يشكل هذا الكتاب الجزء الرابع والأخير من "نقد العقل العربي" للجابري، وهو يعد مساهمة جادة في البحث النظري في الأخلاق والفلسفة الأخلاقية عند العرب، ويهدف إلى سد الفراغ في المكتبة العربية الناجم عن خلوّها من الدراسات الشاملة والتحليلية النقدية لنظم القيم في الثقافة العربية الإسلامية، وكذلك في تاريخ الفكر الأخلاقي العربي.
يخوض الجابري في هذا الكتاب في الموروثات الخمسة في الفكر الأخلاقي للثقافة العربية، وهي: الموروث العربي الخالص، والموروث الإسلامي الخالص، والموروث الفارسي، والموروث اليوناني، والموروث الصوفي، داعياً إلى تحويل التراث العربي الإسلامي من قوقعة إلى لباس مناسب لروح العصر، وهذا، كما يبيّن، هو مشروع "نقد العقل العربي" بأجزائه الأربعة.
محمد عابد الجابري (1936 بفكيك، الجهة الشرقية - 3 مايو 2010 في الدار البيضاء)، مفكر وفيلسوف عربي من المغرب، له 30 مؤلفاً في قضايا الفكر المعاصر، أبرزها "نقد العقل العربي" الذي تمت ترجمته إلى عدة لغات أوروبية وشرقية. كرّمته اليونسكو لكونه “أحد أكبر المتخصصين في ابن رشد، إضافة إلى تميّزه بطريقة خاصة في الحوار”.
بهذا الجزء أنهي بحمد الله مشروع الجابري في نقد العقل العربي. ابتدأ بنقد المعرفي ثمّ السياسي وانتهى في هذا الكتاب بنقد الأخلاقي. في هذا الجزء أكثر "الجابري" من الاستطراد، وأطال الاقتباسات، خاصة في دراسته للموروث الفلسفي اليوناني. مما وصل بي إلى حدّ تجاوز كثيرٍ من استطراداته، والتركيز في خلاصاته. من "طاعة" فارسية إلى "سعادة" يونانية و"فناء" صوفي، تنازعت العربَ القيم. ومن "المروءة" العربية إلى "العمل الصالح" القائم على معادلة المصلحة والمفسدة تطوّرت القيم وتبلّرت في العقل العربي الإسلامي العالِم. غير أنّ الواقع المعيش هو الغائب الأكبر في الكتاب! ما جعل الكتاب إبحارٌ في التراث كما تحجّر في الكتب، لا في التراث كما عاش وانتقل في قلوب الناس وأحوالهم. ووصل إلينا ووصلنا به. ولو قدّر لأحدٍ أن يطوّر هذا العمل، لكان مجاله التاريخ. وتطبيق هذه المعايير على حياة الناس وأيّامهم. لنعرف كيف تلاقت وتنازعت نُظم القيم تلك في واقعهم. ختامًا؛ فقد شكّل لي هذا العمل بمجمله (أجزائه الأربعة) أنموذجًا في التفكير والبحث، وأعطاني مفاتيح لفهم التاريخ والواقع على السواء. فشكر الله للجابري جهده وعمله، ورحمه وأجزل له الأجر. وكلّ هذا يجعلني في ذروة الحماسة للاطلاع على نقد طرابيشي، مدركًا –وآملاً- منذ الآن أن لا مجال هنا للتناطح والتنابز، وإنما هو النظر من زاوية أخرى، وبمقاربةٍ معرفية مختلفة. ولا يفوتني الحديث عن بلاغة الخاتمة التي ختم بها الجابري كتابه هذا، حين تحدّث عن عقدة "الفتنة" التي تسكن عقل العربي والمسلم، مما أتاح لـ"أردشير" فارس أن يظلّ حيًّا في قلوب الناس وعقول العلماء و...على عروش البلاد!
قرأت بإمعان الباب الثاني بعنوان: الموروث الفارسي أو أخلاق الطاعة. ومررت سريعا بباقي أجزاء الكتاب.
في الباب الثاني تحليل لوقت وكيفية تغلغل الموروث الفارسي الخاص بقيمة الطاعة في الثقافة العربية والاسلامية. ويحدد الكاتب بداية الربع الثاني من القرن الثاني الهجري لهذا التغلغل الذي تم عبر كتابات وترجمات بن المقفع وعبد الحميد الكاتب وسالم، وكلهم اهتموا اهتماما كبيرا بنشر الثقافة الفارسية.
وأهمية دراسة الجابري لهذا الموضوع أنها تلقي الضوء على قيمة الطاعة في ثقافتنا وأسئلة جذرية حول هذه القيمة وفي أنها غير أصيلة في نظام القيم العربي والإسلامي.
ولفؤاد زكريا مقال قديم ربما عام 1986 بعنوان : مرض عربي اسمه الطاعة ، ارتبط في ذهني بكون الطاعة عربية أصيلة. لكن كلام الجابري لفت نظري لأشياء جديدة حول التأثير الوافد علينا من بلاد فارس في هذا السياق.
ولذلك - وعملا بمبدأ القراءة العنقودية - بدأت بتصفح كتاب الآداب السلطانية الصادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت تمهيدا لقراءته كاملا.
اتمتت ولله الحمد قراءة سلسلة نقد العقل العربي للدكتور الجابري رحمه الله واللتي تعد اشهر سلسلة عربية في النقد و البحث الابيسيمولوجي ، جهد الدكتور جبار في البحث وترتيب فصول الكتب وأفكارها ورغم اختلاف وجهات النظر - وهذا طبيعي - الان ان السلسلة تعتبر الأميز على الإطلاق ...
نهاية سلسلة نقد العقل العربي للراحل محمد عابد الجابري - رحمه الله - ومضمون الكتاب يبحث في القيم التي وجدة في الثقافة العربية .وسبب تنوع هذه القيم وغياب نظام واحد للقيم هو ما شتهر في التاريخ الاسلامي " بالفتنة الكبرى "! الفتنة التي اندلعت بالثورة على عثمان وانتهت بانتصار معاوية في صفين. إنها الفتنة التي يجمع المؤرخون أنه كان من نتائجها "انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض"! . والتي بدورها أسست لقيمة الطاعة للملك أو الخليفة أو السلطان والمستوردة من الموروث الفارسي!. .. الخ إلى قوله - نهاية الكتاب- "والحق أن الضمير الديني في الاسلام الذي هو أصلا متحرر من وزر الخطيئة الأصلية ( خطيئة آدم ) قد حمل نفسه وزرا آخر هو وزر " الفتنة الكبرى" . إن الرغبة في " اتقاء الفتنة" قد بررت على الدوام قبول العيش باستكانة، تحت الحكم الذي أصله فتنة! فكانت النتيجة قيام الحكم في الاسلام، وعلى الدوام إلى الآن على "وحدانية التسلط"، فكانت مدينتنا إلى اليوم "مدينة الجبارين" . لم ينهض العرب والمسلمون بعد، ولا إيران ولا غيرها من بلاد الاسلام، النهضة المطلوبة. والسبب عندي أنهم لم يدفنوا بعد في أنفسهم "أباهم": أردشير! . انتهى
" ألف محمد عابد الجابري عدداً من الكتب حول العقل العربي، ومن الواضح أنه كان له فضل السبق إلى الكتابة في هذا الموضوع، وافتتح ساحة للنقاش في موضوع مهم وأساسي، والتقويم الكامل لمشروعه في نقد العقل العربي يحتاج إلى عدد من الكتب، وإن كنت أميل إلى أنه لم يوفق إلى اكتشاف حقيقة العقل العربي المسلم في صوره الثلاث: المجرد، والسياسي، والأخلاقي، لكنه وفق في تحديد الإضافات التي دخلت إلى هذا العقل من ثقافات أخرى.
فهو في كتابيه "تكوين العقل العربي" و "بنية العقل العربي" وفق في تحديد الإضافات التي دخلت إلى العقل العربي المجرد من الأنظمة الثقافية السابقة: مذهب الذرة، والعرفان والبرهان. كما وفق في كتاب "العقل العربي الأخلاقي" إلى الحديث عن تداخل الموروث الفارسي واليوناني مع العقل الأخلاقي العربي، وأنا سأتحدث في مقالي هذا عن العقل الأخلاقي العربي فقط، وسأرجئ الحديث عن الكتب الأخرى في العقل العربي إلى مقالات أخرى.
اعتبر الجابري أن النظام الثقافي العربي استجلب الموروث الفارسي في مرحلة مبكرة نتيجة "أزمة في القيم"، وأن هذا الموروث الفارسي ركز على طاعة السلطان، ودمج الدين والطاعة والسلطان في حزمة واحدة، وقد بدأ إدخال هذا الموروث في نهاية العهد الأموي من أجل تدعيم الملك الأموي، وقد بدأه سالم بن عبد الرحمن موسى السعيد بن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وعبد الحميد الكاتب، وقد عمل الأخير كاتباً لدى آخر خليفة أموي وهو مروان بن محمد، واستخدم هؤلاء الكتّاب أسلوب "الترسل" في نشر هذا الموروث، وكان هذا الأسلوب يأتي في الرسائل التي يوجهها الخليفة إلى ولي العهد، أو إلى الولاة أو إلى الرعية، وكانت تقرأ هذه الرسائل أحياناً على عامة الناس، وكانت تدعو إلى الطاعة، وإلى تعظيم السلطان.
وقد بلغ هذا الأسلوب أوجه في بداية العهد العباسي، إذ ورثوا هذه التقاليد، ورسخوها في تعاملهم مع رعيتهم، وقد اعتبر الجابري أن عبد الله بن المقفع أكبر ناشر ومروج للقيم الكسروية وأيديولوجيا الطاعة في الساحة الثقافية العربية الإسلامية، وقد عمل عبد الله بن المقفع كاتباً للخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور، وقد ذكر الجابري أنه وصلنا أربعة كتب منسوبة إليه، هي: كليلة ودمنة، والأدب الكبير، والأدب الصغير، ورسالة الصحابة، وقد لخص الجابري الموضوعات التي تدور حولها، "آداب" ابن المقفع بثلاثة، هي: طاعة السلطان، أخلاق السلطان، أخلاق الكاتب.
ثم حاول أن يثبت الجابري رواج قيم الطاعة الكسروية من خلال تفحص "كتب الأدب" التي تتحدث عن موضوعات مختلفة، واستعرض منها كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة (213-276)، والعقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي (246-328)، واعتبر الجابري هذين الكتابين هما النموذج المحتذى لكل كتب الأدب التالية، واستعرض الجابري -كذلك- كتابين آخرين من العصور المتأخرة هما: الازدهار "المستطرف في كل فن مستظرف" للكاتب شهاب الدين محمد بن أحمد الأشبيهي المتوفي سنة 850، ثم كتاب "صبح الأعشى في صناعة الإنشاء" للقلقشندي المتوفى سنة 821.
وقد اعتبر الجابري أن جميع هذه الكتب -المتقدمة والمتأخرة- تعرض القيم الكسروية، ومنها: طاعة السلطان المطلقة وتقديم الطاعة على المطاع، ودمج الدين والطاعة والسلطان في محور واحد إلخ.. وإذا استعرضت كتاب "عيون الأخبار" لوجدناه يحتوي على الأبواب التالية:
1- كتاب السلطان 2- كتاب الحرب 3- كتاب الشعر
4- كتاب الطبائع والأخلاق 5- كتاب العلم 6- كتاب الزهد
7- كتاب الإخوان 8- كتاب الحوائج 9- كتاب الطعام 10- كتاب النساء، واعتبر الجابري أن هذا الترتيب هو تعبير عن سوق للقيم يحتل فيها السلطان وبالتالي الطاعة موقع القيمة المركزية.
من غير المستبعد أن يكون الموروث الفارسي حاول أن يجد طريقه إلى الثقافة الإسلامية، كبقية الموروثات في المنطقة التي حاولت أن تغزو الثقافة الإسلامية، من خلال بعض وارثيها كسالم وعبد الحميد الكاتب وعبد الله بن المقفع، ومن غير المستبعد بصورة أقل أن يكون الخلفاء الأمويون والخلفاء العباسيون قد حاولوا الاستفادة من الموروث الفارسي في تطويع شعوبهم، وفي تدعيم سلطتهم، ولكن النظر في كتب الأدب من أجل قياس مدى تغلغل القيم الكسروية في الثقافة الإسلامية هو قياس قاصر، فلماذا لا نقيس تغلغل القيم الكسروية من خلال كتب الفقه؟ لأن الفقه على الأرجح يعكس حقيقة الأمور لدى جماهير الأمة أكثر من الأدب من جهة، ولأن اعتماد الفقه في استكناه حقيقة حياة جماهير الأمة أسلوب اتبعه كثير من الدارسين من جهة ثانية، فقد اتبعه محمد باقر الصدر من أجل استعادة صورة الحياة الاقتصادية القديمة من خلال تتبع الفتاوى الفقهية، وكذلك اتبعه آخرون من أجل استعادة صورة الحياة الاجتماعية من خلال العودة إلى فتاوى المحاكم الشرعية.
وإذا عدنا إلى كتب الفقه لنسألها عن شروط تولية الحاكم، وعن موقفها من البغي والبغاة، وعن شروط الخروج على الحاكم إلخ.. فماذا نجد؟ نجد أنها تتطلب شروطاً من أجل تولية الحاكم من أهمها: العدالة والاجتهاد، و��د اشترط الفقهاء لدوام الولاية دوام شرط العدالة، فقد نقل الماوردي في "الأحكام السلطانية" عن شرط العدالة فقال:
"إن الجرح في عدالة الإمام، وهو الفسق على ضربين: أحدهما ما تبع فيه الشهوة، والثاني ما تعلق فيه بشبهة. فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح، وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيماً للشهوة وانقياداً للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلا بعقد جديد. وقال بعض المتكلمين: يعود إلى العدالة من غير أن يستأنف له عقد ولا بيعة، لعموم ولايته ولحوق المشقة في استئناف بيعته.
وأما الثاني منهما فمتعلق بالاعتقاد المتأول بشبهة تعترض، فيتأول لها خلاف الحق، فقد اختلف العلماء فيها: فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، ويخرج منها بحدوثه لأنه لما استوى حكم الكفر بتأويل وغير تأويل وجب أن يستوي حال الفسق بتأويل وغير تأويل". (ص17)
وتحدثت الموسوعة الفقهية الكويتية عن البغي والبغاة فقالت: "ويرى الشافعية أن البغي ليس اسم ذم، لأن البغاة خالفوا بتأويل جائز في اعتقادهم، لكنهم مخطئون فيه، فلهم نوع عذر، لما فيهم من أهلية الاجتهاد.
وقالوا: إن ما ورد في ذمهم، وما وقع في كلام الفقهاء في بعض المواضع من وصفهم بالعصيان أو الفسق محمول على من لا أهلية فيه للاجتهاد أو لا تأويل له، وكذلك إن كان تأويله قطعي البطلان". (ج8، ص132)
وتحدثت الموسوعة الفقهية عن شروط تحقق البغي فقالت: "ولو خرجوا على الإمام بحق - كدفع ظلم- فليسوا ببغاة، وعلى الإمام أن يترك الظلم وينصفهم، ولا ينبغي للناس معونة الإمام عليهم، لأن فيه إعانة على الظلم، ولا أن يعينوا تلك الطائفة الخارجة، لأن فيه إعانة على خروجهم، واتساع الفتنة، وقد لعن الله من أيقظ الفتنة". (ج8، ص133)
وتحدث الدكتور وهبة الزحيلي أيضاً في موسوعة (الفقه الإسلامي وأدلته) عن شروط عزل الحاكم والخليفة فقال: "العزل لتغير حال الحاكم والخليفة: والذي يتغير به حاله، فيخرج به عن الإمامة شيئان: جرح في عدالته، ونقص في بدنه.
أما جرح العدالة فهو الفسق: وهو ارتكابه المحظورات، وإقدامه على المنكرات، وانقياده للأهواء والشهوات". (ج8، ص6188)
كما تحدث الدكتور وهبة الزحيلي في موسوعة (الفقه الإسلامي وأدلته) عن الحالة التي لا يطاع فيها الحاكم فقال: "ولكن لا تجب الطاعة عند ظهور معصية تتنافى مع تعاليم الإسلام القطعية الثابتة، لقوله عليه الصلاة والسلام: لا طاعة لمخلوق في معصية الله، إنما الطاعة المعروف، لا طاعة لمن لم يطع الله". (ج8، ص6192)
ونقل وهبة الزحيلي عن ابن حزم إجازته الخروج على الحاكم الظالم فقال:
"وقال ابن حزم بجواز الخروج، لأن الأحاديث المجيزة للخروج على الفاسق الظالم ناسخة في رأيه للأحاديث الآمرة بالصبر، لأن هذه الأحاديث وردت في مبدأ الإسلام، ولأن الدليل المحرم يقدم على المبيح عند تعارضهما، ولقوله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله" (الحجرات، 49/9) ولأنه يجب على المسلم إزالة المنكر، ولا طاعة في معصيته، ومن قتل دون ماله أو دينه أو مظلمته فهو شهيد". (ج8، 6196)
والآن نتساءل بعد أن نقلنا بعضاً من الأحكام الفقهية التي تبيح عدم طاعة الحاكم الجائر أو الفاسق أو الظالم ناهيك عن الحاكم الكافر وعن الموقف من البغي والبغاة، وعن الحالة التي لا يطاع فيها الحاكم إلخ...، نتساءل: أيهما أصدق تعبيراً عن واقع الثقافة العربية الإسلامية، كتب الأدب أم كتب الفقه؟ لاشك أن كتب الفقه أصدق تعبيراً، ولو أن الموروث الفارسي صبغ الثقافة العربية الإسلامية –كما زعم الجابري- لكان الفقه أولى المجالات بالاصطباغ لأن الفقه أضخم عنوان معبر عن الثقافة العربية الإسلامية ولأن أمتنا "أمة فقه" كما وصفها الدارسون.
ومما يؤكد عدم سيطرة الموروث الفارسي في طاعة الحاكم على ثقافتنا العربية الإسلامية، هو أن الفقهاء الذين جوّزوا طاعة الجائر أو الفاسق دعوا إلى الخروج عليه عند وجود الحاكم العادل، أو عند تقدير أمن الفتنة، كما دعوا إلى عدم مساعدته عند خروج المظلومين عليه.
بيّن الجابري أن القيمة المركزية في الموروث الفارسي هي "خلق الطاعة"، وبيّن أن القيمة المركزية في الموروث اليوناني "خلق السعادة"، وبين أن القيمة المركزية في الموروث العربي الجاهلي "المروءة" وأسف لأنه لم يكن مهتدياً إلى القيمة المركزية في "أخلاق القرآن" حتى وجدها عند كاتب هو العز بن عبد السلام (ت، 660) وهي "العمل الصالح" وبين أن القرآن الكريم كان هو المرجعية التي استند إليها العز بن عبد السلام في تنشئة الأخلاق الإسلامية بعيداً عن كل الموروثات الفارسية واليونانية، واعتبر أن هناك نقصاً في مشروع "أخلاق القرآن" الذي وضعه العز بن عبد السلام عندما لم يتعرض للسياسة، ولكنه رأى أن ابن تيمية قد استدرك هذا النقص عندما وضع رسالة "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" واعتمد المبدأ نفسه وهو "الطاعة".
يلحظ الدارس أن الجابري كان يقفز من خلق "العمل الصالح" ليساوي بينه وبين "المصلحة"، فقد جاء عنوان الفصل الثالث والعشرين في كتاب "العقل الأخلاقي العربي"س: "في الإسلام: المصلحة أساس الأخلاق والسياسة" ثم قال في الفقرة السادسة من الفصل السابق نفسه: "تلك هي "أخلاق العمل الصالح، أو أخلاق المصلحة" (ص،615)، ثم قال في نهاية فقرة "إجمال وآفاق": "فاقتصروا على محاسبة سلوك "الذين آمنوا" من زاوية الفرائض والسنن والحلال والحرام، وسكتوا عن "الصالحات"، وعن "المصلحة" التي هي المقصود مما يخوض فيه الفقهاء وينشغل المتكلمون" (ص،620)، والسؤال الآن: ما مدى صواب الانتقال من "العمل الصالح" إلى "المصلحة" في عبارات الدكتور الجابري السابقة والتسوية بينهما؟ لاشك أن "العمل الصالح" غير "المصلحة"، لأن "العمل الصالح" مشروط ومحدد بعدة قواعد إسلامية، فلو أخذنا أي "عمل صالح" يعتبره الشرع عملاً صالحاً: يجب أن يكون مما حلله الإسلام، ويجب أن تتجه النية فيه إلى الله، ويجب أن يلتزم قواعد الشريعة إلخ... فالبيع والشراء فيه مصلحة للمسلمين، لكن هناك أنواعاً من البيع والشراء محرّمة، لا يجوز أن يقدم عليها المسلم بحال من الأحوال، فلا يجوز أن يبيع الخمر مثلاً، ولا أن يدخل الربا بيعه أو شراءه إلخ...، والسؤال الآن: لماذا أقدم الدكتور الجابري على هذه التسوية بين المفهومين؟ الأرجح أنه أقدم على ذلك لكي يسهل استيعاب معطيات الحضارة الغربية لدى جماهير الأمة في وقتنا الحاضر، ونقل مفاهيمها في الديمقراطية والحرية والقومية إلخ.
على الأرجح أن "العبودية" هي القيمة المركزية في الأخلاق الإسلامية، وليس "العمل الصالح والمصلحة" لأنها أول ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي كلمة "لا إله إلا الله"، وأول ما دعا إليه إخوته الأنبياء السابقون، فقال تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون". (الأنبياء، 21/25) ولأن هذه العبودية تقتضي عقلاً عارفاً لله من جهة، وقلباً ممتلئاً بالله تعظيماً وخضوعاً وخوفاً ورجاءً وحباً وثقة من جهة ثانية، ويمكن أن تنبثق بعد ذلك من هذا العقل العارف لله والقلب الممتلئ بالله كل الأخلاق المجيدة: من شجاعة وكرم وفاعلية وإيجابية وإيثار إلخ...، ثم يصبح هذا العبد بعد أن يتحلى بكل الصفات السابقة منسجماً مع كل مفردات الكون التي هي عابدة لله، ومسبحة له.
لقد جانب الجابري الصواب في عدة أماكن من كتاب "العقل الأخلاقي العربي":
أولها: اعتباره أن القيم الكسروية هي التي صبغت الثقافة العربية الإسلامية.
ثانيها: اتخاذه "كتب الأدب" مقياساً لتغلغل القيم الكسروية، وقد بينت أن "كتب الفقه" أولى باتخاذها كأداة لهذا القياس.
ثالثها: اعتباره أن "العمل الصالح والمصلحة" هي القيمة المركزية في العقل الأخلاقي العربي، والأرجح أنها "العبودية".
العقل الأخلاقي العربي .. مفردات تعرض الكتاب معزولا عن مشروع الجابري كله .. أعني أنها تعرض ما ذكر في الكتاب ولا تحاول ربطه بما تقدمه من الكتب (تكوين العقل العربي-بنية العقل العربي-العقل السياسي العربي).
كتب بديع ! أعمق كتاب قرأته في التأريخ والتعريف بنظم الأخلاق في ثقافتنا العربية. يقع هذا الكتاب في المرتبة الرابعة في سلسلة نقد العقل العربي، ويعنى بتحليل الكتابات التي تهتم بالأخلاق .. تنظيرا ورواية، طيلة مسيرة التاريخ الإسلامي ! يستفتح الجابري -رحمه الله- كتابه بعرض مقالة درج المتأخرون على ترديدها، تؤكد أن العرب (لم ينتجوا فكراأخلاقيا - خارج الحكم والأمثال- ما عدا ما نقلوه مع الفلسفة من اليونان)، وهي مقولة لبعض المستشرقين ومن تبعهم من الكتاب العرب، ومقابلتها التي تدعي أن المسلمين يملكون أخلاقا إسلامية تسموا على الأخلاق كما هي عند الغرب. ينطلق الجابري لنقد الفكرتين، موضحا أنهما لم تقوما على قراءة واسعة وجادة للفكر الأخلاقي العربي، وهو ما يهتم به هذا الكتاب. ابتدأ بعرض الموروث الفارسي، المكرس لخلق الطاعة، طاعة الملك. ثم ثنى بالموروث اليوناني، المكرس لأخلاق السعادة، سعادة الفرد، وبين أنها عرضت بمظهرين، مرة كنزعة فلسفية، وأخرى كنزعة طبية. وفي طريقه لعرض النظام الأخلاقي العربي، مر الجابري على كتاب المقابسات، الذين يعنون بجمع الأخلاق وعرضها في سوق عام، يجمعون من كل الثقافات، لكنهم مع ذلك يكرسون نظاما معرفيا محددا، غالبا ما كان دائرا بين الفارسي واليوناني. الموروث العربي قائم على المروءة، هذه هي خلاصة الجابري التي ارتضاها بعد تحليله لمجموعة حسنة من كتب الأدب. أما الأخلاق الإسلامية الخالصة، التي يقوم تقريرها على الكتاب والسنة التي تعضده، فيؤكد الجابري حقيقة غريبة، وهي أن الكتابات تكاد لا توجد في هذا المجال، على كثرة الكتب العربية في الأخلاق، وقد كاد الأمل يضيق لولا كتابان للعز ابن عبد السلام، وكتاب لابن تيمية، يقرران أن القيمة المحورية للأخلاق الإسلامية هي المصلحة، مصلحة العباد. وينتهي الجابري إلى أن التحليل الذي قام به فيما يقارب 600 صفحة، قد دلل على وجود فكر أخلاقي عربي، أصيل، يحتاج لمزيد بحث وتحرير. وينفذ من هذه الحقيقة ليربط كل ما تقدم بسؤال النهضة ! كيف ننهض .. وهذه أخلاقنا .. وبناها العميقة !
يعد هذا الكتاب الجزء الرابع في سلسلة نقد العقل العربي، بدأت به لرغبتي بفهم موضوع تكوين العقل الاخلاقي العربي تحديدًا بشكل مجرد عن بقية السلسلة، إلا أنني الآن أج�� نفسي راغبةً بقراءة بقية السلسلة لايضاح المعاني بشكل كامل وفهمها بأفضل الطرق الممكنة. يتناول الكاتب في خمسة أبواب تحوي ثلاثة وعشرين فصلًا تكوين العقل الأخلاقي العربي؛ من حيث تفصيل وضعه الراهن ورؤيته المستقبلية، ومن ثم مناقشة المسائل الأخلاقية في التراث العربي في أربعة فصول، كما ناقش الباب الثاني نظم القيم في الثقافة العربية -تحديدًا القيم الأخلاقية- من حيث التكوين والأهداف والمسببات كذلك، وذلك من حيث مناقشة كلٍ من: الموروث الفارسي او ما يسمى بأخلاق الطاعة، ومن ثم الموروث اليوناني او ما يسمى بأخلاق السعادة، ومن ثم الموروث الصوفي او ما يسمى بأخلاق الفناء وفناء الأخلاق، وختامًا تكون الموروث العربي الخالص كنتيجة لهذه المواريث بما يسمى أخلاق المروءة ناقش الكتاب كذلك دور الدين في تكوين الأخلاق العربية، والمحاولات لأسلمة الأخلاق* كما ناقش الكاتب هندسة الأخلاق والنزعات الانسانية، والمناهج الأخلاقية المتكونة عبر الزمن، وتمثيل الأخلاق حسب نظرية أرسطو "الفضيلة وسط بين رذيلتين؛ فالذكاء مثلًا وسط بين الخبث والبلادة وقس على ذلك. الكتاب رائع واصنفه كبحث بشكل أكبر، دسم صدقًا ويحتاج لعقل هادئ لاستيعاب مجمله.
*شخصيًا أعتقد ان الأديان جاءت لتهذيب الأخلاق ولذلك امتزجت معها تاريخيًا وثقافيًا وليس العكس، وذلك لاستحالة خلو قوم من الأخلاق نهائيًا، فالانسان مكون من عدد من العوامل الانسانية التي تشكل الجزء الأكبر من القيم الانسانية، فتجريده منها يجرده من انسانيته تاليًا ويبثها فيه مجددًا عبر الديانات.