كنتُ أخجل من كلمةِ «بابا». من تربى في الخليج مثلي، يحرص على هجر لسانه حتى لا يقع في فخ سخرية الجميع. وكنتُ أراوغ لساني المصري، بكلمات من قبيل «والدي» أو «يا حاج». وأحيانًا في فورة تفاصح سخيفة «يا أبي». تندرٌ هربتُ به من حرج المفردة العامية وتصوري المُقحم عنها، إنها للأطفال وليّني التفكير.. وكنت كثيرًا أدمجها في خيالي بكلمة «باب» منصوبةً. وكأنني أفتح للسيد الوالد حلقة وصلٍ بين خجلي ومكانه، أفتحُ بابًا لــــ«بابا». ما زال يدهشني كيف لصوت الألف في الكلمتين -على الاختلاف الخفيف- قوة موقعٍ أنسب نفسي إليه، ثم أجعل التسمية والمعنى كيانين تحت عنوان «الإصلاح النفسي لتربية خاطئة».
أتمنى لو كان بامكاننا أن نكره آباءنا بكل بساطة، أن نغضب بشكل حقيقي عليهم، أن نعلم أننا نكفي ونستحق المحبة والاحترام، وأننا لم نكن نحتاج إلى ترويض أو نغزة في البطن أو حتى رسالة عتب، ولكنه ليس سهلا أبدا، وهذا ما يجعل الأغلب عالقا أبدا بشباك علاقاته المعقدة والغير المفهومة.
حتى اذا انتهت الأقدار وجفت الصحف، رق قلبنا بحزن حقيقي ومبالغ فيه بكاءً على ماض مكسور لا يمكن أبدا اصلاحه، وعلى ذكريات جميلة كان من الممكن تشاركها، وعلى أب حقيقي كان يمكن أن يخيم ظله على قلوبنا فيرويها..ولكن لا شيء كما نتمنى يحدث.
"ولكنك يا غريمي وحبيبي ومشكلتي "غرست مخالبك جنب قلبي
لكنك ستعرف أن المغامرة: أن تكسر القفل دون خوف والجنون: أن تصنع مفتاحك، من حصى الأرض. فكيف بالله بنيت بابك، دون قفل، ودون حائط، كأنك تصنع نكتة للناظرين؟ / مؤلم
"عندما تأكد لي غيابه، بحثت عنه في معاجم قديمة، وترجمات متعددة، بحثت عن أثرٍ له أنقله من خيالاتي إلى الواقع. حتى زاد غضبي عليه. ليس لمجرد أنه قد مات، يمنحه العذر في ترك السجال مفتوحًا على انتصار رمزي له، وهو يراني أتحول إليه."
فقدت أبي منذ عام، وأحيانًا أبحث عن بعض العزاء في كتابات من مروا بتجربة شبيهة، وجدت بعضها في هذا الديوان، وبكيت كثيرًا.
❞ شقني نصفين برسالة لم تصل إلا بعد موته صورة أكثر ابتذالًا لعين دامعة وكتب تحتها "واحشني" لكنه في غمرة ألمه نسي أن يدفع فاتورة الهاتف فلم أرها إلا بعد دفنه ❝
❞ أثقلته أنفاسه حتى ضمر جسده أثقله الإبصار حتى أغلق كل الشبابيك وأثقلته نفسه حتى تمنى فناءها -لكنه يخاف الله- هكذا كل صباحٍ ينظر إلي بنصف عين ينقر بأصابعه على أطراف السرير ثم يصلي مضطجعًا وبعد أن يتم صلاته يختار وجهةً لغضبه مرةً ناحية بصيص نورٍ يفلت من الشباك ومرةً في لوحة أزرار سريره كأنه يرسل رسالةً إلى الله على طريقة برايل أما إذا عادته نوبات الألم يصبها علي يختبر صبري أو لعله ينتظر نفاده لأنهي ما لا يقدر على إنهائه -يجعلني بينه وبين الله- ❝
❞ اتفقوا أخيرا أن يتركوه هو ميتٌ في كل الأحوال ومهما طال الانتظار سوف تأتي لحظة يدّعون الحزن عليه وربما يبكون قليلا بدعوى الضرورة الاجتماعية
أنام تحت سريرك مثل أي حيوان أليف معقودة أسلاك حول قدمي ومربوط بواجب دربت نفسي علي نسيانه وفشلت ماذا سأفعل في غيابك ؟ سيكون علي أن أتبع خطواتك ألهذا سعيت إلي ترويضي ؟.