رغم موت الشاعر فإني أشهد الآن ولادته. ها إن مهاب ناجي يحيا من جديد بشعره، ويعود من خلال هذا الكتاب كي يعيش بيننا. مهاب ناجي، رغم عبوره السريع، ورغم غيابه في حياته عن النشر والإعلام، هو أحد شعراء الحداثة الذين يمتلكون صوتًا شعريًا مميزاً. فلنقدم له كل التقدير الذي لم ينله في حياته، ولنضف اسمه إلى أسماء الشعراء الذين عاصروه. وتلك "المدينة التي لا تليق بموته " فلتكن الآن مدينة تليق بعودته إلى الحياة.
"أصبحتُ بحراً قدر اتساعي يملؤني الألم، لكني ما زلتُ أرجو أن تُمطر السماء."
تتملكني غصة في حلقي عندما أرى كلمات شاب، توفي منذ فترة قريبة، ويكتب بمثل هذا الوجع، والعتاب. العتاب الرقيق لكل من خذلوه. الديوان بكل تأكيد هو عصارة تجارب شخصية للشاعر "مهاب ناجي"، حكايات وشخصيات مليئة بالألم، وأماكن لا ترى منها إلا ذكريات سعيدة تذكرها يجعلها حزينة. هل يشعر من يقترب أجله بذلك؟ هل يرى ملك الموت بجواره يبتسم؟ هل يبتسم من أقترب أجله لملك الموت قبل أن يُزهق روحه؟ هذه حكايات حزينة، وقصائد مُبكية، وحسرة ما بعدها حسرة، على شاب واعد، كان يبني طريقه ويُعافر، ثم، تدخل القدر.
أنا لستُ حكيمًا لأني لستُ حرًا مثل قط لكني أحياناً ما يكون في عيني - رغم كل ما مر أمامي - آمل في أن تمطر السماء وكفك تحتضن كفي والأبد ليس أكثر من سحابة تمر فوق رؤوسنا على مهل .
لمّا فكّرت إني أقرأ التّجربة دي، حطّيت أي عواطف على جنب، وقرّرت إني هحكم على الشّعر المكتوب، لشاعر أنا معرفوش، أو بمعنى أصح؛ شاعر معرفش إنه لسه مودّع العالم من قريب. هل مهاب ناجي شاعر حقيقي؟ أقدر أقول آه طبعا، وده راجع للديوان إللي قرأته، ووضّح لي قد إيه هو فعلا كان مشروع شاعر يقدر يكون بين الكبار وهو حاطط رجل على رجل. طيب فين الاعتراض ع المكتوب؟ أقدر أقولك إني حسّيت إنه مكسوف من الشّعر، ده تعبير كده أنا بقوله، على الشّاعر إللي أحس إن عنده مقومات ودماغ حلوة في التّفكير، لكن مقلق يجرّب، أو مقلق يفتح قلبه للشعر فعلا. في قصائد حقيقي كانت عبقرية، وفي قصائد كان بيعجبني نصها، ونصها التّاني مش أوي، وفي قصائد كانت بتبقى ماشية حلو جدا وفجأة يتحط في نصها كام تعبير ضعيف فتتقفل منها، وفي قصائد كنت تحس إنه عايز يقول حاجة، بس زهق أو حس إنه دماغه مش هتجيب أعلى من كده، فالقصيدة خلصت. في تعبيرات في النّص كانت بتيجي بتخليني أقول الله! قد إيه يا مهاب في كلام بيقول إن جوّاك شاعر عظيم! وفي تعبيرات كانت بتتقال برضه خليتني أقول ليه كده؟ ما كنا ماشيين حلو! لو في حاجة كمان كنقد شخصي، أو نقدر نقول حاجة أنا حسّيتها، فأقدر أقول إن مهاب -من غير ما ياخد باله تقريبا- كان متأثر برياض الصّالح الحسين وبسّام حجّار ووديع سعادة، متأثر مش ناحت منهم، فده إللي خلّاني طوال فترة قراءة الدّيوان، مش عارف فعلا أتفاعل مع النّصوص، مش عارف أحس إني قاعد مع الشّاعر وبنتكلم عن تجربته، محسيتش خالص إنه بيعبر عن حاجة خاصة أو حاجة عامة بطريقة تخليني أعبّر معاها عن إعجابي، حسيت إن الكام ده كله اتقال قبل كده، والعّثمق ده مر عليا قبل كده، تحس إن في حلقات مفقودة كتيرة، في كلام خاف يطلع، في محاولات فشلت وكلام اتشال مثلا، أو في حاجة كانت بتقيده في الكتابة، كتابته صادقة، بس مش للدرجة إللي تخليك تتفاعل معاها. في النّهاية، ده رأي الشّخصي، هي تجربة كويسة، كنت أتمنى تبقى عظيمة، نفس عظمة العنوان.
ستبقى بعيدًا.... ستتوقف عن ممارسة الحياة، وتختار للوجود شكلًا جديدًا سيكون عليك التوقف عن الكلام ما دُمتَ اخترتَ أن تقول الحقيقة ستبقى بعيدًا.... تظل الملامح المبهمة هادئة الجمال طالما بقيت الوجوه بعيدة. كذلك الضحكات الآتية.... من عند الطاولات القريبة ستبقى جميلة. ستبقى بعيدا.... كما وَعَدتَ نَفْسَكَ. ستكمل - كل يوم - رسم الدائرة: تستيقظ ... لتنام وتعود فتصحو من جديد. ستعتاد فعل ذلك حتى تغفو أخيرا... بلا أجوبة. ستنتظر الموت في هدوء الملائكة. ستتنفس ببطء الحزن العميق..... ولن تُصادفك النهايات السعيدة. ستبقى وحيدًا.
لما لا يسكن الرجل الهاديء بيتي؟ يسقى في الصباح نبات الظل يُطعم القط ويشرب قهوته على مهل مُبتسمًا لصفاء السماء.
لما لا يجلس الرجل الهاديء في كرسيي يرحب بحديث عامل المقهى، بسذاجته وخفته وخبثه. تعتاد أذنه ضوضاء طرقات كروت الدومينو، وينظر من النافذة، ولا ترى عينه الزحام.
أظن أن الرجل الهاديء ينام مُطمئنًا يغرق في دفء وسادته، يعرف الله ولا يُحسن تقدير الأمور.
الرجل الهاديء لا يُبالي كثيرًا رغم صدره الواسع، والشمس الذي تملأ قلبه. لما لا يسكنُ الرجل الهاديء نفسي؟ .... الفتاة التي لم تعرف -طوال حياتها- إلا الخفة. ودائمًا ما حاولت تزيين الألم، رغم كل الثقل المُحيط. عادت إلى البيت مبكرًا على غير عادتها واستسلمت إلى النوم الطويل.
أخبرتني ذات مرة أنها تفضل حكايات ما قبل النوم عن الحقيقة ودندنة الأغنيات عوضًا عن الصلاة للمستحيل. كانت تترك شعرها المتساقط فوق الوسادة، وتختار لنفسها قبعة واسمًا جديدًا يناسب ذوق فستانها القديم. ترسم-بلونها المفضل-ابتسامة الصباح كأنها بذلك تُخفي الهزيمة. لكن الفتاة التي تسكن المرآة منذ الطفولة لم تعد تصدقها. ردت-صباح اليوم-على ابتسامتها بنظرة عتاب طويلة. (لم أعد أمتلك ما يكفي من يذاجة كي أكمل) قالت لها. ... وأن معجزتي ليست في المشي على الماء، ولا في قدرتي على شق القمر، المعجزة هي أن أكون عاديًا قدر الإمكان، أن أمر سريعًا وأصنع ابتسامة سريعة مثل زهرة أو قط صغير. ... ليس لي قلب آخر يجيد الكلام مع صمتي إلا قلبك.
أتمنى لو كنت قادرًا على أن أموء غضبي مثلما تفعل القطط بحرية فوق الأرصفة أو أُغنِّيه كما تفعل العصافير كل صباح من فوق شجرة أو شرفة مفتوحة. لكني أستنشق غبار اليوم الرمادي وأبتلع رغمًا عني كل الكلمات التي أقسمت بالأمس أن أبصقها في وجوه تُعيد الظهور من حولي كلما هممت بالغوص في أحلام زرقاء جديدة أبتلعها رغمًا عني.
أتأمل دون أن أدرك معنى للوقت كل ذكرياتي المنسية عن الأمس وأحاول تجاوزها حتى أكون قادرًا بحق على التحليق فوق دقائق اليوم الشفافة بكل ما تحمله من حقائق لم تزل تحكم تنفسي اليومي، وأحمل لكِ في قلبي أزهارًا تجف ولا تموت، وأعيش وأنا أُحبُّك.
يكتب مهاب بألم واضح، يتأمل وجعه من الداخل وفراغ العالم الذي يمتدّ حتى المدينة ليسقط في لغته. هذه الكتابة موجعة لأنها بسيطة ودقيقة أيضاً. ويكفيه اعترافه عندما قال: "لم أعُد أمتلكُ ما يكفي من سذاجةٍ كي أُكمل."
هذا الديوان بمثابة صيحة أخيرة، رسالة وداع، تُظهر آلام كاتبها بشكل واضح صريح دون أي تزيين. أرى أنه من المهم قراءة هذا الديوان، ليس لأنه شعرا رهيبا، ولا بسبب الأسباب التي تخص حياة الكاتب نفسها ووفاته، وإنما من أجل المشاركة؛ فآلامه هي آلامي، وآلامي هي آلامك أنت أيضا، حتى وإن كان لكل منا سياق أو قالب مختلف عن الآخر، فمن الملاحظ بشكل واضح هو وحدة موضوع المعاناة، فالوحدة والاغتراب مثلا لا يسكنان أشعار ذلك الكتاب فقط وإنما تسكناننا بتعبير أصح، "كل الأخطاء جاءت من الوحدة." قد تبدو رؤيتي بعيدة بعض الشيء إذا ما أردنا قراءة الشعر قراءة من أجل المتعة فقط، لكن، حقيقةً، قراءة الأعمال الفنية تخرج عن ذلك الإطار المبتذل، فنصير قادرين بعض الشيء على التعرف على الآخرين من خلال معاناة الكاتب، حتى وإن كانت الظروف غير الظروف، ولكن حينما تقرأ مهاب ناجي مثلا، وحدته وغربته وحزنه الرهيب وحياته التي وضعها في تلك السطور، تلك التجربة الفريدة تشترك مع التجارب الحياتية، الفريدة أيضا، الخاصة بالآخرين، وهذا يعكس شيئا ما، شيء نعيشه كلنا، إذن فإن السؤال سيتحول من "ماذا أقرأ لأحصل على العزاء؟" فقط، إلى إضافة سؤال آخر مهم وهو "لماذا نعاني تلك المعاناة كلنا؟"، وذلك هو عمل الفن الحقيقي. مهاب ناجي، رحمه الله، وُلد بشهادة وفاته تلك التي وضعها في أشعاره، تجربة صادقة، آمل أن تُقرأ وأن تعاد قراءتها، لكي يولد مهاب في كل مرة شخص جديد يتعرف فيها عليه.
عندما أنهيته شعرت بالغصّه. لربما بحار عقلي العاتية شعرت بالأُلفة اتجاه بحار ناجي مهاب، ولربما نملك نفس تلك البحار القاسية رحمة الله عليك يا ناجي، كلماتك تلامس القلوب ♡