قرأته ببطء وتأن واهتمام.. أعدت قراءة كل قصيدة مرات ومرات..شعور الخفة الذي لازمني طوال قراءة الديوان كان مصدره تفرد الشاعر: فأسلوبه أصيل بعيد عن أي تكرار أو حتى شبهة تأثر..شعور عام بالهدوء سببه عدم ازدحام القصائد بالمجاز..انتقلت لي سكينة المتصوفة وشيء من بصيرتهم المتأملة بكل سلاسة بعيداً عن أي تقعر أو استعراض لغوي..الديوان يستحق الجائزة ولا تكفيه قراءة واحدة..أفرح دوماً عندما أكتشف شاعر جديد، فما بالك باكتشاف شاعر شاعر؟
إن الواحد منا في احتياجٍ أكيدٍ لطريدةٍ تركض أمامه، يُطاردها ولا يُدركها، في حاجةٍ لسهامٍ لا تنفدُ ولا تُصيب، في حاجةٍ لأن يطيش سهمٌ فيعضّ على شفتيه، في حاجةٍ لأن يخِفَّ به الولعُ فلا يكف عن المطاردة، في حاجةٍ لأن تُجرحَ قدمه فيستشعر في نفسه التحدي والعزم. إن الواحد منا في احتياجٍ أكيدٍ لطريدةٍ لا تتوقف عن الدلال، طريدةٍ لا تخمد معها شهوتُهُ ولا تنطفئ روحُهُ.. الطريدة التي متى توقَّفَت عن الركض، أو نَشِبَ في رقبتها سهمٌ، أو وقَعَت في الشَرَك؛ كان وقوعها وقوع الصياد نفسه، والسهمُ الذي انطلق إليها ارتدَّ على صدر مُطلِقِه، وتوقُّفها عن الركض يجرح معنى الصيد والفروسية. اصطياد الطريدة ليس في مصلحتها، ولا مصلحة الفارس، فقط يصُبُّ في مصلحة ذئب الوحدة والخواء. كثيرًا ما تتأمل الطريدة الراكضة أمامك، فإذا هي حياتك.. حياتك أنت يا متيم.
افتحي البابَ يا فاطمة.. تقاضيتُ من الريحِ الغبار تقاضيتُ من الشمسِ السمار تقاضيتُ من القطاراتِ الدُّخان لم أتقاضَ زادَ ليلةٍ واحدة، لم أتقاضَ اطمئنان ليلةٍ واحدة، وأنّى للغريب الطمأنينة؟
قصيدة "افتحي الباب يا فاطمة" لا أقول عنها لامستني بل أقول عانقتْ روحي بقوة ، قرأتُني فيها ورأيتني في غُرباتي التي ما أنفكُّ أتقلب فيها منذ سنين عدة وأسألُ الله انتهاءها بأن تفتح فاطمةُ الباب لي.
يقول بوكوفسكي في إحدى قصائده: "لكن كما قال الله، واضعًا رجلًا على رجل، أعرف أني خلقتُ الكثيرَ من الشّعراء، لكن القليلَ من الشّعر!". وهو ما أكّده محمد المتيّم في ديوانه (افتحي الباب يا فاطمة)، بأبياته المنهكة (تُقرأ الكلمة بكل تشكيلاتها) مثل صاحبها، وقصائده الّتي تبتعد عن شبهة التّقليد أو المحاكاة. ظننتُ أنني قد أقرأ شعرًا عن التّصوف، عن العشق الإلهي، أو عن معجزات العشق عامةً، لكن المتيّم تكلم عن الشّعر والواسطة وأنصاف الموهوبين وعّمال المصاعد وسائقي النّقل العام، تحدّث عن الوظائف وغضبه من المشهد الثّقافي، تحدّث عن إنهاك الطّريق والرّحلة والحياة، عن الحبيبة والأب والأم والأخ، عن التّصوف وأهل الطّريقة، عن الإيمان الشّعبي الخالص، وذلك يعني تقديم تجربة شعرية أصيلة، صوت شعري يبحث باجتهاد عن التّفرّد. شعرتُ مع كل قصيدةٍ للمتيم، أن الشّعرَ ليس ملاذه، بل صديقه الوحيد، أو كتف حبيبته، أو حضن أمه وكف أبيه! لم يكتب المتيّم لنقول إنه شاعر، لكنه تفاهم مع الشّعر، بنبل الرّجال، وصراعاتهم وحروبهم، سواء اليومية مع لقمة العيش، أو الدّائمة مع سخافة الحياة، ونقل لنا تجربةً شعريةً صادقة، والصّدق أهم ما يميز الشّعر، والشّعر يحب المتيّم، والمتيّم خبيث! يقول عن نفسه إنه للأسف شاعر، أو إنه دخل مضطرا محراب الشّعر نملةً مدهوسةً بين ركاب المترو، لكن الحقيقة هي الّتي قالها بوكوفسكي، في خلق الله لقليل من الشّعر، وقد وافق الأخير على منح صك الإجادة للمتيّم.
رغم كرهي للقلقاس إلا إني أحبه من يد زوجتي ، كما أني لا أحب البط إلا بطريقة أمي ، ليس خطأ القلقاس أو البط ولكن خطأ الطهاة 😅
الكتاب رقم (٢١) لعام ٢٠٢٢م📚 والكتاب رقم (٤٨٧) من قراءاتي.
لا أحب الشعر الحديث المتحرر من القوافي والأوزان 🥱
ولكن..
الشاعر محمد المُتيم أصاب من إنتباهي ومشاعري شيئاً ليس هيناً.
أقنعني أن العيب ليس في اللغة إنما في اللُغوي ، وليس العيب في الشعر إنما في الشاعر ، كما أن العيب ليس في الدين ولكن المتدينين به 🙌
❞ لا تأْسَيْ على شيءٍ يا حبيبَتي لنا قميصُ يوسف مِهنتُنا الشَّوق–
وللسّاسةِ قميصُ عثمان –مِهنتُهم الدسيسة–
لنا عصا موسى نهُشُّ بها أفكارنا على عُشب اللغة ولهم عصا سليمان يُسَخِّرون بها كتائب المَرَدَة ❝
الديوان هو شوق المُغترب و لهفة العائد وحلم الإياب وقبلة المشتاق 🙏
القصائد متنوعة ولكن لها هدف موصولة إليه..
إلي فاطمة.. أخت الشاعر الذي جعل إليها شوق إيابه ، ثم جعل من كل إمرأة يشتاقها فاطمة ، وكل رغبة في العودة إلي الوطن ، فاطمة. ❤️
لكل منا فاطمة ، قد تتغير المسميات ولكن بداخلنا فاطمة نبغيها سواء كانت أم او أخت أو حبيبة.
دوما يشتاق الإياب وكلما توجه ذكر الشاعر جهة الجنوب ، لم أفهم المغزى من الجنوب ، إلا عندما قرأت عن الشاعر وكان من الصعيد 👌 فكان إتجاه أشواقه دوماً جنوباً.
قد يكون الجنوب اتجاه الشوق في القصائد نحو الوطن ، ولكن لكل منا جنوب نشتاق إليه ، وإن اختلفت الإتجاهات ، فقد يكون جنوبك هو الشمال او الشرق او الغرب لا يهم ، المهم أن تشتاق لمعني الجنوب "الوطن" ❤️🙏
❞ التقى ثلاثةٌ من أصدقائي ذات مساءٍ بعيدٍ، وزايَدَ بعضُهم على بعض. قال أحدهم: أنا أعرِفُهُ من قبل أن يعرف التدخين! ردَّ عليه الثاني: أنا أعرِفُه منذ كان خجولًا! ثالثُهُما ابتَسَمَ ولم يُزايد، فقط، هنيئًا له، نؤرِّخُ لحياتِنا بهزائِمِه في الحياة! كنتُ يومَها في بلدٍ بعيدٍ أبحثُ عن لقمةٍ غير معجونةٍ بدمعةِ أُمّ عن رايةٍ لا تُعيدُني لزمن القبيلة عن شارعٍ لا تُعرقِلُني فيه نخلةٌ ولا جنازةُ قريب.
كان الأصدقاء يؤرّخون لحياتهم بهزائمي،
وكنتُ
–في بلدٍ آخَر–
أضبطُ لهم التقويمَ بهزائمَ طازجة
كانوا يضحكون،
وكنتُ أفتتحُ عصرًا من النحيب… ❝
🔴 لقد أصابني الرجل بمعانيه في لب العقل ، صرت أعيد القصائد جيئة وذهاباً ، أنظر نحو السماء صامتاً ، أقلب الأفكار وهي تجري في عقلي جريان السحب⛅
🔴 من قصيدة ( أنا .. وأنت )
❞ الغيمةُ فوق نَبِيٍّ تمنَحُهُ آيةً الغيمةُ فوق مسافرٍ تمنَحُهُ أملًا الغيمةُ فوقي أو فوقكِ/ تنعكسُ ضبابًا على الورقة الفيلسوف يتكلَّمُ عن الجوهرةِ في الوَحْل الثوريُّ يتكلم عن الحصاةِ في كَفِّ الصَّبيَّة أنا وأنتِ نتكلم عن الورم فوق الحنجرة
الأم تريد الشمسَ حارقةً ليختمِرَ خبزُها الأب يريد الشمس حانيةً وهي تمسَحُ قفاه أنا وأنتِ نُريد الشمسَ على أيّ حال، نريد مجيئها، لأن القصائد لم تَعُدْ تأتي بالليل الأوّلون يُبَشِّرون بالحداثة الآخِرون يُنافِحون عن القبيلة أنا وأنتِ نرتُقُ جلبابَ الزمن نبسطُ سجّادةً من دارِ المعرّي لمكتبة اليونسكو
"وعلى الشعراء الشعراء الصارخين في البراري مُشيّدي الجسور فوق فوهات الضجر المُصلّين لله بالحيرة على قارعات الليل التمترسُ خلف بلاغةٍ أخفّ على اللسان وأثقلَ في القلب. بلاغةٍ تنبثقُ عن الشّامة تحت إبطِ الحبيبة لا في جبهةِ الفَرَس!" مُحَمّد المُتيّم. في مُستهَلّ عام 2021 صالَحني على هذا النوع من الشعرِ المتخففِ من الموسيقى الكبيرُ مريد البرغوثي في ديوانه "الحب غابة أم حديقة"، ولأكون أكثر دِقَة صِرتُ جاهزة لتَلَقّيه، فالديوان منشور قبلها بخمسة أعوام وأعرف مريد من زمنٍ أبعد، ولم يَرُق أبدا لي. جاهزية التلقي هذه مهمة جدا، وهي غير مرتبطة بعِلم أو فِكر بقدر ما هي مرتبطة -في نظري- بالاستعداد والقدرة على التجرد، على خفض التشويش. ولأن العلاقة بين الكاتب والقاريء يسري عليها ما يسري على مختلف العلاقات الإنسانية، فتحقق درجة تواصل عالية قد تزيد من فعالية حواس القاريء، تنقله إلى مستوى أكثر شفافية ونقاوَة، يختبر معها الأشياء مجردةً على إطلاقها. هذا ما أسمّيه أنا التماسّ مع عميق الدواخل لا الحفر لها وفيها، عمق غير مُفتَعَل وتوجّع شريفٌ شافي. "افتحي الباب يا فاطمة" في الحقيقة العنوان وحده دَسِم للغاية، ودون أن أعرف ابتداءا مَن هي فاطمة امتلأتُ بأنّة المناجاة، وعرفتُ أني بالضرورة سأقتني هذا الكتاب في لحظةٍ ما. عادةً ما أعرِف الكُتّاب على المنصات الإلكترونية ثم ألتقي بهم وسط الجموع هنا أو هناك لمزيدٍ من التعرف والاستكشاف. ديسمبر الماضي حدث العكس؛ حضرتُ لقاءا خفيفا قابلتُ فيه شخصا صامتا لا تُخطيء العين دماثة خلقه، يشي حضوره وقلّة تلهفه على الكلام بالثراء والتواصل، وعندما تحدّث تأكد حدسي، فكان الشاعر محمد المتيم . التهمتُ الديوان في ليلتَيْن رغم تفضيلي للتشرّب على مهل وعدم رغبتي في انتهائه، لكن ما استشعرته أيضا أن هذه الكلمات لن تُقرَأ مرّة واحدة، ستعود إليها من وقتٍ لآخر طلبا للفهم، وإعادة النظر، والاستئناس والمتعة، تماما كما -لا يزال- ديوان الحب غابة أم حديقة. ربما أُصِبتُ بدرجة من جَزعة البيان، جزءٌ منها يعود إلى ضغطي للديوان في ليلتَين، والآخر أرى أنه لن يستغرق وقتا طويلا حتى يتخفف منه الشاعر أكثر وأكثر. أكتب هنا لأشكره على شيئين؛ الأول هو تَمسُّكه بصِدقه، وإيمانه بما يكتب دون الاهتمام إلى أين سيصل -وهذا صعب-، على عكس موجات شائعة في الكتابة الآن تدفع الكتّاب لأشياء -هي في نظري- بعيدة عن روح الكتابة التي أعرفها، وهذا باعِثٌ على الأمل والتشجيع معا. الثاني هو إهدائه الكريم لهذا الديوان في لحظةٍ بعَيْنها، فيما أرى أنه يتماشى تماما مع دوافعه للكتابة، بل حالته كاتِبا والتي تمثّلت أمامي أثناء القراءة. هذا الإهداء يعني لي الكثير. كما أود أن أبعث بالسلام إلى فاطمة، فكُل أُمَيْمَة هي لوجودي أنيسة.
"افتحي الباب يا فاطمة" نداءٌ يحمل في طيَّاته حلم الإياب والعودة. افتحي الباب يا فاطمة، دعينا نستمع لأنين الشاعر، لصراخه المكتوم، لأغانيه المليئة بالألم، لصدى الخُطى على درب العودة. كلماتٌ محمَّلةٌ بالشوق، تطرق أبواب المشاعر الدفينة، ونغماتٌ على أوتار الحزن والحنين.