من التيار الماركسي إلى التيار القومي إلى التيار الفلسفي، ومن سمير أمين وتوفيق سلوم إلى زكي الأرسوزي ومحمد عمارة إلى زكي نجيب محمود ومحمد عابد الجابري، والتراث العربي الإسلامي مسرح لحرب بديلة لا تقلّ ضراوة وعمقاً عن تلك التي شهدتها الساحة الأيديولوجية في الستينيات...ومن هذه الحرب التي تتّخذ شعاراً لها: ماذا نأخذ من التراث وماذا نترك، يخرج التراث ممزّق الأوصال مشوّه المعالم مغرّباً عن ذاته بعد تمريره في غربال التقدّمية الطبقية تارة، والنقاء القومي طوراً، والتشريح العلموي تارة ثالثة.وهذا الكتاب يخوضها بدوره حرباً نقدية مريرة دفاعاً عن وحدة التراث وحقّه في التعاطي المعرفي معه بعيداً عن الأيديولوجيا وصراعاتها وإسقاطاتها.
مفكر وكاتب وناقد ومترجم عربي سوري، من مواليد مدينة حلب عام 1939، يحمل الإجازة باللغة العربية والماجستر بالتربية من جامعة دمشق. عمل مديرا لإذاعة دمشق (1963-1964)، ورئيساً لتحرير مجلة " دراسات عربية" (1972-1984), ومحرراً رئيسياً لمجلة "الوحدة" (1984-1989). أقام فترة في لبنان، ولكنه غادره، وقد فجعته حربه الأهلية، إلى فرنسا التي يقيم فيها إلى الآن متفرغا للكتابة والتأليف.
تميز بكثرة ترجماته ومؤلفاته حيث انه ترجم لفرويد وهيغل وسارتر وبرهييه وغارودي وسيمون دي بوفوار وآخرين ، وبلغت ترجماته ما يزيد عن مئتي كتاب في الفلسفة والايديولوجيا والتحليل النفسي والرواية. وله مؤلفات هامة في الماركسية والنظرية القومية وفي النقد الأدبي للرواية العربية التي كان سباقاً في اللغة العربية إلى تطبيق مناهج التحليل النفسي عليها.
من أبرز مؤلفاته: "معجم الفلاسفة" و"من النهضة إلى الردة" و"هرطقات 1 و2" ومشروعه الضخم الذي عمل عليه أكثر من 20 عاماً وصدر منه حتى الآن أربعة مجلدات في "نقد نقد العقل العربي"، أي في نقد مشروع الكاتب والمفكر المغربي محمد عابد الجابري، ويوصف هذا العمل بأنه موسوعي إذ احتوى على قراءة ومراجعة للتراث اليوناني وللتراث الأوروبي الفلسفي وللتراث العربي الإسلامي ليس الفلسفي فحسب، بل أيضاً الكلامي والفقهي والصوفي واللغوي ، وقد حاول فيه الاجابة عن هذا السؤال الأساسي: هل استقالة العقل في الإسلام جاءت بعامل خارجي، وقابلة للتعليق على مشجب الغير، أم هي مأساة داخلية ومحكومة بآليات ذاتية، يتحمل فيها العقل العربي الإسلامى مسؤولية إقالة نفسه بنفسه؟
أهم نقاط المسار الفكري لطرابيشي هو انتقاله عبر عدة محطات أبرزها الفكر القومي والثوري والوجودية والماركسية.
انتهى طرابيشي إلى تبني نزعة نقدية جذرية يرى أنها الموقف الوحيد الذي يمكن أن يصدر عنه المفكر، ولا سيما في الوضعية العربية الراهنة التي يتجاذبها قطبان: الرؤية المؤمثلة للماضي والرؤية المؤدلجة للحاضر.
ما يريد طرابيشي لفت النظر إليه في هذا الكتاب هو مشكلة التعاطي مع التراث بشكل تجزيئي مقطّع الأطراف على اختلاف توجهات من تعرّض لقضية التراث، ففي الشق الأيديولوجي نرى الماركسية ( سمير أمين وتوفيق سلوم ) والقومية العلمانية ( زكي الأرسوزي ) والقومية الإسلامية ( محمد عمارة ) وفي الدراسات "العلمية" للتراث ( الجابري - زكي نجيب محمود )، كل هذه الدراسات على اختلاف التفاصيل التي تنتهي إليها تصل في الأخير إلى نتيجتين: عملية إسقاط ("تأوّل العصر السالف على صورة عصرنا") والحذف، أي بتر تلك الأجزاء التي لا تتطابق مع سرير الأيديولوجيا، والضحية: التراث نفسه والحقيقة العلمية. بغض النظر عن بعض الأمور التفصيلية في نقده والتي قد يُجادل حولها، إلا أن الفكرة العامة ( تشظية التراث، وأخذ ما يناسبنا منه ) قضية مهمة في موضوع دراسة التراث ينبغي أخذها بعين الاعتبار.
تقوم فكرة كتاب مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة على رصد المذبحة بين تيارات متعددة تتفق جميعها في الجوهر، وهو الانتقاء من التراث بما يخدم الغرض والحاضر. قام طرابيشي بتقسيم كتابه إلى ثلاثة فصول تناول فيها البحث في ثلاثة تيارات فكرية، خاضت في معركة التراث، وهي: الماركسية، والقومية، والعلمية. يبدأ طرابيشي محاكمته للفكر العربي المعاصر بتناول مذبحة التيار الماركسي. فيعتبر أن الماركسيين العرب يريدون إحياء (موقف لينين) من التراث، عبر التأكيد أن التراث ليس كلاً واحداً متجانساً ليؤخذ كله أو يرمى كله، بل التراث حقل للصراع.. ثم يعرض موقف التيار القومي من التراث والذي يبحث عن النقاء القومي لا النقاء الطبقي. فالقومي يريد شأنه شأن الماركسي أن "يخضع جسد التراث لعملية جراحية" ويقسم المؤلف التيار القومي إلى تيارين: التيار القومي العلماني: يدعو إلى انطلاق القومية من العصر الجاهلي كونه بعيدًا عن اختلاط العرب بالأعاجم . والتيار القومي الإسلامي: يدعو إلى العودة لعصر نشأة الإسلام كونه الأساس. وفي الفصل الثالث والأخير يتناول طرابيشي تلك المذبحة النظرية للتراث التي مارسها التيار العلمي، ويقسم هذا التيار إلى نموذجين:- النموذج العلمي البراغماتي ويمثله المفكر زكي نجيب محمود في كتابة “تجديد الفكر العربي“ النموذج العلمي الابستمولوجي (المعرفي) ويمثله المفكر محمد عابد الجابري وقد أفرد طرابيشي نصف صفحات الكتاب تقريباً لنقد الجابري، وهذا ليس بالأمر الغريب كونه اشتهر بمعركته الفكرية مع الجابري، فقد قضى مايقارب ربع قرن في نقد أطروحاته ومشروعه الفكري.
لم أقيم الكتاب لأني في حاجة إلى قراءات كثيرة لتشكيل وعي فكري قويم يمكنني من تقييم كتاب كهذا.. ولكنه بالتأكيد كتاب مهم يتناول قضايا مهمة في الفكر العربي المعاصر وربط الفكر المعاصر بالتراث القديم.
في الريفيوهات المكتوبة عرض لأفكار الكتاب وفصوله، فلن أعيدها، وفكرته تتلخص في نقد المحاولات المؤدلجة دوما لتقديم التراث في اتجاه معين عن طريق حذف غير الملائم وإسقاط مشاكلنا المعاصرة عليه وأزماتنا النفسية. كان هذا الكتاب هو الثاني في قرائتي لجورج طرابيشيي بعد كتاب نظرية العقل الذي هو أول سلسلة نقده العميق لمشروع عابد الجابري. رغم أن كتاب "مذبحة التراث" سابق عليه وممهد له. ولكن قد أختلف مع بعض القراء الأفاضل في رفضهم للكتاب والكاتب من باب أنه "نقد وهدم" والنقد أسهل كثيرا من البناء، ذلك أن في بعض النقد بناء وإعادة فهم، وهذا ما فعله في كتاب نظرية العقل، حيث أنه لم يتوقف عند بيان الأخطاء أو المغالطات، بل غاص في رحلة لإعادة رسم الصورة الصحيحة لكثير من القضايا والفلسفات وربطها بسياقها الفلسفي والتاريخي. الفكر ينمو بالنقد البناء المنهجي ويجب ألا نعتبره مضيعة للوقت والجهد حتى ولو اختلفنا معه، بل قد يكون النقد أشد أهمية من البناء المغشوش. اعتمد طرابيشي في هذا الكتاب على ثنائية : الإسقاط والحذف. الأسقاط بالمعني النفسي له أي إسقاط مشاكلنا على التراث. والحذف هو بتر لما لا يتفق مع قرائتنا المؤدلجة للتراث. وقد نجح كثيرا في رأيي باستخدام هذين المعيارين في تفكيك بعض الطروحات الفكرية التي أخذ بعض نماذجها، وإن كان في نقده لاذعا وأحيانا غير رحيم بما يُمكن أن يُغتفر من تناقض في بعض الآراء إذا فهمناها على أنه تطور ونضج للأفكار لا تناقض ولكن هذا لا يخل بالقضية الأساسية على كل حال. أسلوب الكتاب أدبيا ممتع وإن كان يحتاج لحصيلة ثقافية لا بأس بها وربما يواجه القاريء الذي لم يقرأ في الفلسفة المعاصرة شيئا بعض الصعوبة في فهم بعض المصطلحات بل والتشبيهات المجازية والتهكمات، لكنه منطقي في نقده وموضعي إلى حد كبير. الكتاب صغير الحجم قرأته في مجلسين أو ثلاثة في يومين
قد نكون أكثر أمم الأرض تعلقاً بتراثها وولعاً بهِ، بل الكثير منا يكاد يكون غارقاً بهذا التراث، هارباً إليهِ من حاضرنا المعتم.. يسلط جورج طرابيشي الضوء على عدة تيارات ثقافية تعاملت مع التراث بصورة يسميها مذبحةً لهذا التراث.. فالكتاب محاولة نقدية تهدف للدفاع عن هذا التراث ككل في مقابل محاولات هذهِ التيارات التعامل مع التراث كسوبرماركت تأخذ ما تريد منه وتهمل ما تريد.. التيارات التي ناقشها ثلاثة: 1- الماركسيين.. 2- القوميين.. 3- التيار العلمي..
بحث لثلاث تيارات فكرية خاضت في معركة التراث: ماذا ناخذ منه وماذا نترك وهي الماركسية والقومية والعلمية ويبحث في كل تيار ابرز علمين من اعلامها وعلى جمال الطرح في بعض القضايا إلا ان هذا الكتيب الصغير 140 صفحة قد افرد قرابة نصفه تقريبا (نحو 60 صفحة) لمعاركة الجابري وحده. كتاب جيد وفيه عرض لبعض الرؤى الجيدة
الكتاب برغم صغر حجمه إلا انه يمثل مراجعة شاملة لمشاريع نقد التراث العربي و الإسلامي و تفنيد لدعاوي تفكيك التراث و الانتقائية الثقافية من اجل خدمة مشاريع تغريبية ارادت إثبات نوع من الاصالة الفكرية لها في التراث و هذه المشاريع هي ( الماركسية -القومية - العلمية البراغماتية - العلمية الإبستيمولوجية ) يخصص طرابيشي الجزء الاخير و الاكبر من كتابه في نقد نظرية الجابري في الصراع بين المدرسة الإشراقية ذات الاصول الغنوصية في المشرق العربي و المدرسة الفلسفية ذات الأصول العقلية في المغرب العربي الكتاب له أهمية بتاعة لانه يمثل مرشد عمل لمشروع طرابيشي المفند لمشروع نقد العقل العربي الجابري و الذي أخذ اسمه ب (نقد نقد العقل العربي ) رافضا نظريات العقل المستقيل في الاسلام و التهجم على آخوان الصفا و ابن سينا باعتبارهم دعاة هرمسيات ادخلت الفكر العربي في دوامة من اللاعقلانية و حاولت التوفيق بين التراث و الهرمسيات المشرقية . كتاب مهم في نقد التفكير في التراث في عصرنا و دعوة غير مباشرة للتوقف عن بتر نصوص التراث عن صيغتها التاريخية و توظيفها الأيدولوجي و الفكري المبتسر لخدمة أفكار خارجة عن روح التراث نفسه.
جورج طرابيشي الذي قرأته ( في طوره الابستمولوجي من حياته الفكرية ) من خلال اربعة كتب عرفته الآن وهو في نقطة البدء بثوبه الجديد بعد أن تخلص من دنس الآيديلوجيات وتوشح بكل ما تحتم عليه الموضوعية والحياد والمعرفة لذاتها للانطلاق في التعاطي مع التراث
كتاب صغير الحجم ، دسم الفكر يقدم فيها الابستمولوجي العظيم جورج طرابيشي ما كان قد عقد العزم عليه بنقد مشروع محمد عابد الجابري وهذا ما يتجلى في النصف الثاني من الكتاب اذ لم تكون سوى بداية لشحذ الأسلحة والتشمير عن السواعد للبدء في مشروعه النقدي الضخم والمرجعي والمهم ألا وهو ( نقد نقد العقل العربي ).
هذا الكتاب هو مقدمة طرابيشي لمشروع ”نقد نقد العقل العربي“ كما وضّح في نهايته. يناقش هذا الكتاب موقف التيار الماركسي من التراث متمثلا في توفيق سلوم، وبعد ذلك موقف التيار القومي العلماني زكي الأرسوزي والإسلامي محمد عمارة، ثم موقف التيار العلمي من التراث متمثلًا في زكي نجيب محمود ومحمد عابد الجابري. أما الجابري فقد خصص له طرابيشي مايقرب من نصف الكتاب لنقد نظرة الجابري إلى التراث. فالجابري استبعد الشعر بحجة أن الشعر لغة الوجدان ”لم يستشهد أبدا ببيت شعر واحد“، واستبعد النثر الفني لدى العرب كألف ليلة وليلة وأخبارهم كونه لغة للخيال ”والخيال عنده ملكة مفارقة للعقل“، كما استبعد أيضًا النثر العلمي كالتاريخ والطب ”فهذه لغة وقائع وعيانيات، بينما لغة العقل هي لغة المعقولات والمجردات“ لكن طرابيشي يستشهد بفوكو قائلًا أن فوكو رائد التحليل الابستمولوجي اقتحم معاقل السجون ومصحات الامراض النقسية ”اللاعقل“ بينما الجابري يهمل حضارة كبيرة ”الشعر“ والتي أنتجت العقل العربي.
اتهم طرابيشي الجابري بأنه يُشعل الطائفية في كتابه هذا لأنه تبنى في كتابه فكرة ماسينيون بأن ”الشيعة هم أول من تهرمس في الإسلام“ ا دافع طرابيشي عن جابر بن حيان في كونه أول فلاسفة اللاعقل في الإسلام بسبب الهرمسية، ورغم اعتراف الجابري بأنه بن حيان قد ”تهرمس“ قليلًا أو كثيرًا، إلا أنه يجب ألا ننسى تخصيصه كتابًا للمنطق. (هذا يعني أن جابر بن حيان كان متهرمسًا فعلًا كما قال الجابري). ثم دافع عن الرازي تهمة الغنوصية الهرمسية وقال أنه ترك ”الصنعة“ في وقت مبكر من حياته واتجه إلى الطب (لكن طرابيشي لم يذكر أن الرازي -وبعيدًا عن الصنعة- كان له كتاب اسمه ”السر المكتوم في مخاطبة النجوم!) ودافع عن إخوان الصفا- تهمة الهرمسية- الذين قالوا أن ”الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة“، رغم أنهم هاجموا المتكلمين (ودفاعهم عن الفلسفة والمنطق لايعني أنهم غير متهرمسين، فمن يقرأ عن إخوان الصفا سوف يجد في كلامهم من الهرمسية) …
رغم أن حكمي من هذا الكتاب على تفوق الجابري على طرابيشي مازال مبكرًا جدًا (لم اقرأ بعد نقد نقد العقل العربي)، إلا أن هذا الكتاب كان تشويقة جميلة لقراءة قادمة لسلسلة طرابيشي في الرد على الجابري.
في الفصل الثاني من الكتاب يتضح الاشتغال النقدي وعملية نقد النقد بشكل او ضح وخصوصا عند نقد الجابري رغم عدم محبتي لتداخل الجمل العاطفية او التهجمية من قبل المؤلف مثل (عاهتين ) وسواه او تشبيه حالة ما ب ( فقير هندي) فالمؤلف مثلا كان يقتبس نص الجابري ثم يضع النص الاصلي ويلفت الا ان الجابري اقتطف جزء من النص وتعمد عدم وضعه في كتابه(نقد العقل العربي) ثم بت كيف يكون هذا النص المتعمد اقتطاعه له اثره في تغيير ما يريده المؤلف الاخر كمثال عند الحديث عن اخوان الصفا مثلا ولم يكتف بالمقارنة بين النصين بل جلب نصوص اخرى لاخوان الصفا المنشورة بذات رسائلهم تثبت عكس ما اراد الجابري وتدفع التهمة التي اوردها عليهم من عدم احترام علوم الكلام
الكتاب منذ عنوانه يثبت عنوانه ولا يقدم سوى نظرية اثبات عنوانه محاولا تفكيك وفضح مسارات الخطابات واتفاقها على ذبح الجزء الاكبر من التراث وبغض النظر عن اتفاقنا مع صحة او عدم صحة حاجتنا الى هذه العملية من الذبح او الغربلة ( كصورة متخففة ومؤدبة) فالكتاب يثبت ان هذه العملية ممارسة بشكل عنيف من قبل النقاد ويحقق هدفيته بستحق القراءة لا لاثبات ان المذبحة حقيقية بل لاذكاء الفكر بعملية نقد النقد وحرية محاكمة النقدين ولعله يفتح باب لنقد نقد النقد
يبدأ جورج طرابيشي كتابه النقدي ببيان أثر الهوّة الواسعة التي تفصل بين الحضارة الغربية وبيننا، والتي تترك أثرها كجرح عميق في نفس العربي، يجعله يحاول تجاوز هذا الجرح بتبني قيم وأفكار الحضارة الغربية، أو محاولة تضميد هذا الجرح بالبحث في تراثه عن بذور نهضوية ينطلق منها لبناء نهضته، ولكنه حين يفعل ذلك، يقع في شباك ما يسميه الكاتب بأدلجة التاريخ، أي قراءة التاريخ قراءة معتمدة على أفكار ومسلمات سابقة في ذهن القارئ، ما يجعله يأخذ من التاريخ ما يتوافق مع أيديولوجياته وأفكاره، أو الأيديولوجيا والأفكار التي يحاول أن يثبتها بشواهد تاريخية، ويترك من التاريخ ما يتعارض مع فكره، سواء الترك الحرفي بمعنى تعمد عدم الإطلاع على فكر أي تيار في التاريخ يعارض أيديولوجيا القارئ، فيمحي وجوده من التراث والتاريخ، أو أن يسيء تأويل النصوص المعارضة لأيديولوجيته ويجعلها تطابق نظرته، كما فعل العديد من الباحثين في التراث، وبلا شك فإن القراءة الأيديولوجية للتراث هي قراءة لاموضوعية، ولا تُعنى بالوقائع التاريخية، وتكون استنتاجاتها معتَمَدة مسبقاً لدى ذهن القارئ، وليست معتَمِدة على حقائق التاريخ، ولهذا يكتب طرابيشي:
"إن التراث المؤدلج هو تراث بلا حقيقة تاريخية"، ومن هنا، من تيقنه بأهمية القراءة الموضوعية للتراث، ينطلق طرابيشي لنقد قراءات تراثية لدى العديد من الباحثين العرب في التاريخ، لكونها قراءات معتمِدة في الأصل على نظرة مسبقة للتراث يحملها الباحث في ذهنه ويحاول إثباتها من وقائع التاريخ، متجاهلاً كل ما يتعارض معها ضمن هذه الوقائع التي يدرسها، فيبدأ بقراءة د. جلال عبد الله معوض للتراث في إحدى المقالات التي نشرها في كتاب " الديموقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي"، فكانت نظرة د. معوض للتراث نظرة تبرئه من ممارسات الظلم السياسي، وتجعل من دكتاتورية الحكم اليوم حالة شاذة عن الوضع "الديموقراطي" الذي ساد الدول العربية فيما سبق: في العصور الإسلامية وحتى نهاية العصر العباسي، ولكن هذه الرؤية نجد عكسها تماماً لدى د. حسن حنفي الذي يعتبر الوضع الدكتاتوري العربي اليوم ما هو إلا استمرارية لتراكمات الماضي الدكتاتوري العربي، والمتمثل في الإقصاء المستمر للأحزاب السياسية وطوائف الفكر المختلف عن الفكر الذي تعتمده الحكومة، وعندما نعلم أنما هو تاريخٌ واحد بحث فيه كلاً من د. معوض ود. حنفي، ندرك أنهما بحثا في التراث متأثرين بأيديولوجيا مسبقة لديهما، أصارت نتائج بحثيهما متعارضة رغم نظرهما في التراث نفسه، وهنا، تضيع الحقيقة التاريخية، أو على الأقل، النظرة الموضوعية لها والغير مؤدلجة مسبقاً، ويتم إسقاط الأيديولوجيات عليها من كل قارئ، تلك الأيديولوجيات التي لا تعدو كونها "شاشة للإسقاطات النفسية التي يقوم لها الجرح النرجسي مقام المحرك".
وإذا كان الفكر المسقط على التراث فكراً قومياً علمانياً كما عند د. زكي الأرسوزي، فإن الانتقاء من التاريخ سيكون لصالحه، وسيؤمن الباحث أن تحضر العرب يكمن في عودتهم إلى الحال التي كانوا عليها قبل إسلامهم، فالإسلام بنظره أحد أهم الأسباب التي جعلت العرب يختلطون مع شعوب العوالم الأخرى وينسون طباعهم ليتقلدوا طباع الشعوب التي فتحوها، أما إذا كان الفكر المسقط فكراً قومياً إسلامياً، كما عند د. محمد عمارة، فستكون قراءة التاريخ قراءة تأخذ منه الصراع بين التيارات الفكرية والقومية المختلفة، والمتمثلة في الصراع بين التيار القومي العقلاني العربي الإسلامي، وبين التيار الشعوبي اللاعقلاني الفارسي الغنوصي، كما فعل د. عمارة، مسقطاً حاجته النفسية في تضميد الجرح النرجسي الناتج عن تخلفنا وتحضر الغرب، على التاريخ العربي الإسلامي، بجعل العرب أصحاب التيار العقلاني القومي قبل أن يصبح الغرب كذلك الآن، ولكن موقفه هذا، كما يقول طرابيشي، لا يضمد الجرح النرجسي، بل يزيده إيلاماً وحُرقةً، لأننا باتخاذنا هذا الموقف نكون قد أثبتنا شيئاً لماضينا، شيئاً نحن بأمس الحاجة له الآن، وقد أثبتناه لماضٍ ولّى، ما يجعل الجرح في تعمق، ويجعل من عقدة النقص الحضاري التي تعترينا تتحول إلى عُصاب شالٍّ لكل فعالية تاريخية .
إضافة إلى نقد طرابيشي لموقفه، فإن محمد عمارة لم يوفَّق في استخدام لفظَي 'القومية' و 'العقلانية' في وصف التيار العربي الإسلامي عبر التاريخ، فالقومية مفهوم لازال وليداً ولا زال العربي تجاهه متلبكاً بين لفظه الذي يناصر العصبية ومعناه الذي أُريد منه التعبير عن إحدى مظاهر الحداثة، والعقلانية عند التيار العربي اتخذت معنى مختلفاً عن الذي تعنيه اليوم في الفكر الحداثي، فعقلانية المسلمين كانت ولا تزال تدور في فلك المنقول، وعقلانية الفكر الحداثي تجعل من العقل يعلو فوق كل شيء.
كما نقد طرابيشي أعمال الحذف التي قام بها د. عمارة للتاريخ العربي الإسلامي لأجل أن يجعل وقائعه التي تثبت أيديولوجيته القومية الإسلامية هي فقط الموجودة والحقيقية، بينما تلك الوقائع التي تمثلت في ازدهار الفكر الأندلسي العقلاني رغم طابعه اللاقومي ، و في دولة شرق العراق وصولاً لسمرقند، فهي غير موجودة في تأريخ د. عمارة، لأنها تعاكس أيديولوجيته المسبقة، "فليس المخطط بحد ذاته هو الذي يُعدَّل أو يُصحَّح، بل إن الحقيقة التاريخية هي التي تُحذف".
كما وقد ربط د. عمارة بين التقدم العقلاني والتقدم القومي، وجعل أحدهما شرطاً للآخر، دعماً للفكرة المسبقة في ذهنه حول كون التيار العربي قومياً وعقلانياً، فعندما اشترط في ذهنه تلازم الصفتين، أسقط ذلك على التاريخ جاعلاً من حركة عقلانية إسلامية كالمعتزلة، حركة قومية تُنسب للعرب، على الرغم أن أكثرهم من الموالي، بشهادة د. عمارة نفسه، كما أن من البدهي ألا وجود للتلازم بين العقلانية والقومية، على الأقل حسبما يخبرنا به التاريخ، ولكن د. عمارة يؤدلج التاريخ متخذاً مثالاً من ازدهار العقلانية في ظل الحكم الأموي القومي، وانتشار التخلف في ظل الحكم الغير قومي كدولة المماليك والأتراك، متغاضياً عن باقي وقائع وحقائق التاريخ التي تنفي ادعاءه، أوضحها: ازدهار العقلانية العربية في الدولة العباسية التي كان العنصر الغالب في جهازها الحكومي هم الموالي الفرس.
حتى المحاولات العلمية لفهم التراث والتي تحاول قدر استطاعتها فهم التراث بشكل موضوعي قد تغدو شكلاً من أشكال أدلجة التراث إن هي أضفت صفة اليقين على أي استنتاجات تخلص إليها، فالهاجس الأيدولوجي يبقى هناك، في لاوعي الباحث الموضوعي، يحكم قراءته ويوجهها، حيث إن "النزعة التشطي��ية تبدو أشد فتكاً في الحالات اللاشعورية منها في الحالات الشعورية لطغيان الهاجس الأيدولوجي على الدراسات التراثية، ومن هذه المحاولات المتأثرة بالموجه الأيدولوجي اللاشعوري، محاولة د. زكي نجيب محمود في تجديد الفكر العربي، فقد نقده طرابيشي لنظرته الانتقائية للتاريخ، والتي بوساطتها أقرّ أن الحضارة هي ما يمكن أخذه من التراث وما يمكن تركه، ومعيار الأخذ والترك هو حاجة الحاضر، أو النفعية البراجماتية، والتي تهتم بمدار التطبيق العملي ولا تكترث للعلم النظري، خاصة عندما يقرّ د. محمود أن العلم النظري لا قيمة له ما لم يرتبط بعمل تطبيقي، لهذا ، فإن مفهومه للتحضر هو أن نستقي من تاريخنا ما يساعدنا على أن نلحق بركاب المجتمعات الغربية، مجتمعات الآلة والتقنية، ملغياً أي معنى آخر من معاني التوفيق بين التراث والتحضر، وهذا لا يجدد الفكر العربي كما يُعنوِن د. محمود، بل يقتله ويزيحه ع�� ساحة الحاضر العربي.
أما الانتقاءات التي قام بها د. محمود فكانت في موقف أبو حيان التوحيدي بشكل خاص، وموقف المعتزلة بشكل عام، أما اللغة، فاتجه د. محمود لإنكارها في ذاتها ودعا لأن نأخذ شكلها الخارجي فقط، نملؤه بالمعاني المستقاة من حضارة أوروبا وأمريكا، تماماً كما سنأخذ موقف المعتزلة الفكري دون المضمون، وبهذا نحقق 'التواؤم' بين القديم والجديد، حيث "لا سبيل إلى أن تكون الثقافة العربية معاصرة إلا بقدر ما تكف عن أن تكون عربية".
وينتقل طرابيشي للباحث العلمي الثاني للتراث العربي، ولكن بمنهج ابستمولوحي (معرفي) هذه المرة، د. محمد عابد الجابري في نقده العقل العربي، فعندما اعتبر الجابري أن المعقول الديني يتمثل في الفكر السني، وأن اللامعقول العقلي يتمثل في الفكر الشيعي، فهو بذلك قد أطلق تعميمات جائرة بحق كلا الطرفين، ففي حين كان الغلاة من الشيعة فقط هم من تأثروا بالهرمسية، كان المعقول الديني غير شامل لديوان العرب، الشعر، ولا لثقافتهم التي وسمها باللاعقلانية، واكتفى بأخذ النثر العقلاني منها، غافلاً عن أن العقل العربي تكوَّن من ثقافة اللاعقل جنباً إلى جنب مع ثقافة العقل، كما ويصف طرابيشي تغافل الجابري عن عقلانية كل من جابر بن حيان وأبو بكر الرازي وتركيزه على بعض ما تركا من مؤلفات العقل المستقيل بأنه انتزعهما انتزاعاً من حقل العقلانية، خاصة عندما لاحظ طرابيشي سوء استشهاد الجابري بنصوص الرازي وسوء تأويلها، وإسقاط ما يتعارض منها مع أيديولوجيته لإثبات صفة اللاعقلانية على الرازي حتى في أبرز نصوصه التي ظهرت فيها عقلانيته.
ويشير طرابيشي إلى نقص استشهاد الجابري الكبير عند نقله عن إخوان الصفا، النقص الذي جعل استنتاجاته حولهم مغلوطة الصحة، فرسائلهم حملت من الأفكار: الفلسفية والمنطقية، ومن الاتجاه والأسلوب: الانفتاح وتقبل التعدد والاختلاف والحداثية، ما يثبت خطأ استنتاج الجابري حول كون رسائلهم عبارة عن مدونة هرمسية كاملة! فحول حديثهم عن المنطق، أساء الجابري التأويل مع وضوح المعنى من السياق، ذلك أنهم عندما تكلموا عن حالة وجدانية سامية تطفو فوق المنطق، إنما عنوا المنطق اللغوي، وعنوا تلك الحالة التي يتجرد فيها المرء حتى عن احتياجه للغة للتعبير، والقارئ في السياق يمكن أن يفهم ذلك بسهولة، ولكن الجابري فهم أنما يتكلمون عن المنطق الفلسفي، وبنى على ذلك موقفاً تجاههم جعله يطبعهم بطابع الفكر الهرمسي، وإنما كان إيراد الجابري لموقف إخوان الصفا لأجل الحكم على فلسفة تلميذهم ابن سينا بأنها فلسفة هرمسية بامتياز، تحطّ من شأن العقل وتُعنى بالتصوف الهرمسي، وهو حكم جائر لفلسفة ابن سينا التي يشهد لها التاريخ ومؤلفاته بالعقلانية والعلمية، ولكن الجابري أغفل دوره العقلاني، كما أغفل دور الغزالي في إدخال المنطق الأرسطي إلى علم الكلام السني، وجعله أحد رواد العقل المستقيل الذي جاء بعده عصر الانحطاط العربي الإسلامي، كما تغاضى الجابري عن دور المحاسبي الفكري العقلاني واعتبره أول من حاول إعطاء العقل المعنى العرفاني، ووسم الصوفية بالتيار الهرمسي رغم أنها عدة طوائف أغلبها غير متأثر بالهرمسية، بل بعضها القليل أخذ من الفكر الهرمسي.
وبذلك، يصف طرابيشي مشروع الجابري في نقد العقل العربي بأنه شبيه بمشروع البغدادي في كتابه 'الفرق بين الفرق'، حيث عمد كلاهما إلى الانتقاء التاريخي ونسبة العقلانية لطائفة معينة أو حركة فكرية ما، تلك التي كانت لدى البغدادي الفرقة الناجية، وكانت لدى الجابري تتمثل في التيار الفكري الأندلسي المغربي الذي حمل لواء عقلانيته ابن رشد، مقابل فلسفة المشارقة السينوية (نسبة لابن سينا) الغارقة بالظلام، ففلسفة المشارقة السينوية فلسفة دينية ماضوية إشراقية غيبية، أما فلسفة المغاربة فهي فلسفة علمانية مستقبلية برهانية علمية، وبمجرد القراءة السليمة والوافية لفلسفة الشرق، والقراءة لذات الأسماء التي اعتدّ بها الجابري في وصف فلسفة الشرق بطابع الرجعية، نخلص إلى أن هذا الإستنتاج ليس دقيقاً، بل مليء بالمغالطات ونقص الاستشهاد، أي أن الجابري أدلج قراءته التاريخية تبعاً لتصور مسبق لديه جعله يؤول ويسقط النصوص حسبما تقتضيه أيديولوجيته، ومن هنا، نادى الجابري بأن تنضم فلسفة المشرق تحت لواء فلسفة المغرب التي تكفل للعرب نهضتهم المنشودة، بفلسفة أبرز أعلامها: ابن تومرت وابن رشد وابن مضاء وابن خلدون وابن طفيل وباقي فلاسفة المغرب.
وينتهي طرابيشي بنقده لمشروع الجابري بحديثه عن الأحكام التي أطلقها الجابري على اللغة العربية، كاتباً أنه سيفرد كتاباً خاصاً لنقد مشروع الجابري يتناول فيه أهم التفاصيل، معنوناً بـ"نقد نقد العقل العربي".
اقتباسات:
"سواء أتُّخِذ التراث ساحة بديلة للصراع الأيدولوجي أم جرى تحويله هو نفسه إلى أيديولوجيا بديلة، فإن اللحظة الطاغية في التعاطي مع هذا التراث تبقى هي اللحظة الأيديولوجية بكل مسبقاتها وتحيزاتها واسقاطاتها ومسكوتاتها وعماءاتها، مثلما تبقى اللحظة الغائبة أو الواهنة الحضور هي اللحظة المعرفية، بأداتها التي هي التحليل العلمي الموضوعي، وبغايتها التي هي الحقيقة التاريخية. إن التراث المؤدلج هو تراث بلا حقيقة تاريخية، ففي حالة الإزاحة تُسقط عليه "الحقيقة" من خارجه، وفي حال الاستبدال ينزل هو نفسه منزلة الحقيقة المطلقة، أي اللاتاريخية" ص ٧
"لو كانت كل الخسائر المترتبة على منهج الإسقاط الأيدولوجي تتمثل في عجزه عن الوصول إلى الحقيقة التاريخية لهان الخطب نسبياً، ولكن منهج الإسقاط الأيدولوجي يتنطع لما هو أكثر من الفهم أو عدم الفهم، فهو ينصِّب نفسه جراحاً يريد إخضاع التراث لعملية جراحية ليستأصل منه ما يعتقد أنها أورامه الخبيثة التي قد لا تكون في الواقع إلا أعضاءه الأكثر حيوية، ومن هنا بالذات خطورة منهج الإسقاط الأيدولوجي: فهو ليس منهجاً أعمى فحسب، بل إنه يستعين أيضاً، بدل العكاز، بمبضع". ص١١
" بديهي أن البراءة الأيديولوجية في الدراسات العلمية في حقلي الإنسان والتاريخ مستحيلة، وباستثناء بعض المقاربات التقنية البحتة، فإنه يتعذر ألا تكون الدراسات التراثية مسكونة بهاجس أيديولوجي، ولكن تضخم هذا الهاجس من جهة أولى، أو طغيانه اللاشعوري على المنهج وتحكمه اللاواعي بكيفية تطبيقه ومداورته، وتأثيره من ثم في تقييم النتائج الاي يتم التوصل إليها بواسطة ذلك المنهج المخترق، من جهة ثانية، هما في رأينا العلة الأولى للانحرافات الأيديولوجية في الدراسات التراثية الحريصة على تقييد نفسها بالصفة "العلمية" ". ص٥٢
"على الرغم من أن الابستمولوجيا هي في الأساس منهج خارق لصفيح الحواجز الأيديولوجية، وعلى الرغم من أن ميزة الحفر الابستمولوجي تكمن تحديداً في قدرته على الوصول إلى الجذور المشتركة أو إلى البنية التحتية الأساسية للواجهات الأيديولوجية وللبنى الفوقية المتنوعة، أو حتى المتناقضة، فإن المنهج الابستمولوجي كما يداوره الجابري يتحول هو نفسه إلى أداة أيديولوجية للتمييز وللاستبعاد، إن لم نقل لإصدار أحكام الإدانة والإقامة الجبرية في الغيتوات والحبائس المعرفية. فالبيان والعرفان والبرهان ليست مفاتيح* للعقل العربي بقدر ما هي عند مؤلفنا أحكام قيمية لا يجمع بينها سوى تضاد هاذي الطبيعة المانوية: فالعرفان رجس رجيم، والبرهان خيرٌ عميم، أما البيان فهو فرس الرهان: إن تحالف مع البرهان كتب له الفوزان الأصغر والأكبر، وإن تحالف مع شيطان العرفان قضي عليه بالهلاك الأبدي" ص٧٧
قرأت الجزء الأول فقط من أطروحة الجابري، وكنت منبهراً حقيقة (غفر الله لي). بعد هذا الكتاب قد لا أضطر في الوقت القريب حتى الى قراءة سلسلة نقودات طرابيشي، لكني متأكد أني لن أكمل مشروع الجابري.
كتاب (مذبحة التراث في الثقافة العرية المعاصرة) يتكلم بشكل مختصر عن إنتقاء الأشخاص أو التيارات الوافدة أو المستحدثة للتراث الإسلامي والعربي فهو لم ينتقد المذاهب أو الجماعات المرتبطة بالتراث (كالفرق والجماعات الإسلامية، ولا ينتقد الانتقاء بحد ذاته بل المعيار)، يعني أنت على أي أساس تقبل التراث وترفضه؟!
وبلا شك أن كتب النقد ورد النقد هي تجليَّ شيء من التعقيد في الإطروحات الفكرية أو الفلسفية بين المثقفين العرب حول رؤيتهم للنهضة، فكتاب جورج طرابيشي هذا كتاب نقدي في المقام الأول، يستعرض فيه ثم يَنقد، وآلية الرد تكمن في الإلزام أو في بيان التاقض، سوف أتكلم هنا عن أبرز الأخطاء المركبة التي وقع فيها من نقدهم جورج:
1) الاعتقاد ثم الاستدلال، يعني تشعر أن البعض عندما يتبنى عنوان عريض، (تشعر أنه تورط) في البرهنة على صحته، وتزيد الورطة عندما يرى أن دعائم فكره وما يستند فيه فيها ما ينقض بينانه كله، فيعمد في هذه الحالة إلى بتر النصوص وإخراجها من سياقتها ويلي أعناق النصوص فقط حتى يُثبت أنه كلام صح ولو كان ذلك على حساب الأمانة العلمية! فحتى لا يحس بالضعف لتراجعه وحتى لا ينظر إليه البعض على أنه متسرع في تبني رؤاه، فيحاول أن يتصلب على رأيه ولو كان خطئاً فقط حتى لا يتراجع بسبب ورطته الأولى وهو الاعتقاد قبل الاستدلال!
2) عدم تحقق الإستيفاء المطلوب قبل الشروع في الكلام عن فكرة ما، يعني مثلًا فتحت كتاب لأقراه ثم وجدت في مقدمة الكتاب النص الذي أريده لأنتقد! ثم بعد عثوري على هذا النص أقوم برمي الكتاب، ولا أكمله -وربما في التكلمة ما يضبط ويقيد النص الذي فرحتُ فيه- فعدم وصول الفكرة كاملةً لي = يعني أني سوف أأول النص أو إسقاطه إسقاط خاطئ بالضرورة! (الكاتب ضرب مثال على نقد محمد عابد الجابري لرسائل إخوان الصفا).
الكتاب قصيرة ويقع في (144 صفحة) انتقد فيه جورج طرابيشي [الماركسيين ثم القوميين (بشقهم العلماني والإسلامي) ثم التيار العلمي (بشقه البراغمائي والإبستمولوجي)] إطروحة جورج طرابيشي كان المفترض أن يتولى كتابتها التيار الإسلامي فهو المعني الأساس بهذه القضية، وقد أطنب جورج طرابيشي في نقد محمد عابد الجابري، والغريب ان طرابيشي قد تعقب الجابري في أغلب كتبه عن العقل! فكلما كتب الجابر كتاب في سلسلته حول هذا الموضوع إلا ورد الطرابيشي عليه بكتاب مقابل!
ولكن أزعم أن هذا الكتاب رغم قصيره إلا سوف يذهب هيبة التأليف وهيبة مصطلح (المفكر العربي)، فحتى من يُشار لهم بالبنان يقعون في أخطاء مدمرة تظهر أنهم جهلة فيما يتكلمون عنه ويأصلون له!
وربما من الأمور التي قد تكون إشكالًا هو أن هذا الكتاب قد يجعلك تسحسن القراءة لبعض الشخصيات التي كانت ضمن (الخطوط الحمراء) كالرازي وابن سينا ونحوهم، وذلك أن في مطاحنة الطرابيشي مع الجابري غاصا في الفلسفة والتصوف! بشكل قد يجعل الشخص يتمارئ معهما في القراءة في ذات المواضيع!
عملية الهدم أسهل بكثير من عملية البناء, هذا ما كنت أردده و أنا اقرأ هذا الكتاب. أول مرة اقرأ لجورج و ليس من مخططاتي أن أعود لمؤلفاته.
هدم كل مشاريع المثقفين الذين تطرق لهم في الكتاب, من سمير أمين ألى محمد عابد الجابري مرورا بمحمد عمارة و زكي الأرسوزي و زكي نجيب محفوظ..لم يأخذ جورج من النقد إلا الجزء السلبي منه "الهدام". يقول زكي بأقتباس في نفس الكتاب "ضرورة أن نتخلص من جماعة الكهان في حياتنا: أعني جماعة المثقفين الذين يروجون لبضاعتهم, و ما بضاعتهم إلا كلام في كلام", لو خيّرت أن أختار مثالا حياً لهذه الجملة لأخترت جورج طرابيشي.
قرأت الكتاب كاملا و أنا أنتظر مشروعاً يقدمه أو رؤية يطرحها و أنتهيت أن الرجل يعرف و يعرف فقط. و أنه أختار في هذا الكتاب طريق الهدم بدل طريق البناء و الذي هو أسهل كثيرا.
خلاصة الكتاب, هو محاولة لهدم أي مشروع تسنى لجورج هدمه.
لماذا لا يناقش عامة المثقفون الغربيون تراثهم بنفس الدرجة التي تجعل للعرب علاقة خاصة بتراثهم بين شعوب الأرض؟
هذه النقطة هي موضوع كتاب أخر متميز للدكتور طرابيشي يناقش أفتتان العرب بتراثهم إلى الحد الذي يجعل كثيرون من مفكريهم غير قادرين على الأبداع ليس لأنعدام الموهبة و لكن لأن طاقاتهم محصورة في محاولات تلفيقية لجعل هذا التراث مناسب لما يروق لهم من أبتكارات الغرب. فإن كنت قومياً ستكتشف في التراث أن العرب من أسسوا القوميات و إن كنت أشتراكياً ستجد أن مجتمع المدينة الأول كان أشتراكياً متميزاً!
طبعاً جميع هذه التحليلات تتطلب تقطيع التراث المسكين إرباً و الأحتفاظ بإشارات تناسب رأي الكاتب و بالتالي تتنافى مع المبدأ العلمي و تؤدي إلى فشل لو حاول البعض تطبيقها.
لا أعيب على الكتاب سوي صغر حجمه و نقده الحاد للدكتور الأنصاري.
إما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإما أن نرفضه ونوصد دونه الأبواب لنعيش تراثنا.. نحن في ذلك أحرار، لكننا لا نملك الحرية في أن نوحد بين الفكرين ..
التراث العربي الإسلامي لا يقدم حلاً واحداً لمشكلة واحدة، فإن كل مشكلة تعرض من مشكلات الحياة المعاصرة تجد حلاً جاهزاً في النتاج الفكري الاوروبي الحديث. من هذا القبيل مثلاً، مشكلة الحرية السياسية ، فإن هذه المشكلة لا تجد حلاً لها في تراثنا، بل يكاد يكون العكس هو الصحيح. وكما مشكلة الحرية، ومشكلة حرية المرأة لا تجد حلولها في تراث عربي قديم بل فقط في حضارة الغرب الحديث.
عموماً/ مؤلفات جورج طرابيشي موجّهة "للنخبة" ، صعبة على القارئ العادي مثلي ..
يُستفاد منه النقد الذي قدمه للمخاتلين للتراث، كمن يقول نريد أن نستفيد من تراثنا ونتفاجأ به يهدم التراث الإسلامي وهذا متجلٍ لدى الجابري وأبو زيد وشحرور ... الخ
طرابيشي يدعوا للقطيعة مع التراث، وهذا أشدّ خطأ في نظري، بل التراث "لمن عرفه" مليء بالمقوّمات التي تُحييه مجدداً وهو تراث شريف "لمن عرفه" ٣٠ / ١١ / ١٤٣٨
يبدأ طرابيشي كتابه باعتراف ان مصطلح ( مذبحة التراث ) هو مصطلح استفزازي كون الثقافة العربية غنية بالتراث، إلا ان الثقافة العربية المعاصرة انشغلت بشكل مثير وكبير في التراث في صراع إثبات الهوية لمواجهة موجة التغريب. بعد ثورات الاستقلال العربية تضخمت الايديولوجيات الثورية تحت الوية القومية والماركسية والناصرية، وبعد الزيمة في 67م تبين فشل هذه الايديولوجيات الثورية، ونقل الصراع الايديولوجي إلى ساحة التراث، وتبلور ايديولوجية تراثية خالصة ؛ أي ايديولوجية تريد الاستغناء عن كل ايديولوجيا (( مستوردة )) لتنزل التراث نفسه منزل الايديولوجية. في أولى مذابح التراث التي ينتقدها طرابيشي مذبحة التراث على يد التيار الماركسي. يقول طرابيشي إن الاسقاط الايديولوجي ينصب نفسه جراحاً، فيستأصل ما يظنه ورم خبيث في التراث، بينما يكون هو في الواقع إلا عضوه الأكثر حيوية، ومن خلال نظرة تاريخية يستعرضها طرابيشي حول حوار لينين مع الشعوبيين الروس يستخلص ان الباحثين والمفكرين الذين يرون العالم من وجهة نظر ماركسية يتعاملون مع التراث بمنهج المبضع والبتر. يطرح طرابيشي السؤال الأهم في قضية التراث وهو : ماذا ينبغي ان نأخذ من التراث، وماذا ينبغي ان نترك ؟ .
يحلل طرابيشي ان النزعة البترية ضد التراث لدى لينين كونه مناضلاً لا يهتم بالحقيقة التاريخية للتراث، بل يحتاج إليه في عملية التوظيف للصراع الايديولوجي، وكذلك يفعل الماركسيون العرب أثناء مواجهة دعوى خصومهم بعدمية التراث لديهم بأن يعيدوا إحياء الموقف اللينيني من التراث.
المذبحة الثانية للتراث التي يتناولها طرابيشي تكون على يد ( التيار القومي )؛ فيقول طرابيشي ان التيار القومي يتحرى عن ( النقاء القومي ) بدلاً عن ( النقاء الطبقي ) في الماركسية، والتيار القومي مثل التيار الماركسي يريد إقامة عملية جراحية للتراث لاستئصال الاورام السرطانية، هذه الاورام السرطانية تصنف بالنسبة له تحت عنوان ( الانحطاط )، وهي ناجمة في نظره عن نشاط مجاوز لحده للأجناس ( الغريبة ). يقول المفكر طرابيشي ان الانقسام الرئيسي في صفوف التيار القومي اليوم بوجه خاص، هو بين التيار ( العلماني )، والتيار ( الإسلامي )، ويمثل عن التيار العلمانية بالفيلسوف ( زكي الارسوزي )، وعن التيار الإسلامي بالمفكر ( محمد عمارة ). يقول طرابيشي عن محمد عمارة الممثل للقومية العربية ( الإسلامية ) بأنه يربط دائماً بين ( العقلانية ) و ( القومية ) في كتاباته، ومن خلال هذا الربط الماهوي يصيب عصفورين بحجر؛ فمن جهة يسبغ عمارة على الحضارة العربية الإسلامية صفتان من اهم صفات الحداثة : القومية كمعيار للحداثة السياسية، والعقلانية كمعيار للحداثة الفلسفية، وإن محمد عمارة يريد ان يتخذ من حقبة التاريخ تلك حلبة للصراع بين ( التيار القومي – العقلاني )، وبين ( التيار الشعوبي – اللاعقلاني )، وهو بهذا وقع في خطائين، هما : الإسقاط ، والحذف.
في المذبحة الثالثة والاخيرة على التراث يكتبها طرابيشي عن ( التيار العلمي )، فيقول إن التيار العلمي مختلف عن التيارات السابقة بأنه ينظر إلى التراث ككل في النطاق المعرفي. يقول طرابيشي إن الايديولوجية قد دخلت في العقود الاخيرة في مرحلة أزمة مفتوحة، وأمست مشحونة بدلالة تبخيسية، فلا تُعرَّف إلا بأنها (( وعي كاذب ))، ولا تقام بينها وبين (( العلم )) إلا علاقة تضاد، وبديهي ان المنهجيات العلمية قد تنقلب هي نفسها إلى نوع من الايديولوجيا عندما تغلو في الدوغمائية (( العلموية )) وتفترض إنها قادرة في تحريها عن الحقيقة في مجال الإنسانيات والمعنويات على الوصول إلى درجة من اليقين تكافئ درجة اليقين في العلوم الطبيعية، وبديهي ان البراة الايديولوجية في الدراسات العلمية في حقلي الإنسان والتاريخ مستحيلة، وهذا شيء متعذر، إلا ان الخطر يكمن في تضخم هذا الهاجس من جهة أولى، وطغيانه اللاشعوري في المنهج وتحكمه اللاواعي وتأثيره على النتائج من جهة ثانية. إن النزعة التشطيرية للتراث في الحالات اللاشعورية من طغيان الهاجس الايديولوجي اشد فتكاً من الحالات الشعورية. وكما اختار طرابيشي في التحليل للتيار الماركسي نوعيه (( القويم )) و (( غير القويم ))، وتحليله للتيار القومي بنوعيه (( العلماني )) و (( الإسلامي ))، فإنه سيحلل التيار العلمي بنموذجيه المتمثلان بـــ ( زكي نجيب محمود ) في كتابه ( تج��يد الفكر العربي )، و ( محمد عابد الجابري ) في كتابه ( تكوين العقل العربي ). ينتقد طرابيشي زكي الارسوزي انتقاداً لاذعاً، فهو يقول بأن عودته هي عودة ( الابن الضال ) كما في قصة من قصص الانجيل.، وإنها عودة كاذبة؛ فهو يريد تراث صناعي عملي غير كلامي، بل يريد عملاً، وبذلك عمل على بتر التراث تماماً من حياتنا. ويدلل طرابيشي من كتاب زكي الارسوزي بأنه مازال معجباً بثقافة الاخر ( اوروبا وامريكا ) وان عودته فعلاً كاذبة. وفي مقدمة نقده لــ ( محمد عابد الجابري ) يقول إن المنهج الابستمولوجي للجابري من اجل الحفريات التي تمضي بنا إلى طبقات عميقة وغائرة من العقل العربي الموروث تشكو من عاهتين تكوينيتين تجعل العمق اسير السطح، وان تردما بمجرفتهما الحفرة عينها التي حفراها. لقد تفاجأ طرابيشي بأن العقل لدى صاحب المنهج الابستمولوجي هو المعقولات، فهو يستبعد اللاعقل، وهو بذلك يستبعد ( الشعر )، لأن الشعر عنده لغة الحساسية والوجدان، وكذلك ( النثر الفني )، لأنه لغة الخيال، وأيضاً ( النثر العلمي )، لأنه لغة وقائع وعيانيات، بينما لغة العقل لغة المعقولات والمجردات. قاد الجابري اختزاله (( العقل )) إلى (( العقل العقلي )) إلى مأزق معرفي حقيقي، فقد كان في (( تكوين العقل العربي ))، ثم في (( بنية العقل العربي )) قد تعاطى حصراً، بسائق من الاختزال، مع العقل الفقهي – الكلامي والعقل التصوفي والعقل الفلسفي، ورأى ان العقل العربي يعمل تحت إمرة ثلاثة انظمة معرفية : البيان ، العرفان ، البرهان ، لكنه عندما انتقل في طور لاحق إلى (( العقل السياسي العربي )) تخلى عن تلك القسمة، واعتمد ثلاث اخرى : القبيلة ، الغنيمة ، العقيدة ، فواضح للعيان أين هو المأزق : فلو كان البيان، أو العرفان ، أو البرهان نظاماً معرفياً ثابتاً للعقل العربي لكان العقل السياسي العربي خاضع للتحديد نفسه. إن الجابري قد شكر التراث ومزقه حينما استبعد دائرة الشعر والنثر الفني والعلمي، وتبرز هذه النزعة التشطيرية عندما ينتقل إلى ثانية العاهتين التكوينيتين اللتين يرزح منهجه الابستمولوجي تحت وطأتهما، فعلى الرغم من ان الابستمولوجيا خارقة لصفيح الحواج الايديولوجية، إلا ان الجابري قد حوله هو نفسه إلى اداة ايديولوجية للتميز والاستبعاد، إن لم نقل لإصدار أحكام الإدانة والإقامة الجبرية في الحبائس المعرفية. يقول طرابيشي إن خطيئة الجابري هي إصراره على ان يرى في كل غابة الفكر الشيعي شجرة واحدة، وهي على وجه التعيين شجرة الهرمسية التي لا يجري في عرقوها سوى نسغ (( اللامعقول ))، ووحد كل أشجار الفكر السني في غابة واحدة تستظل بفيء (( المعقول الديني ))، وحفر بين الغابتين خندق حرب لتكريس القطيعة الأبستمولوجيا بين الغابتين. اتهم الجابري العالم الدكتور الرازي بالهرمسة نتيجة مقارنته بين العقل والهوى، وتفضيل العقل على الهوى، إلا ان طرابيشي يثبن ان قطاع عريض من الثقافة العربية الإسلامية تنبض بهذه الثنائية، كيف لا وقد عمل تراث (( اهل السنة والجماعة )) على تفريق العقل (( الإسلامي )) عن العقل (( اليوناني )) من خلال تبني تلك الثنائية. يقول طرابيشي ان الجابري جاء يكرر ما فعله البغدادي في كتابه ( الفرق بين الفرق ) في بيان عقيدة الفرقة الناجية، ففي الصفحات الاخيرة من كتاب الجابري استعرض هوية الفرقة الوحيدة التي كتب لها النجاة من الغرق بي بحر الهرمسية، إلا وهي الفرقة المغربية الاندلسية. ما يريد ان يثبته الجابري من خلال سلسلته المشهورة ( نقد العقل العربي ) إثبات لا عقلانية المشرق، وعقلانية المغرب وخصوصاً الاندلس، وبهذا يضع منهجاً مؤسس تأسيساً نظرياً كاملاً على ما قاله شوقي ضيف، ويُذكر عن الجابري انه قال في حوار اجرته معه مجلة (( الثقافة الجديدة )) المغربية في العدد 21 عام 1982م : (( المغرب، نهضته ومصائبه آتية من الشرق، فاللاعقلانية مثلاً لم تكن في المغرب، وغنما اتته من خلال كتب صدرت من المشرق في إطار صراعات مشرقية خاصة ))، فهو بهذا يوجه دعوة نحو المغرب من اجل ( قطيعة ابستمولوجيا ) عن المشرق.
قبل أن أبدأ بمراجعة الكتاب, يجب أن أشير إلى جملة شديدة الاهمية جاءت في هامش 13 في افتتاح موضوع المذبحة النظرية: التيار الماركسي, الجملة هي لجورج طرابيشي يقول فيها: "نقول ذلك لا من قبيل النقد فحسب بل أيضا من قبيل النقد الذاتي. فقد كان لكاتب هذه السطور هو أيضا طور ماركسي في تطوره الفكري." برأيي الشخصي لا يوجد فضيلة أعلى من اعتراف بالموضوعية الحالية بناءا على اعتراف بما قام به من تبضيع للتراث بتوجه إيديولوجي كاتب تلك السطور جورج طرابيشي في هذا الكتاب الذي يقدمه لنا جورج طرابيشي ملك النقد إن أمكننا أن نطلق هذه الصفة عليه, يرمي مجموعة من التيارات الفكرية في العالم العربي في مرمى النقد من باب مذبحتهم لتراثنا العربي. قسم الطرابيشي هذه المذبحة إلى ثلاثة أقسام جاءت كتالتالي: 1- المذبحة النظرية: التيار الماركسي طارحا سمير أمين وتوفيق سلوم أنموذجا. 2- المذبحة النظرية: التيار القومي حبث قسمه إلى نموذج قومي علماني ومثله بزكي الأرسوذي ونموذج قومي إسلامي مثله ب محمد عمارة 3- المذبحة النظرية: التيار العلمي وقسمة إلى نموذج علمي براغمائي ممثلا بصاحب كتاب تجديد الفكر العربي زكي نجيب محمود وإلى نموذج علمي إبستمولوجي ممثلا بصاحب كتاب نقد العقل العربي ممثلا بمحمد عابد الجابري. قد تكون كلمة مذبحة كلمة ثقيلة نوعا ما عندما تبدأ بقراء الكتاب ولكن عند الانتهاء من قرائته لم تلبث إلا أن تقول إنها ليست مذبحة! إنها مذبحة المذابح. حربا ضروس نشأت بسبب التراث ولاعبيها كانوا مفكري العالم العربي الذين لم يكونوا موضوعيين في تعاملهم مع ذلك التراث القيم والغني ولكن كان كل منهم بأدلجته وتوجهاته مركزا على ما يتوجه به عقلا بعيد عن كل موضوعية ودقة تاريخية. وبشكل خاص ما قام به محمد عابد الجابري في مشروعه نقد العقل العربي والحري به كان أن يطلق عليه نقد العقل المشرقي العربي, حيث أن النتيجة التي لخصها الطرابيشي في الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب لهي فعلا تثير الاستقياء من عنصرية محمد عابد الجابري المخيفة. تخيل يا أخي القارئ أن الجابري رمى في مزبلته التاريخية اللاعقلانية كل من جابر بن حيان أبي بكر الرازي ابن سينا المسعودي البيروني ابن النديم إخوان الصفاء من أجل إعلاء وتفرد شأن الفلسفة والعقلانية المغربية بترؤس ابن رشد وابن باجة وابن طفيل وابن خلدون.
أسلوب جورج طرابيشي في السرد وعرض فكرة الغير ثم الرد عليها بديع في حجم صغير كان ذكيًا في عرض جوهر اعتراضه على مشاهير القراءات الأيدلوجية للتراث العربي، وبأمانة عالية لرغبته الحقيقية في الحديث والنقاش مما أدهشني تصنيفه لمحمد عمارة في القراءة القومية العربية الإسلامية، لا زلت استغرب التصنيف لكنه مثير للتفكير والاحترام، ولعله في النهاية تصنيف مهذب لما قد يقال عن أوهام القدرة على التلفيق واستنتاج مرتكزات الحداثة الأوروبية كالعقلانية والقومية من التراث بإهمال سياقات معاني الكلمات والقطيعة التي تحملها الحداثة ببنيتها عن البنيان المعرفي للتراث عمومًا فضلًا عن الإسلامي
لن تكون المرة الأخيرة التي أقرأ فيها لطرابيشي وغايتي ستكون مطالعة أسلوبه في التعبير والدخول في نقاش مع صلب الأفكار وبعد أن كان حوالي نصف الكتاب عن الجابري ثم مشروع كامل من كتب طوال، فالجابري كان في مكان في لا يُحسد عليه
لاحظت بعض المراجعات الناقدة لطرابيشي باعتباره ناقد هدام لا يرسم بديلًا، وهي تعليقات محدودة الذكاء فضلًا عن كونها واهية، قد ترسم طريقًا كاملًا بإغلاق المسارات الخاطئة المُضلة التي يسير فيها الغير.. كما قد تعرف في النهاية ماذا تريد عندما يمكنك من تحديد ما الذي لا تريده.
كتاب ينم عن عقلية نقدية فذة للمفكر والناقد جورج طرابيشي
الكتاب من الحجم الصغير حوالي ١٤٤ صفحة ولكنه مكثف ويحتاج قراءة متأنية، قسمه طرابيشي الى ٣ اقسام تناول فيها ثلاث تيارات تتعامل مع التراث العربي بعملية أسماها "مذبحة" بأداتي الإسقاط والحذف وبعقلية مؤدلجة.
في القسم الاول: التيار الماركسي وقد أخذ منه عينتين للنقد هما سمير أمين وتوفيق سلوم. والقسم الثاني: التيار القومي بشقيه العلماني والإسلامي، وأخذ منهم زكي الأرسوزي للأول ومحمد عمارة للثاني. أما القسم الثالث: التيار العلمي وقد أخذ منه زكي نجيب محمود للنموذج العلمي البراغماتي ومحمد عابد الجابري للنموذج العلمي الابستمولوجي وقد خصص له ثلث الكتاب تقريباً. يعتبر هذا الكتاب تمهيداً لمشروع طرابيشي (نقد نقد العقل العربي) الذي تتبع فيه الجابري في سلسته الشهيرة (نقد العقل العربي). كما أنه يفتح الشهية لقراءة هذه المعركة الفكرية الخصبة التي تدور رحاها على أرض التراث... !!
كتاب عنيف وصاخب وهو مقدمة مشروع جورج طرابيشي الضخم ’نقد نقد العقل العربي‘ حيث يختتم الكتاب بالإشارة إليه في نهاية الفصل الأخير. هذا الفصل الأخير هو نقد للتيار «العلمي الإبستمولوجي» ممثلاً بمحمد عابد الجابري، الذي كتب مشروع ’نقد العقل العربي‘ المستفز بقلة أمانته وضعف منهجه وبلادة خلاصاته، والذي دفع كاتبنا للانكباب على التراث العربي وتقييم مشروع الجابري على ضوء معرفة موسوعية أخذ ينمّيها في التسعينات. يبدو الكتاب مجرد «تمويه» للمعركة مع الجابري أو «بروڤا»، فهو قبل أن «يمسح الأرض» بالجابري في نهاية الكتاب يناقش الانتقائيين الماركسيين الذين يريدون تصفية التراث من العناصر«غير التقدمية»، بينما القوميون يسعون إلى تصفية عرقية للتراث أو تأويل انتصاري حافل بالذكريات المجيدة له، بينما يشنّ آخرون باسم العلم واللاأيديولوجيا حرباً كلها أيديولوجيا ضد هذا التراث بتجزئته وتفكيكه وإسقاط معارك الحاضر عليه.
هذا الكتاب لجورج طرابيشي ١٣٩ صفحة، هو مقدة لمشروعه النقدي الشهير اللي رد فيه على الجابري.. بس بهذا الكتاب ياخذ أمثلة من كل تيار. وبوجهة نظره أنهم كلهم سووا مذبحة للتراث من خلال تعاطيهم غير المنهجي أو الموضوعي
قد تجد في أسلوبه حدة، لكن بالنسبة لي جورج يملك براعة نقدية ونجح بنقد الاطروحات الفكرية اللي طرحها وربما أراه ناجح في النقد أكثر من الانتاج أو المشروع الذي فشل فيه
عموما الكتاب جيد كمدخل لفكره، إذا تبي تتعرف على طرابيشي وهو صغير الحجم وبنفس الوقت حلو كمدخل للفكر العربي المعاصر.. وللاسف غير متوفر الكتروني
يناقش الكتاب مسألة ثقافية جوهرية حاضرة بقوة فى واقعنا وتاريخنا الثقافي القريب , ذلك التعسف في التعامل مع التراث بانتقائيه و أجتزاء لصالح الايدلوجية وهذا الداء الشائع لم ينج منه تيار او توجه فكري ويضرب فى هذا الكتاب امثلة من ثلاث تيارات ثقافية رئيسية الماركسية و القومية (العربية و الاسلامية) والعلمية ..الكتاب صغير فلم يوف الموضوع (الكبير جداً) حقه , لكن طرابيشي ومشاكساته يستحقا القراءة بالتاكيد , والكتاب فى نصفة الثانى مدخل قوى لمعركتة الكبري مع الجابري