لستُ أكتم هدفاً آخر لا أعرف مدى نجاحي في بلوغه، مفاده تقديم سرد يتحوّل شهادة معللة عن وصول المرء، وهو في الحال هذه أنا، إلى الموقع الذي وصل إليه. فقد يتبدّى إذاك أن المسارات الشخصية فيها من الجد والمعاناة ما لا تلحظه اتهامات سريعة رائجة تنصبّ على مواقف البعض وآرائهم. وثمة، فوق هذا، شوق إلى تمرين على كتابة لا تتاح لي دائماً، مع كونها الأقرب دائماً الى نفسي. هنا ألبّي هذا الشوق. وأخيراً، هي ليست سيرة لأنني لا أظن أن حياتي اكتملت ولا أزعم أن أمزجتي استقرت على مزاج، خصوصاً أن السرد يتوقف قبل دخولي الأربعين.
عدا كتابه الأخير (2017) جيرمين وأخواتها، لعل هذا الكتاب أقرب ما كتبه حازم إلى «الأدب» المحض، حيث يروي فيه صخب حياته السياسية بلغة وصّافة أقرب إلى صور متتابعة لقصة من ثلاثين عاماً تغير معها وجه لبنان بين منتصف الخمسينات ومنتصف الثمانينات. يتوقف السرد بعد فصل أخير مؤلم عن يوميات الحرب أوائل الثمانينات، أما البداية فمع الجدة المسيحية المعتدة بعروبتها مع نكهة عفلقية ترى الإسلام مجد العرب، والتي ورث عنها حفيدها عادة رش التاريخ على أطباق الخرافة. لم يفلت كاتبنا من فخ البعث حتى وقع في فك عبد الناصر وتنظيمه السري، في زمان عربي بقي حيوياً يعج بالأفكار والأحزاب حتى نكسة حزيران، حيث ما لبث أن أغراه شياطين القومية السورية ليغادرهم بعد حين إلى مثقفي الشيوعية الأممية، والذين جال أكثر بين أوساطهم أثناء دارسته في لندن وتعمقه في فكرهم وصوابهم البليد والمتوهج. بعد سنوات نشبت الثورة الإسلامية في إيران، وبهره الإسلام وجماهيره كما بهر كثيرين غيره، فرأى فيه شيئاً من ثورته الضالة. غير أن شكاً عميقاً ظل ينام تحت بخار يقينه المتنقل بين عقيدة وعقيدة، فسرعان ما رأى وجه الإله الإيراني الكالح في بيروت، كما رأى وجوه كل تلك العصبيات التوتاليتارية المغلفة، ورأى كيف يكبر الكلام ليصغر المعنى، وكيف العصبية والرثاثة والتدمير هي المواد التي صنع منها تاريخ «الأمة» حقبة حقبة، ومظاهرة ثم اشتباكاً ثم حرباً، فما الطبقات والأفكار سوى غلاف لإنتاج المواقف يترك الشبان الصغار المتبطّلين الغريزيين «يلوون عنق الكون». انتهت السيرة الفكرية بانكباب على الفكر السياسي الكلاسيكي والليبرالية الأولى بعيداً عن صخب النضال والأفكار المقعّرة، حيث ينتهي الكتاب بفرصة عمل ونجاة من أهوال الحرب، حين غادر صاغية إلى لندن ليصبح واحداً من أهم صناع الرأي وناقدي الثقافة العرب في عصرنا هذا.
الى نص أدبي أقرب منه لسيرة ذاتية. خاض فيه حازم مواضيع شائكة، من تعلق جدته بعروبتها أكثر من مسيحيتها ، لانخراط ث في مذاهب فكرية: قومية، بعثية ناصرية و ماركسية يختمها عن حرب الاهلية