المتشظّية. لنذكّر هنا كتّابنا ودور نشرنا بأنّ الرواية هي معمار سردي أدبي له أسس وتقنيات. شخصيّات تتطوّر، أزمنة وأمكنة تتغيّر، حبكات وقصص تنمو، صراعات تتناضح، نهاية قد ترضيك وقد تخيّب آمالك، ونفهم أن تغيب واحدة من هذه الخصائص عن رواية ما، ولكن غيابها جمعاء وإصرار دار النشر أو الكاتب أو كائن من يكون أن يحشر العمل ضمن خانة الرواية قسرًا، فهذا يُسقط العمل مهما كان جماله وعمقه. من الواجب والأمانة أن أذكر أنّ لا غبار على لغة نور في هذا النصّ... والتي هي الأخرى لم تكن روائيّة، لكنّها لغة عميقة في المعنى، دقيقة في الوصف، متأنّية في التعبير، صادقة بمشاعرها، ويكاد يكون النصّ خاليًا من الأخطاء النحويّة والدلاليّة وهذا الأمر بات نادرًا ندرة الألماس في الرواية العربية خلال العقدين الأخيرين. "فيلة صغيرة في بيت كبير" نصّ جميل على صعيد الأفكار المطروحة واللغة السلسة والتقسيم الفنّي الجذّاب للفصول. غلافه أنيق وعنوانه ذكي. في حوار مع الكاتبة نور أبو فرّاج في نادي صنّاع الحرف للقراءة عبر زووم، ذكرت الكاتبة أنّها غير مقتنعة أنّ كتابها هو رواية بالفعل. لكنّ أحدهم قرأ المخطوطة قبل نشرها وقال لها إنّها رواية. هذه الفكرة تثلج الصدر، فعلى أقلّ تقدير نجد من يشاطرنا الرأي بأنّ هذا النصّ ليس رواية. والأجمال أنّ من يشاطرك هذا الرأي هو كاتب العمل نفسه!
ملاحظة: استضفنا وحاورنا الكاتبة في نادي صنّاع الحرف للقراءة عبر زووم
هذا الكتاب هو عبارة عن تمرين للكتابة، مطعّم بأفكار وتأمّلات تتراوح بين الوازنة والعاديّة والفارغة. ولا أرى من داعٍ لدار النّشر أن تسم الكتاب بتسمية "رواية". للأمانة، "سيرة روائيّة" كان ليكون الوسم الأدقّ.
تنجح الكاتبة في رسم عوالمها الداخلية والخارجية، وتخبرنا من البداية عن أسباب كتابتها لهذا الكتاب، ومن بينها رغبتها الدّائمة في الاختباء والتقوقع والتي قد طالت كثيرًا حدّ أنّها أدركت أنّ الوقت حان أخيرًا كي تُنفّس عن تلك الرّغبة، وتُخرجها من دواخلها تمامًا، والطّريقة الأمثل لذلك هي بخروجها هي، ككاتبة، إلينا، نحن القرّاء.
❞ قد تكون رغبة الاختباء في الداخل قد طالت، ولهذا أكتبها، كي تخرج هي منّي، وأخرج أنا مغلقةً الباب خلفي. ❝
وطبعًا كان لا بدّ للكاتبة من ذكر تعليلاتٍ أخرى هنا وهناك عن الأسباب التي لن تجعل القارىء يتعثّر ولو بقنطرة من آثار البناء الروائي الكلاسيكيّ أو حتّى التجريبيّ المعاصر. وبهذا تكون الكاتبة قد أثبتت لنفسها ربّما أنّها ماهرة في التّحذلق ولذا يحقّ لها التّلطّي خلف الغلاف السميك اتّقاءً من خيبة القارىء وامتعاضه.
وبما أنّي كقارىء يهوى التّحذلق هو الآخر، فلن أقول نقدًا أو أشهر امتعاضي، لا. سأستخدم فقط سلاح الكاتبة ذاته لأعلّل تقيي��ي أعلاه. سأستخدم كلماتها هي في كتابها هذا:
❞ مهمّة الكتابة أكثر تحدّياً، فمن الصعب إهدار الأوراق على هذرٍ خالٍ من المعنى. ❝
تعود نور أبو فرّاج إلى بيوتها القديمة، تتنقّل من دفء بيت الجدّة إلى برودة بيت الدراسة، تمرّ على الذكريات، وتسير وتنسلّ خلفها الحكايات، في جوٍّ مليء بالحنين والدفء. هذا العمل يريح القلب، ويحفّز على تذكّر بيوتٍ سكنّاها وأخرى هجرناها، وأناسٍ سكنوا فينا ثم هجرونا. شكراً لنور على هذا الجمال، وعلى الضيافة الحسنة التي قدّمتها لنا في بيوتها من خلال لغتها الرقيقة والواضحة، التي تدعوك وترحّب بك للدخول...
مرحباَ، أنا نور مؤلفة هذا الكتاب. فكرّت بترك تعليقٍ أو توضيح هنا للقراء المُحتملين أو المُستقبليين علّه يصلهم قبل اقتنائه وقراءته. خاصة وأننا قراء الكتب ومحبوها نستمتع بقراءة التعليقات والهوامش التي تركها الآخرون على متن النصوص بحيث يصبح لهوامشنا مع الوقت مساراتٍ خاصة بها.
منذ تاريخ نشر "فيلة صغيرة في بيت كبير" عام 2021 وجّه للكتاب انتقادٌ أساسي ومستمر مرتبط بتصنيفه من حيث النوع الأدبي. غالبية القراء اعترضوا على تصنيفه كعمل روائي في الوقت الذي كان بنظرهم أقرب إلى سيرة ذاتية أو مذكرات أو نصوص ذاتية شخصية. أعتقد اليوم أن اعتراضهم محق تماماً، فالأمر يشبه شراء المرء زجاجة من العصير تحمل لصاقة كُتب عليها "عصير جوّافة" ليتضح أن العصير داخل الزجاجة هو عصير برتقال. لكنني أفترض هنا أن العلاقة مع الكتب مختلفة؛ لنتخيّل أن القارئ أغمض عينيه وشرب عصيراً من كأس دون أن يعرف نوعه، هل سيجد مذاقه طيّباً أو منعشّاً؟ هل سيكمل شرب الكأس حتى آخره وبعدها يسأل: "ما هذا الشراب الذي أنهيته للتو؟".
عندما أنجزت الكتاب قبل أربعة أو خمسة أعوام لم أطلق عليه اسماً، أو بالأحرى لم أعلم بم يجب أن أسميه، ولهذا كنت أشير إليه بكلمات فضفاضة مثل "النص" أو الكتاب". يشبه الأمر إنجاب مولود والإشارة إليه بكلمة "طفل" بانتظار إيجاد الاسم المناسب له. طوال الأعوام التي عملت فيها على النص لم أعتقد بأنني كنت أكتب عملاً روائياً أو لم أتقصّد ذلك، كنت أعرف أنه نص أدبي خاص وشخصي. للحقيقة لم أكترث في ذلك الوقت بتصنيفه ولم أشغل نفسي بالأمر لأن كتابته كانت ضرورة مُلحة بالنسبة لي. الكتابة هي الطريقة التي أحاول فيها فهم نفسي وفهم العالم، والكتابة أيضاً هي الطريقة التي أورّط بها نفسي للقيام بأفعال كنت أعجز عن القيام بها، بحيث يُصبح النص وثيقة يستعملها العالم ضدي إن أنا جَبنتٌ أو تراجعت. بعد إنجاز مسودة الكتاب اتخذت القرار بتصنيفه كعمل روائي بعد الكثير من النقاشات العميقة والمكثّفة حول طبيعته وموضوعه مع كتّاب وفنانين آخرين. في ذلك الوقت رأى هؤلاء أن الرواية قالب أدبي شديد الحريّة يحتمل الكثير من التجريب، فالرواية المعاصرة اليوم تسمح بأشكال كتابة جديدة ومتحررة من القوالب المُسبقة. بنظرهم امتلك الكتاب شخصية محورية ومكاناً وزماناً وحدثاً وصراعاً، وكانت تلك العناصر كافية لاعتباره عملاً روائياً من نوعٍ خاص. بالنسبة لي أتمنى اليوم لو أن الكتاب تُرك دون تصنيف لأن نقاشه منذ أعوام لم يتجاوز الجزئية المرتبطة بالنوع الأدبي الذي ينتمي إليه. في الوقت الذي لجأت فيه إلى النوع الروائي باعتباره مساحة حرة تسمح بالتجريب هو تحول مع الوقت إلى قيد أو حاجز يمنع تلقي العمل والتفاعل معه. وهذا ينفي ويعبث بشرط الحريّة التي أرى فيها جوهر التجربة الإبداعية.
بالنسبة لي لن أدعي بأن التصنيف أمر غير مهم لكنني أستطيع القول، ومن تجربة شخصية جداً أنني وفي علاقتي مع الكتب تحديداً لم أعبأ يوماً بتصنيفها وكنت دائماً سعيدة بالكتب التي تتحدى تصوّراتي المسبقة عنها. رغم كرهي لكتب التنمية البشرية، أذكر مثلاً أن أعمق نصيحة حياتية تلقيتها وجدتها في كتاب "الصوت المنفرد" لفرانك أكونور، وهو كتاب نقدي يضم سلسلة مقالات حول القصّة القصيرة. تاريخ القراءة الخاص بي حافل بمفاجئات من هذا النوع، كأن أجد قصة حب مثيرة تعلق في ذهني ضمن كتاب عن الرحلات، أو أقف مطولاً عند جملة شعرية في نصٍ أكاديمي. أستطيع أن أعدد عشرات الكتب التي قد تبدو هجينة من حيث هويتها الأدبية لكنها تركت أثراً لا يزول في نفسي مثل أحلام النساء الحريم لفاطمة المرنيسي وأفروديت لإيزابيل الليندي واسم الوردة لإمبرتو إيكو والكثير من أعمال ميلان كونديرا.
❞ لن تعرف نفسك حقّاً إنْ لم تخَف،إن لم تلتقِ تلك الأنا الأُخرى المذعورة،الخارجة عن السيطرة،التي تظهر فقط في اللحظات المُهَدِّدة بفقدان الحياة أمام خطرٍ كليٍّ جارف.في تلك اللحظة تشعر بأنّك لا تعرف نفسك،وتكاد لا تتعرّف إلى جسدك والحركات التي تصدر عنه،حتّى صوتك يخرج غريباً عنك،كما لو أنّ الرعب يُخرج من صلبك كائناً مذعوراً ومشوّهاً،يزعق بصوتٍ حادٍّ لا يتوقّف،وحينما ينقضي الأمر،وتستعيد الشعور بالأمان شيئاً فشيئاً،يبقى في داخلك إحساسٌ عميقٌ بالكراهية للذات،أو الخجل منها،كما لو أنّها أحرجتك،أو أنّك ظننتها أقوى ممّا هي،فخيّبت ظنّك.
جرّبت مرّةً أُخرى معنى أن أخاف كثيراً،حينما خرجت يوماً من منزلي لشراء بعض الحاجيّات.كنت أمشي شاردةً لأجد نفسي أمام موكب تشييعٍ لأحد جنود الجيش،كان الشارع مُغلقاً بحيث لم أجد حولي أيّ منعطفٍ،أو زقاقٍ فرعيٍّ أستطيع أن أدخله كي أتجنّب الحشد.مواجهة الموت لطالما أشعرتني بالخوف،وعادة الطواف بجسد الميت المكشوف غالباً ضمن التابوت لجعله يزور شوارع حارته التي عاش فيها للمرّة الأخيرة ترهبني وتجعلني أرغب بالاختفاء عن مرمى نظراته الأخيرة.
لكنْ في تلك المرّة كان أوان الهرب قد فات،وما إن صرت بمحاذاة الجنازة حتّى بدأ الرجال المثقلون بالسلاح بإطلاق الأعيرة الناريّة في السماء.كنت وجهاً لوجه أمام رجُلٍ رفع بندقيّته أمامي،وبدأ بإطلاق الرصاص.جمّدني الرّعب،وبدأت بالصراخ.أتذكّر أنّني التصقت بامرأةٍ عجوز في الشارع،وحُشرنا -نحن الاثنتين- محاولتين الاحتماء قدر الإمكان بالرصيف الضيّق.
منذ ذلك اليوم لم أعد أستطيع تجاهل حقيقة معرفتي بأنّ لي وجهاً آخر يظهر فقط في لحظات الذعر.تلك المرّات القليلة،وأُخرى تلتها كنت فيها مشلولةً من الخوف،جعلتني أحسد الناس الذين لم يختبروا شعوراً مماثلاً،بحيث بقيت ذواتهم محميّةً هادئة.أين تراكمت تلك المخاوف الصغيرة كلّها،كيف امتصّتها أجسادنا،وعلى هيئة ماذا ستخرج فيما بعد؟ لا أستطيع أن أقع على جواب. ❝
هنا لغة سردية جميلة، أتعبتني بداية العمل، مضيت في الصفحات الأولى بحثا عن بداية لكن لم يحدث ذلك، ثم تصالحت بعد تجاوزي القسم الأول من الرواية، وأقول الرواية لأن الرواية تستوعب هذا النوع من الكتابة، وخرجت منها بأننا عندما نكتب فنحن بحاجة ماسة لفكرة ملحة نجد حرارتها وإيقاعها في نسيج النص السردي وهذا لم أجده. في النهاية العمل الأول له ظرفه، ولا بد من مراعاة الأعمال الأولى والتجارب الأولى. خرجت من هذا النص بشيء واحد أنني سأنتظر روايتها الثانية.
"استلزم تظاهري بالنضج إخفاء الأصدقاء المتخيّلين، واستبدال آخرين بهم، مصنوعين من ورق. ففي الوقت الذي سيبدو فيه إجراء محادثة مع صديق غير مرئي ضرباً من الجنون، يكون في الظاهر الوقوع في غرام شخصية في رواية أمراً أكثر اتّزاناً".
This entire review has been hidden because of spoilers.
أكبر خطأ وقعت فيه دار النشر/الكاتبة بدأ من العتبة الأولي للنص وهي الغلاف عرف النص أنه رواية برغم كونه سرد وتأملات ذاتية منسقة في فصول متتابعة وبدون خط حتي خط زمني يربطها من وجهة نظري أفقدت هذه السقطة مصداقية النص وطغت على الأسلوب اللغوي الجيد للكاتبة