الكتاب من أدب السيرة الذاتية لشاعر من رواد الشعر الحديث. وأوائل زيارات الدهشة كتبه محمد عفيفي مطر بكل حواسه الخمس، وبذاكرة تحوي أكثر من نصف قرن من المشاهدات والمشاركات والرؤى. شهادة على عصر شديد الثراء وسيرة ذاتية لشاعر من اكبر صناع الحداثة في الشعرية الجديدة.
شاعر مصري ولد بمحافظة المنوفية تخرج في كلية الاداب ـ قسم الفلسفة. حصل على جائزة الدولة التشجعية في الشعر عام 1989 وحصل على التقديرية 2006 وصدرت أعماله الكاملة عن دار الشروق عام2000 يعتبر مطر من أبرز شعراء جيل الستينات في مصر، وقد تنوّعت مجالات عطائه بين المقالات النقدية وقصص الأطفال وترجمة الشعر، وفاز بجوائز عديدة منها جائزة سلطان العويس في 1999. ومن دواوين عفيفي مطر 'الجوع والقمر' الذي صدر في دمشق عام 1972، 'ويتحدث الطمي' الذي صدر في القاهرة عام 1977، ورباعية 'الفرح'، وصدر في لندن عام 1990، واحتفالية 'المومياء المتوحشة'، وصدر في القاهرة عام 1992م يقول عنه الشاعر الفلسطيني المتوكل طه' لقد استطاع محمد عفيفي مطر- هذا الشاعر المنسي أو المُغيَّب - أن يقدم صيغة مبدعة لعلاقة الشاعر/ المثقف بالسلطة وإفرازاتها وهيمنتها وما تضعه حولها من نخب تتبنى وتردد أطروحاتها ، خالقة بذلك 'ظلاماً ' كثيفاً يمنع الرؤيا ويقتل الرؤية ويغتال البصيرة والحياة. إنّ مفردة 'الظلام' التي يستعملها الشاعر محمد عفيفي مطر هي من أكثر المفردات تكراراً في دواوينه الظلام الذي يعيشه الشاعر ليس فقط، في زنزانته التي يسميها 'جحيماً' وإنما في لحظته المعيشة وفي تاريخه. إن ما يعانيه ويكابده الشاعر جعله يرى الأشياء من جديد ويقرأ التاريخ بعيون وروح جديدة ، أو لنقل ، بنظرية جديدة هي نظرية 'الخوف من الخوف'. وما بين 'الظلام' و'الخوف' يكون الموت، وفي هذه الكآبة، والقتامة، تلد قصيدة الشاعر محمد عفيفي مطر، قصيدة تضجّ بالألم والفزع والكوابيس والرؤى المقتولة والأماني المغدورة ووجوه الأحبة الموتى والمدن التي يسكنها الأشباح كما أنها قصيدة مُركّبة تستند إلى الأسطورة التي يُعيد إنتاجها بلغة حداثية فلسفية، تؤكد أن صاحبها شاعر رجل يستحق الاحترام
بعض الكتب تخبرك من سطورها الأولى أنك ستمكث معها طويلًا. تقرأ بتمهل. تعيد القراءة مرات ومرات، جهرًا وسرًا. تقلب الصفحة - بل تُنهي الكتاب - ولم ترتو بعد من هذا الجمال!
قصص؟ خواطر؟ حكايات؟ لا أجد وصفًا وافيًا كالذي اختاره الشاعر نفسه: زيارات دهشة! فصول منفصلة متصلة بعناوين تصلح في ذاتها أن تكون قصائد: أمومة الترتيل، قوافي الخشب والماء، جمرة لغسل الخطايا، سلالة النور!
((يا سلام ايه الحلاوة دي؟))
تعريف جديد للأدب: مهارة تحويل الموقف الذي قد يبدو "عاديًا" لا يهم إلا صاحبه، إلى حكاية منسوجة بعناية، تثير مشاعر قارئها وتجتر أفكارًا وذكريات. الأدب توحيد للتجربة الإنسانية. مرَّ هذا الشاعر الشاب في القرن الماضي بنفس شعورك الذي لا تعرف كيف تصفه. لقد وصفه هو بأجمل ما يكون، واجتازت الرسالة حدود الزمن والمكان لتقول لك: لست وحدك.
شكرًا أستاذ محمد عفيفي مطر على هذه التحفة. شكرًا للكتب والأدب والشعر. شكرًا للكتابة.
لا أدري ما السبب، لكن أثناء القراءة طالما تذكرت أغنية منير: شبابيك.. كأن الأغنية والكتاب قادمان من نفس العالم: ”سرقت عمري من أحزاني سرقته لكن ما جاني ولا حد شاف فين مكاني من ورا الشبابيك“ :))
للسير الذاتية رونق أدبي مختلف، فما بالك عندما يكتب السيرة الذاتية شاعر. ستحمل نكهة مختلفة، وأسلوب جذاب، ولغة رصينة، ونظرة شاعرية لمشاهد الحياة. هذه كلها صفات حملها الكتاب باقتدار. كانت أول مرة أقرأ فيها لعفيفي مطر، ووجدته ذو حس راقي وصراحة متناهية. السيرة أغلبها تعتمد على طريقة حكي المواقف المعينة، أغلبها يدور في فترة طفولة الشاعر حتى وصوله للشباب، والقرية التي نشأ فيها، والعادات خاصتها التي أثرت حياته وكونّت كثير من مفاهيمه، كما يتناول التعليم وما كابده من أجل الوصول إلى مبتغاه، وفي ذلك تجربة إنسانية بديعة. يحكي علاقته بمدرسيه، وبأهله. يفرد لبعض النماذج القروية الحديث، وكيف استقى منهم عبرة ما، ويربط ذلك في بعض الأحيان بآراء سياسية وقضايا وطنية أو فلسفية. في النهاية كتاب يجبرك على أن تقرأه في أناة، لما يحمل بين طياته، وحتى تتمكن على استيعاب رسالة الشاعر في الدهشة التي زارته.
لماذا أشعر وأنا أقرأ تلك الكلمات أنها لي؟ لماذا شعرت أن بعض الناس يشبهون بعضاًآخر دون اتفاق أو حوار أو حتى معرفة سابقة..؟ وأعود فأسأل: هل المبدعون متشابهون؟..هل أحاسيسهم وطريقة تفكيرهم وجنونهم وعقلهم واندفاعاتهم وحتى هنات حياتهم هل تقترب من بعضها البعض بشكل أو بآخر؟ ربما نعم..وربما لا.. عفيفي مطر وهو يكتب يحتاج بعض عقلك والكثير الكثير من مشاعرك حتى ترى ما تراه وتنبض بما ينبض به..هو قلب يفكر فحسب..
أتمنى أن تذورنى الدهشة يوماً .. عندما تظلم الدنيا و تصعب عليك ، يرسل الله نفحات من النور اليك ، هذه السيره الرقيقة العذبة ، كانت هبة من الله لى فى وقتها ..
يُوصف لمن يرى أنه مدفون و منسى ، يُوصف لمن أراد السلوى ..
محمد عفيفي مطر أكبر صناع الحداثة في الشعرية الجديدة ، الذي وُلد ميتًا ونفخت في صورته الفصول و غسل ملامحه بالجوع و الحقول . محمد عفيفي مطر ؛ الذي جاء كي يقول ، أو يموت لو ظل صامتًا . يكتب " أوائل زيارات الدهشة ، إلي جليلة الجليلات " ( أمه (سيدة أحمد أبو عمار " فيض البركة في الزمن الصعب ، و بسالة الحنان الكريم في عصف الشظف .
عفيفي مطر الذي كان قلبه معلقًا بين مخالب طائر جارح محموم بالسياحات في الأعالي . علوه فزع و رعب . و انطلاقه كارثة احتمالات ، و مناوشاته لعب فوضوي بين الأمل و الموت و كلما حط ليستريح نفّرته الدهشة بزياراتها المباغتة ، و انفتحت مسالك الأفق أما المعرفة المرة و الغربة الفسيحة
عفيفي مطر يكتب عن أمومة الترتيل ، و بيت جده و ولاءه الأول و ثلج الجيم ا لمعطشة عفيفي مطر يكتب عن الشاعر و مواجهة انشقاق القلب و كائنات الخوف و مشهد القيامة و هروب القرموط و دائرة الموت و تخالة الكوليرا و مشهد الطوفان عفيفي مطر يكتب عن قوافي الخشب و الماء و شفافية الموت المرح و الجنون الجميل و افتتاحية الحمي المقدسة و سلالة النور عفيفي مطر يكتب ويكتب و يكتب
عفيفي مطر فكرة تقفز من الكتب حية تسعي ، و نداء أسلاف لا أملك أمامه إلا طاعة العاشق ، و تسكع النفس المبتلة بالندي خلال مسافات مهجورة .
أكتر شئ امتعني في الكتاب إحساسي المتواصل خلال قرايته إني بمجرد ما أنهيه هيكون كتابي المفضل.. و قد كان. أما الشئ المحزن فهو إني بمجرد ما انهيته حسيت بعجز تام قدام كلمات عفيفي و إحساس بالغيرة إن عمري ما هقدر أحكي عن حياتي بنفس الجودة في اختيار الألفاظ و الشغف في الحكي عن المواقف و الاحداث زي اللي بيقدر يعبر بيهم عند محمد عفيفي مطر.
في مقولة لطه حسين "لكن ذاكرة الأطفال غريبة ، أو قل إن ذاكرة الإنسان غريبة حين تحاول استعراض حوادث الطفولة ؛ فهي تتمثل بعض هذه الحوادث واضحا جليا كأن لم يمض بينها وبينه من الوقت شيء ، ثم يمحى منها بعضها اﻵخر كأن لم يكن بينها وبينه عهد."
دايمًا المقولة دي بتيجي في دماغي لمّا حد يكون بيحكي بالتفصيل عن ذكرى في طفولته و الموضوع عمره ما فقد سحره بالنسبالي. مافيش أي مبرر أو تفسير لظاهرة إن بعض الذكريات بتكون قوية جدًا و البعض الآخر إحنا مش واعيين إننا ناسيينه .
بيداهمني إحساس دايمًا إن المقتطفات اللي الشخص فاكرها من طفولته بتدل على أعماق شخصيته، و عشان كده الكتاب ده بالنسبالي كان قمة في المتعة.
بعيدًا عن إن التصويرات فيه جميلة جدًا و كتير كنت بخلص قصة من القصص و أقفل الكتاب و أقعد اتأمل شوية قبل ما أكمل. بشكلٍ غريب حاسة إني صديقة عزيزة لمطر و فكرة إن هو ما يعرفنيش أصلًا معيشاني القصة اللي عنوانها "مشهد الطوفان"
الكتاب .. سيرةٌ ذاتيةٌ من نوعٍ خاص قدمها الكاتب في صورةِ لقطات من حياته .. كان لها الأثر الأكبر في تكوين شخصيته ، وفي دفعه إلى الطريق الذي سار فوقه .. مُرغماً أحياناً ، وبإرادته في أحيانٍ أخرى تاركاً للقاريء فسحة من الحرية .. ليملأ الفراغات العُمرية من حياة الكاتب بما يحلو له !
وقد استخدم محمد عفيفي مطر في هذا الكتاب - كما في وصفه - حواسـه الخمس ،، متنقلا من ضيق الحياة إلى براحها ,, ومتحولاً من مسالمة تلميذٍ في مدرسة إلى ثورة مناضل في الحياة في خفةٍ وطلا��ة !
جاء متكلفاً في بعض فصول الكتاب مزاحماً نصه بأروع التشبيهات وأجزل العبارات ولكن مفتقراً إلى الإحساس الصادق أحياناً ! غير أن علاقته بأبيه ، بتفاصيلها المختلفة وتراكيبها المعقدة جاءت نابضةً ومرئية .. فكانت الأصدق على الإطلاق ..
أدهشني الكتاب، واسمتعت بقراءته على مهل. السرد شعري جميل يلمس القلب. لم أقرأ من قبل شعرا لمحمد عفيفي مطر، خاصة أن ذائقتي نثرية، لكن إذا كانت أشعاره بعذوبة أوائل زيارات الدهشة فلا بأس من المغامرة وقراءة بعض الشعر.
ثم يُصدق البعض بأن الهُويّة مجرد عِرقٌ ودين !!..غير آبهين بحقيقة أن كل شئ بالحياة يُرسّب مِلحُه في شقوق الروح ثم يذوّب ما تبقى منه بماء الجسد ..وأن استثنائية نَصُّك اﻹنسانيّ الفريد لا تَخطُّها إلا "الهوامش"...تماماً كهذه الثمانية والثلاثين مشهد...حيث يكون الصبي الريفي "محمد" ابنٌ لألف أبٍ وأم ...بدءاً من شيوخ الكُتّاب وكل ما في (مدرسة منوف الثانوية) وحتى أغاني الغيطان وغواني البلد ... قبل أن تتبناه دواوين من الشعر وأطناناً من الكتب ...ليكتشف أنه بأثرٍ من هذين اﻷبوين الجدد قد صار وعن غير قصدٍ "غريباً في الوطن ، ومواطناً في الغربة"... هذا الكتاب هيّن لين نعم ، غير أنه صار عظيم الشأن وغالٍ عندي ..وكأنه مثلاً يوصيني كحكيمٍ من حيث لا أدري: أقرأ أهلك من حيث تقرأ ، كما تطعمهم من حيث تطعم .. فقد يفصلك عن من تظنه أقرب الناس شبهاً بك مسافةٌ قياسُها بضع كتبٍ وأغنية...لتصبحا يوماً في غاية البعد !..ثم اعلم بأن كل تفسيرٍ للهُويّة يتجاهل كل حكايا والديك على الغداء والموقف الذي أدركت فيه أنهما يخافان ويبكيان مثلك و اليوم الذي رحل فيه الطفل من جسدك وحتى لافتات الطريق إلى مدرستك، لا يُعوَّل عليه!
في بداية هذه السيرة الذاتية دوّن محمد عفيفي مطر هذا الإهداء العذب لأمه : " إلى جليلة الجليلات (سيدة أحمد أبو عمار)، فيض البركة في الزمن الصعب ، وبسالة الحنان الكريم في عصف الشظف. أمي" ..ثم ستراها هناك في كل مشهد ...غير أن "غُصّة البدد" هو أحبها لقلبي...يقول فيه:
" هاجس من قلق الشك وخوف اليقين كان يعصف بي وأنا أسرع صاعدا السلم الطيني في وثبات محمومة..هل بقيت لفافة القماش في موضعها..هل بليت كما تبلى اﻷكفان؟ وهل اندثر الحرز العجيب ترابا في الريح؟ كنت قد غبت عن بيتنا سنوات لا تحصى ، ، وخلا البيت من سكانه بالزواج أو الموت أو العجز على سرير المستشفى ، وأصبح خرابا لا تسكنه إلا ذكرياتنا وأشباحنا مع بصيص انتظار يشيخ بلا أمل. في لفتة واحدة كنت أرى المشهد الذي لازمني طوال العمر باعتباره تشخيصا مجسدا لمعنى كلمة "الخير" ومفهوم "اﻷيدي المباركة " وحقيقة " صنع الحياة " فالخيوط المدلاة على الحائط وقد انتظمت عقودا من البامية الناشفة ، وباقات الثوم والبصل وقد بقيت هياكلها الفارغة، وأكياس الملوخية المجففة وقد علاها التراب ، وبقايا القمح والذرة في المخزنين العجيبين اللذين أقامتهما أمي فوق السطح من الطين المُقوّى بروث الماشية وانتظمت في صناعتهما ثقوب التهوية ، وبقايا تراب الفرن الناعم الذي يخلط به القمح فلا يقربه السوس.وامتلأت عيناي بالدموع وأنا أشهق : يرعى الله أزمنة الكدح النبيل وفيض الخير بين اﻷيدي المباركة !! تحسست طريقي بين الجرار المكسورة وبلاليص الجبن والمِش التي جفت وتحجر ما فيها ، وإن كانت رائحتها لا تزال يتحلب لها الريق، ونظرت إلى الشِق العريض العميق في الحائط الغربي أبحث عن لفافة القماش التي أحكمتها أمي بخيوط الدوبارة وسدت بها الشق وغطتها بالطين ، حرزا عجيبا يستجلب الخير ويدفع شبح الموت. كان ذلك منذ نصف قرن ، وقد جلست أمي على بسطة السلم الطيني وبين يديها قطعة قماش تلف بها ذلك الحرز العجيب .قالت لي : " لقد أجهضت ليلة أمس وأنتم نائمون..كان "السقط" ولداً عيناه رائقتان كعين الديك ، وشعره أسود فاحم يتدلى على وجهه كالقمر، ولحمه شفاف كالزجاج تظهر منه عظامه كأسلاك الفضة" ..كانت كأنها تحدث نفسها بين النوم واليقظة، واستولى عليّ الرعب فأمسكت بيدي وقالت: "يعز علي أن أدفنه في اﻷرض، فلقد سددت فمها بما دفنت من أبناء ، أما هذا فسأجعله حِرزا و "تحويطة" سألفه وأضعه في شق الحائط الغربي، وأكسو الشق بالطين ، وهو سيجلب البركة ويملأ عين الموت فلا يطوف بنا بعد اليوم." ومن هول الرعب خرجت أجري ، كانت الغيطان تحت شمس الصيف تفور بخضرة الذرة والقطن وأنين السواقي وخُيّل لي أن اﻷرض كلها حصان فتى جامح بالخصوبة ، لكن حافره أصاب أمي فأجهضها. حين أخذت طريقي إلى موضع الشق ، لم أجد اللفافة التي ظلت في مكانها أزمنة متطاولة ، كنت أشهق وأسأل نفسي : هل بلى الحرز وبددته الريح فحل بالبيت الخراب!!"
أما هنا فقد تجلت لي عبقريته السردية والتي حاكت أول الحكاية بآخرها كنسيج محبوك ..كلوحةٍ هائلة ..اختار لها عنوان "مشهد الطوفان" حيث يقول: "وقف بيننا مفتوح القميص ذي اﻷكمام القصيرة بشعره اﻷسود الفاحم الحليق على الطريقة العسكرية ووجهه اﻷسمر المشرق وعينيه الواسعتين الجاحظتين قليلا، وأسنانه المفلجة وفتوته الشابة، وهو يتلذذ بنطق الكلام الجميل وسرد المعلومات التاريخية بحذق وجاذبية. لم يكن يكبرنا إلا بسنوات قليلة، فكأنه واحد منا ونحن نصغي بنشوة المعرفة إلى درسه عن عصر النهضة اﻷوروبية ، ويفاجئنا بعرض مطبوعات ومستنسخات باهرة من فن دافنشي ورسوم مايكل أنجلو وروفائيل ، وكانت المرة اﻷولى التي أرى فيها عبقرية الفن واﻷلوان والتصميمات وموضوعات اللوحات والتماثيل، وارتباط كل ذلك بمفاهيم النهضة والنزعة اﻹنسانية ...لا أستطيع اﻵن استرجاع حقيقة ما عصف بي من نشوة عليا جعلتني أرتعد وتسح الدموع من عيني ، وأنا أتابع ما احتشدت به "مقصورة السكستين" من لوحات الخلق ، والهبوط من الفردوس والطوفان وقصص الكتب المقدسة حول اﻷنبياء وصراع الخير والشر وعالم الملائكة والقديسين ، وكدت أصرخ وأنا أتتبع تفاصيل الطوفان وقد تعلقت عيناي بامراءة تحمل وليدها ويتشبث ولدها الصبي بساقها وقد التفت اللوحة بالذعر والتطلع المرتعب وروح العاصفة وانفجار السموات واﻷرض بالماء. أصبح مدرس التاريخ في أواسط الخمسينيات في مدرسة منوف الثانوية بطلا من أبطالي الروحيين ورائدا ثقافيا فتح أمامي أبواب اللهفة العميقة والبحث المضني عن عوالم الفنون التشكيلية، صوراً ومدارس وفنانين. كنت أترقب كل صباح أمام باب المدرسة ، بين كوكبة مضيئة من المدرسين الذبن يجيئون كل صباح بالقطار من القاهرة وغيرها من المدن والبلاد، ولكنني لم أبادله الكلام أبدا، وهل يستطيع أمثالي الحديث مع تاريخ اﻹنسان بفنونه وآدابه وملاحمه وقد تجسدت في رجل !! في اختبار نصف العام كتبت في إجابتي تعليقا على صيغة سؤال من اﻷسئلة وبينت ما فيها من ضعف وافتفاد للدقة، ظنا مني أن عمق الرابطة الصامتة بيننا قد خلق وشيجة من كرم الحوار تسمح لي بالمناقشة ، ولعلي ظننته سيفرح. ففي اليوم التالي نادى بغضب: أين فلان؟ فوقفت متوجسا، فقال: أنت قليل اﻷدب!..وقبل أن يتابع أصابته الدهشة البالغة إذ رآني متفجر العينين بالدموع في صمت ، قال: ماذا بك ؟! قلت من بين الدموع : أي مدرس إلا أنت. أنت بالذات. سألني مستوضحا، فسألته وأنا أبكي: ألا تعرف كم أحبك وأحترمك ؟!اتسعت عيناه بالدهشة وأمرني بالجلوس. قبل نهاية العام الدراسي بقليل اختفى نهائيا ولم نعد نسمع عنه ، وعرفت أنه نقل إلى مدينة لعلها القاهرة أو بنها ، وأحسست بفجيعة اليتم وهول الوحشة، واعتصرتني الحسرة ﻷني لا أعرف اسمه الكامل ولا عنوانه ، لم أتجرأ على السؤال، وهكذا غاب في ظلمات المجهول، ولكن وجهه وصوته ظلا علامة مضيئة تلاحقني ، وكلما دخلت متحفا أومعرضا للفن أو قلبت كتابا تشكيليا في أي مكان من العالم لاح لي بوجهه وصوته، ولقد تساءلت أﻵف المرات:من أنت يا سيدي ..ما اسمك وأين أنت اﻵن؟! بعد أكثر من ثلاثين عاما وأنا أعبر ميدان رمسيس ومعي بعض اﻷهل ، رأيته مُقبلا من بعيد ومعه أحد الناس يكلمه، إنه هو لم بتغير منه شئ سوى بعض الشعرات البيضاء والسمنة الخفيفة، نفس أناقته وحضوره الفخم الموحي وأسنانه المفلجة التي لم تنقص، وعينيه المضيئتين. التفت كل منا وحدق في وجه اﻵخر بنظرة التعرف والتذكر المرتاب، قلت لمن معي : انتظروني ، وهرولت إليه بلهفة الفرح..هي التفاتة واحدة. ولكن زحام الميدان طواه عني، فأخذت أجري كالمجنون وأحدّق في الوجوه ، ولكن وجهه كان قد اختفى، وحينما ابتلت عيناي بالدموع ، رأيت الميدان كأنه مشهد من لوحة الطوفان."
ويحكي تحت عنوان "شفافية الموت المرح" ..فيقول: " انكمش الصبي ذو السنوات العشر في آخر الصفوف وانزوى ينفخ في يديه ليستشعر بعض الدفء، ودخل شيخ لا يزبد عنه في الطول إلا شبرا أو شبرين، عمامته محبوكة وكاكولته تضيق بسمنته الظاهرة ، بيده عصاه المعقوفة ، ووجهه البشوش يشع بالطيبة والمهابة وتلمع فيه شامة سوداء صغيرة . حك أنفه بكفه وتنفس نفسا عميقا بصوت مسموع-عرفت فيما بعد أنها حركة اعتادها ﻹدمانه تشمم الروائح والعطور-وقال اسمعوا نكتة الصباح، وألقى النكتة فانفجرنا بالضحك، ثم قال : اسمعوا خبر اليوم ، وقرأ من جريدته خبرا، ثم قال : اسألوني سؤال الصباح ، فقمت مرتبكا خائفا أسأله عن معنى كلمة وردت في نص الخبر الذي قرأه ، فكتبها على السبورة وشرحها ، واستخرج منها جميع الصيغ الصرفية. كان هذا الطقس الصباحي المدهش لا يتحول ولا يتبدل طوال سنوات الدراسة الابتدائية التي التحقت بها بعد سنوات المدرسة اﻹلزامية اﻷربع، وكانت المدرسة هي "مدرسة اﻷقباط الكبرى" في مدينة منوف، وهي مدرسة أهلية خاصة أنشأتها وقامت على رعايتها وإدارتها جمعية خيرية مسيحية وينفتح باب الكنيسة على فنائها، وكثيرا ما كنا نرى رجال الدين بسمتهم وهندامهم المميز. تفتحت مشاعري على الشيخ الظريف المرح، بطقسه الصباحي المبهج وطريقته الفذّة في شرح دروس النحو والتي جعل جميع أمثلتها التطبيقية تدور حول الطعام وأصناف المأكولات وياﻷخص إعزازه العجيب للأوز الذي لا يخلو درس من ذكر�� ، فنضحك ونفهم. اقترب مني الشيخ "درويش أبو شنب" وحدق بعينيه الضيقتين الطيبتين وسألني: مالي أراك دائما منكمشا على نفسك في آخر الصفوف !!ماذا حفظت من المقرر؟ قلت: حفظت كل ما في الكتاب من شعر مقرر وغير مقرر، وحفظت معظم ما فيه من نثر وإن يكن خارج المقرر، سألني: هل تحفظ شيئا من القرآن؟ قلت: الستة أجزاء اﻷخيرة وسورة يس، قال: أسمعني سورة "الرحمن"وأضاء وجه الشيخ وهو يسمعني، وقد كانت لي طريقة دامعة في الترتيل تدفعني أنا نفسي للبكاء ، لا أخطئ في قلقة أو إدغام أو غنة أو وقف أو تفخيم وترقيق ، وتنبع معاني اﻵيات من قلبي وجوارحي، والشيخ يقاطع ترتيلي بصيحة إعجابه وبهجته: الله ...الله. انتهيت فمسح على رأسي بيده المعطرة ، ثم أسمعته قصيدة من شعر شوقي وإحدى الخطب الوعظية لعبدالله النديم، وفوجئت به يخلع عمامته ويضعها على رأسي ويضع عصاه على ذراعي ..وأجلسني فوق درج في أول الصفوف ووجهي إل�� التلاميذ وهو ينصت. كنت أنتظره كل صباح ممتلئا بالبهجة المكتومة المستعدة للانفجار بالضحك حينما يصطنع صرامة الجد وهو يقول نكتة الصباح، ثم أحاول إبهاره بأن أكون صاحب سؤال الصباح الصعب المعقد الذي أنتزعه من بعض كتب اللغة التي وقعت بين يدس مصادفة ، وباﻷخص "خزانة اﻷدب" للبغدادي وألفية ابن مالك و "زهر اﻵداب" للحصري، بما فيها من مهجور وشاذ ومختلف عليه. كنا نكبر به ومعه عاما بعد عام ، حتى فوجئت به يطلب أن أنتظره كل صباح في مكان معين قبل دخول المدرسة ﻷصحبه حتى بابها ، فيضع عمامته على رأسي ويشبك العصا فوق ذراعي ثم يتأبطني ونتدحرج معا إلى المدرسة وبعض الناس يشيرون إلينا. قال لي ذات يوم: ليس لي إلا ابنة واحدة، وأعتبرك ابنا لي، وربما أجعلها زوجا لك. إن أفلحت فأنتما جحشان يناسب كل منكما اﻵخر، فضحكت. مرت سنوات الدراسة الثلاث ، ولكنه في أوائل الرابعة بدا شخصا آخر غير الذي نعرفه ، اربد وجهه بهموم ثقيلة لا نعرفها، وثقلت حركته وغاضت حيويته ، وأصبح يضيق بكل شئ، يغتصب الابتسامة مُكرها ، ويقوم بالطقس الصباحي بلا روح أو بهجة ، وشاعت بيننا شائعات عن مرض غامض أو خلاف مستحكم بينه وبين أقاربه، حتى كان اليوم المشهود الذي لا يُنسى : دخل حجرة الدراسة واجما فلم يلق بتحية أو يمارس طقسه المقدس، وجلس على كرسي ﻷول مرة منذ عرفناه، ووقف فجأة وقد جحظت عيناه ثم تقيأ بصوت مرعب من النزع والتأوه ، فانطرحت دماء متخثرة وسائلة، ومد يده ليتشبث بالمكتب فجره معه ووقع على اﻷرض. علا صراخنا فهرع إليه المدرسون ، ثم حملته عربة اﻹسعاف. وفي صبيحة اليوم التالي وقفت المدرسة كلها تتقدمها فرق الكشافة وفرق موسيقى المطافئ ، وانتظم الجميع في خطوة جنائزية رهيبة ينخلع لها القلب ويذوب في إيقاعها الجسد، ونعشه يعوم في بحر من البشر والدموع. في إحدى زياراتي لمقبرته، قال لي حارس المدافن: إياك أن ترسم أو تكتب شيئا على جدران المقبرة كزملائك فلم أفهم ما يعني، وحيت بلغتها وجدت الجدران قد مُلئت برسوم اﻷطعمة وموائدها وأسراب اﻷوز السارحة. "
فيضٌ شخصي يأبى الكتمان من وحي قراءة "أوائل زيارات الدهشة": ينحدر أبي من إحدى قرى المنصورة أما أمي فهي من أول الصعيد ...مزيجٌ كهذا ظل كفيلاً على الدوام بجعل كل انطباعات الآخرين الأولى عن أصولي عبثية جدا في نظري بل ومُربكة أيضا ...أعنيّ لم يصدف أن كان لزميلاتي بالدراسة أوالجامعة من ذوات المصرية غير المُشتبه في أصولها ما كان لي ...كن قاهريات حتى النخاع !.... فلم يكن لأيّهن مثلاً جدٌ كجدي ﻷمي ، شيخٌ معممٌ عتيق الفكر مهيب الجانب ..كنا وأخوتي نتراص في الزيارات السنوية كل صباح لنقبّل الكف الممدود تتقدمنا أمي وهي ترتدي "مِلحفة" سوداء كعادة نساء البلد ...فأطيل أنا قُبلتي لأتفحص بدقة وشم الشجرة الخضراء على ظاهر كفه اﻷيمن ، لأحاول مُحاكاته فيما بعد على كفيّ بأقلام التلوين ..قبل أن أيأس كونه لا يبدو فاتناً أبداً كما كان يظهر على يده الناصعة البياض ...أيضاً لم يكن لواحدة منهن خالٌ كخالي الذي غرق وهو ابن عشر سنين بإحدى ترع الصعيد ...لتظل أمُهنّ من بعده تذكر لهن قصته بحزن في كل مناسبة وترثيه بشجن في كل حين ...ثم "ستي نعامة"!! .. أراهن أنهن قد رأين مثلها وسط عائلاتهن ...هي خالة أبي التي كان يكرر الجميع على مسمعي شبهي الشديد بها ..فأمتعض وأنا صغيرة إذ لا يروقني اسمها ..فيُطمئني أبي بأنه اسم لا يطلقه فلاحو المنصورة إلا على امرأةٍ جميلة ...صدقته فقط حينما رأيتها ...فأدركت أني مجرد نسخةً مشوهةً هزيلة من امرأةٍ حُلوة الوجه ،ريّانة الجسد و عامرة اﻷنوثة رغم الكِبر...تُدير منزلاً كبيراً يملأه اﻷبناء واﻷحفاد ...اصطحبتني وأنا طفلةً ذات مرةٍ لنزهة العصاري في طابق "العِشّة" العظيم ...رأيتها حينها بأمّ عيني وهي تهدهد الديوك الرومية بأغنياتٍ بينما تسقيها الشاي المُحلّى والينسون ...فتشرب الديوك وتهز رأسها بانسجام كالدراويش!! ...حين عُدت لمدرستي حيث أقيم ، ظللت أقُسم لصديقاتي حينها أن الديك الرومي يُحب الشاي والينسون مثلنا فلم يصدقني أحد! ... مؤخراً، وعلى بوابات إحدى اﻷمكنة أدفع ما يدفعه الغريب للدخول ...قبل أن يتدارك الموظف المسؤول مصادفةً خطأه فيبادر بالإيضاح ويُلحّ بالاعتذار ...فأجبته بابتسام متسامحٍ أن هوّن عليك ياعم !...وسعدت بكوني أخيراً قد شُفيت من دراميتي المسرحية بهذا الشأن...فلم أعد أرثي نفسي في نفسي كما كنت من قبل ، قائلةً أشياء كمثل: أوبعد كل هذا العمر ما زال يخطئني هذا البلد ؟!...صرت أدرك اﻵن أننا ربما هجرنا المنصورة فهجرت ملامحنا فحسب ..أو لعله جسد خالي الغريق الذي لم يطفُ على السطح بعد !..فحال بيني وبين جذوري بضع طبقاتٍ غِلاظ شِداد من البُعد والاغتراب.!.. غير أني في قرارة روحي ما زلت أتشبث بحلم "ستي نعامة" يحفّها اﻷبناء والأحفاد والديوك الروميّة المُنتشية كرمزٍ أسطوريّ للحياة الهنيّة والهيمنة الأنثويّة الحنونة ...وكثيراً ما أحاكي ضفيرتها ثم أطوّق بها رأسي لتعجبني صورتي في المرآة...حتى مع إدراكيّ الكامل بأن السنين والحداثة والمدن القبيحة ستعمل على إبقاء تلك الصورة النسخة المشوّهة الهزيلة .
إلى جليلة الجليلات سيدة أحمد أبو عمار فيض البركة في الزمن الصعب وبسالة الحنان الكريم في عصف الشظف
بهذا الإهداء تبدأ حياة محمد عفيفي مطر في ثمانية وثلاثين مشهد، كتابة رقيقة لشاعر يسجل لقطات من حياته، لقطات معجونة برهافة الشاعر وتفكير الفيلسوف الذي يحافظ على الدهشة ويستقطبها، فمحمد عفيفي مطر نشأ شاعراً ودرس الفلسفة في جامعة عين شمس. نشأة قروية لكنها متفردة، فليست كل الأمهات كأم محمد التي تواجه وحدها الموت الذي يلتهم أبناءها، تحاربه بالخرافة وبالعزيمة والصبر، وتسمع وليدها شعراً عربياً منغماً لعنترة، وتحفظه آيات القرآن حتى ظن أن القرآن امرأة وأن الآيات أمومة خالصة لا يعرفها الرجال، نموذج فريد للأم المقهورة المقاومة. وأب غريب الأطوار، قاسي وعنيف حتى أن الأم اتهمته أنه - بغلظته - يقتل أبناءها، وهو مع ذلك يقف إلى جانب الحق ويواجه تسلط العمدة ورجاله، يحتفظ بدولاب عجيب مغلق دائماً يضم كتب التراث والشعر ويكشف بعد وفاته عن "مذكرات اليتيم" عن بادئ حياته الصعبة والقاسية. في البيت العجيب هذا ينشأ محمد عفيفي مطر شاعراً وهو أمر طبيعي فكل شئ يدفع إلى ذلك. نبوغ مبكر في حفظ الشعر وكتابته واطلاع على كتب التراث والكتاب الكبار كالعقاد والمنفلوطي والرافعي وطه حسين والزيات وغيرهم ومراسلات مبكرة لمجلات عديدة وتمرد على القرية القاسية التي تدفع أبناءها إلى الاشتباك المجاهد مع اللقمة وكدح الذوبان في عرق العائلة، قرية لم يعشق مكاناً مثلها كما لم يكره البقاء في مكان كما كره البقاء فيها المشاهد سينمائية تلتقط الإنسان بضعفه وجبروته وأنوثته وتسجل تقلبات الزمن ودورانه وهموم القرية حيث يستطيع شتاء قارس أن يعصف بكل شي وسلاح رخيص بدائي يهدد حياة الناس ويتحكم بمصائرهم، وشاعر يؤمن أنه مادام أحد لا يستطيع منعه من الكتابة فهو لا يملك له نفع أو ضرر كتاب هادئ ورائق جدير بالقراءة ساترك هنا المشهد السادس والعشرين حيث تقاوم أم محمد الموت بالخرافة والأمل
(غصة البدد) هاجس من قلق الشك وخوف اليقين كان يعصف بي وأنا أسرع صاعدا السلم الطيني في وثبات محمومة . . هل بقيت لفافة القماش في موضعها . . هل بليت كما تبلى اﻷكفان؟ وهل اندثر الحرز العجيب ترابا في الريح؟ كنت قد غبت عن بيتنا سنوات لا تحصى، غريباً في الوطن ومواطناً في الغربة، وخلا البيت من سكانه جميعا بالزواج أو الموت أو العجز على سرير المستشفى، وأصبح خرابا لا تسكنه إلا ذكرياتنا وأشباحنا مع بصيص انتظار يشيخ بلا أمل في لفتة واحدة كنت أرى المشهد الذي لازمني طوال العمر باعتباره تشخيصا مجسدا لمعنى كلمة "الخير" ومفهوم "اﻷيدي المباركة " وحقيقة " صنع الحياة " فالخيوط المدلاة على الحائط وقد انتظمت عقودا من البامية الناشفة، وباقات الثوم والبصل وقد بقيت هياكلها الفارغة، وأكياس الملوخية المجففة وقد علاها التراب، وبقايا القمح والذرة في المخزنين العجيبين اللذين أقامتهما أمي فوق السطح من الطين المُقوّى بروث الماشية وانتظمت في صناعتهما ثقوب التهوية، وبقايا تراب الفرن الناعم الذي يخلط به القمح فلا يقربه السوس . . امتلأت عيناي بالدموع وأنا أشهق : يرعى الله أزمنة الكدح النبيل وفيض الخير بين اﻷيدي المباركة !! تحسست طريقي بين الجرار المكسورة وبلاليص الجبن والمِش التي جفت وتحجر ما فيها، وإن كانت رائحتها لا تزال يتحلب لها الريق، ونظرت إلى الشِق العريض العميق في الحائط الغربي أبحث عن لفافة القماش التي أحكمتها أمي بخيوط الدوبارة وسدت بها الشق وغطتها بالطين، حرزا عجيبا يستجلب الخير ويدفع شبح الموت كان ذلك منذ نصف قرن، وقد جلست أمي على بسطة السلم الطيني وبين يديها قطعة قماش تلف بها ذلك الحرز العجيب . . قالت لي : " لقد أجهضت ليلة أمس وأنتم نائمون ... كان "السقط" ولداً، عيناه رائقتان كعين الديك، وشعره أسود فاحم يتدلى على وجهه كالقمر، ولحمه شفاف كالزجاج تظهر منه عظامه كأسلاك الفضة " . . كانت كأنها تحدث نفسها بين النوم واليقظة، واستولى عليّ الرعب فأمسكت بيدي، قالت: "يعز علي أن أدفنه في اﻷرض، فلقد سددت فمها بما دفنت من أبناء، أما هذا فسأجعله حِرزا و "تحويطة" سألفه وأضعه في شق الحائط الغربي، وأكسو الشق بالطين، وهو الذي سيجلب البركة ويملأ عين الموت فلا يطيف بنا بعد اليوم" ومن هول الرعب خرجت أجري، كانت الغيطان تحت شمس الصيف تفور بخضرة الذرة والقطن وأنين السواقي، وخُيّل لي أن اﻷرض كلها حصان فتى جامح بالخصوبة، لكن حافره أصاب أمي فأجهضها حين أخذت طريقي إلى موضع الشق، لم أجد اللفافة التي ظلت في مكانها أزمنة متطاولة، كنت أشهق وأسأل نفسي : هل بلى الحرز وبددته الريح فحل بالبيت !! الخراب
انشقاق القلب " لم أكن أعرف ان هذا الكتاب سيفتح علي بابا واسعا من الصراخ والدمع يزداد اتساعا مع الزمن. كنت اجهل القراءة والكتابة ولم ألتحق بالكُتّاب إلا بعد ذلك بقليل، ولكني وجدت الكتاب على رف في بيت خالي فأخذته، قلبت أوراقه واحدة واحدة وأنا أبلل اصابعي بريقي وأعد بصوت مسموع موقع : آدي واحد آدي اتنين آدي ثلاثة .. إلخ، وبزغت تحت اصابعي صورة مفاجئة، قربتها من عيني لأرى أدق تفاصيلها. كانت صورة لفتاة صغيرة مهلهلة الثياب تبكي وتولول تحت نعش يحمله رجال اربعة، فشق صراخها قلبي وامتلأت عيناي بالدموع وهبت من صفحات الكتاب لوعة متربة مازلت أشمها، ومنذ ذلك الزمن البعيد وأنا ألملم الدموع من الكتب ويتشقق صدري لصرخات الموتى والأحياء. "
سيرة عطرة بروح القرية الأصيلة وحكايا الأهل والأعمام وكل من حفظ لهم جميل معروفهم من أساتذته (شفافية الموت المرح) ورواد القرية العابرين ومؤلفين الكتب والأشعار التي أسرته، ولع بالقراءة والشعر وحفظ ما وقع في يديه عن ظهر قلب. هذه السيرة تحمل الكثير من الشغف والتطلع والإباء ورفض الظلم ودمعة المقهورين. أسرني ذلك الشغف للقراءة والتميز، السعي للحياة الأخرى والعالم المفتوح بعيدا عن ضيق المكان ورتابة الأحاديث وتلك الديمومة للحياة اليومية الروتينية فبالرغم من تمنع والده في ارساله للإلتحاق بالجامعة في القاهرة فكان الإصرار على أن يقبل تعيينه كمعلما بعيدا عن قريته وتعسف والده ويبدأ حياته كما يريدها.
الكُتّاب وما تغرسه فكرة هذا المكان بين نقيضين أن يكون الشيخ صِلفا فتخرج علينا حكاية كحكاية طه حسين أو أن يكون معلما فينشأ الإنسان مَدينا لهذا المُعلم. فكم كان عفيفي مطر محظوظ بمعلميه. ذكرني بسنواتنا الأولى نحن أيضا أنا وأخي وذهابنا لحفظ القرآن عند شيخ أكن له التقدير والإحترام وتسابقنا للحفظ معا، اتذكر البدايات بالأجزاء الأخيرة المليئة بالمعاني الغير مفهومة وارتباطها عندي بصور بصرية متخيّلة في ذهني استرجعها عند التسميع ومازلت إلى الآن عند قراءة تلك الأجزاء أتذكر تلك الصور.
ما بين الخرافة والزار والعفاريت وساكني القبور وأهوال القيامة وكل ما علق به عندما كان صغيرا نسج تلك السيرة الممتعة.
اليتم و إنكسار الأفق مراراً و دهشة الأفعال و تعجب اللحظات و التشبث بالأحلام الصغيرة هي أسس تكوين شخصيته التي بهرتني براءتها و صَدقها خاطرة " إحراق و إحتراق " هي القشة التي كسرت ظهري تماماً فهذا الأب و هذا الأبن عانوا ما عانواأكاد أجزم انها نفس الأحساسيس أحاسيس اليتم و الفقر و الكبرياء .. وخاطرة" إبن إمرأتين ودائرة الموت و إنشقاق القلب و تراتيل الأمومة " حفروا في ذاكرتي ..
هذة السيرة مميزة جدا لشاعر سأكتشفه حروفه بها نور الدهشة
فهي أيضا زيارات الدهشة الأولي لي , كنت تناسيت فعل الدهشة...
أحببت كل كلمة.. كل كلمة.. كما أوحى بها الكمال الخفي لفؤاده النبيل. ما هي الحواس؟ هي اجتماع الظواهر على قلب رجلٍ واحد، فنسمع ونشم ونرى ونلمس ..ما .يدركه القلب. كل كلمة.. هي يدٌ تدفع طوبة في جدار الظلام. كل كلمة هي قوية كفاية، لتدفع حجرا ثقيلا من الظلم والظلام. أليس النور هو غياب الظلمة؟ وما هو النور إذا لم يكن سوى معرفة قدرة الظلام على الإحراق؟
"يجتزئ من الدنيا بلقمة خشنة فقيرة وملبس بلا وسامة، وإيمان لا يتزعزع بالميراث السقراطي وهدير الأعماق بالشعر" سيرة لذات محمد عفيفي مطر، شاعر ابتلع حياته عيشا لم يذر منها شئ فترتكه يئن من الصدق والشعور، يتحدث للقارئ -الذي هو صديقه فقد بحث عنه وانتقاه، وشاهِدُه في زمان مضي وفي لحظة ستأتي- ببلاغة ممتدة.
عن أهم المحطات في حياته كتب محمد عفيفي مطر الثائر دائما علي الظلم من الصغر فلم استغرب أن من كره ابن المأمور لإهانته عسكري في عمر والده سيكون من يزأر بعد سنين ضد كل ظالم أبي وعزيز النفس مرفوع الكرامة رغم حالته الرثة مثال للإصرار والمثابرة تقريبا كل ذلك تجمع في شخص فكان محمد عفيفي مطر.