محمود شاكر، عبقري الكتابة، لم أرَ كاتباً يفري فريه!
اقرأ هذا الكتاب لتعلم كيف يحقق الجحافل، وكيف يحررون النصوص. أبو فهر مدرسة في التقصي وطول النفس ودقة النقد، يقيم محكمة تفتيش عند كل فاصلة، شديد الارتياب فيما حشي في كتب المتأخرين من الأخبار، هيهات هيهات أن تفلت منه مفردة دون تقصٍّ أو مساءلة. تمر عليك العبارة وقد استمرأتها من كثرة التكرار، لكنه لا يدعها دون تفتيش أو تنقيب. يروي التاريخ وكأنما هو ابن تلك الأيام، ويتحدث عن الأعلام وكأنما هم من ذوي رحمه. مضافاً لهذا، سابقاً له في المزية والفضل، البراعة في الصنعة الحديثية التي أكسبته معرفة بالرجال وتخريج النصوص وتتبع الأسانيد. أبو فهر مؤسس جيد لآرائه ابتداء، ومن ثم هو شارح متقن لها، يحسن ترتيب ما تشتت من الأفكار والآراء في ذهنه ثم ذهنك، عبر تسلسل واضح ظاهر للقارئ، هو للحاذق مثار تعلم للصنعة البحثية. فيه جرأة لا تحمد إلا في أمثاله ممن بلغوا ما بلغ في العلم والفهم، وهي جرأة خليقة بالباحث الصادق الذي يسعى لمعرفة الحقيقة ونشرها، ولا يجبن تحت غطاء التقليد. مما اعترف به الشيخ -رحمه الله- تنبهه لتشعب المباحث عند تطرقه لبعض المسائل وتزاحم الأفكار في رأسه، ثم اعترافه بأحقيتها الكتابة المفردة المرجأة إلى حين، وليته فعل، خاصة وأني أجزم أن بحثه جاء ناقصاً، وأنه بحاجة لمزيد تمحيص ومراجعة، فلو أنه روجع في عدة أمور لزال كثير من الإشكال في بعض ما أورد. فيا ليت أن الأعمار تهدى، والعقول تخلّد.
منهج الكتاب التأسيس لا النقد. ينبغي أن يعلم أن المؤلف لم ينح نحو المؤلفين المعاصرين في تناولهم هذا الموضوع بعرض الأقوال فيه، ثم نقدها، ثم الترجيح، بل نحا إلى قول أساس مبني على النصوص الأصل في هذا الباب، عرضا، ونقدا، وفهما، وتحريرا، دون الاشتغال بالأقوال التي أوصلها بعضهم لأربعين قولاً. وفي ظني أن هذا فوت عليه كثيرا من الآراء الحاذقة في هذا الموضوع، وفوت عليه نصوصاً مؤثرة في الحكم النهائي، ربما لو وقع عليها نظره لعرض عليها آراءه. وعلى وجاهة كثير من أقواله، إلا أنني أجد له في بعض المواطن افتراضات لا ترتكز على أسس متينة، وتقريرات باعثها الذوق لا قوة الدليل (مثل تفسيره لـ"تقرؤه نائما ويقظان" بالعمى والبصيرة، ففيه من التعسف ما يعاب لو وجد عند غيره ويرد دون نظر أو اعتبار، خاصة مع يسر تفسيره بمعانٍ أخرى غير مشكلة ومقبولة ومدعومة بالنصوص والأدلة)، وتضاد خفي بين بعضها، مما يحتاج إلى طول تريث ونظر. وفي ظني أن الشيخ لو بقي حياً لأعمل فيه عقله أكثر قبل إخراجه بهذه الصورة، ولتروى في بعض ما طرحه من الأفكار، خاصة إن عرضه على المتخصصين في هذا الباب، السابرين غوره، المتنبهين لمزالقه.
وقد انفرد -رحمه الله- بتفصيله لمراحل الكتابة، وامتاز عن سابقيه في رؤيته وتقسيمه، ففي العهد النبوي الذي طالما ذكر الجمع فيها مقتضبا، تفرد صاحبنا بدقة تقسيمه وتحليله لتلك المرحلة، إذ يترتب على ما يتقرر فيها من الآراء كثير من الأقوال في باب الأحرف السبعة، فما كان منه إلا أن أعد العدة قبل أن يشرع في تشريح النصوص.
ملخص ما قرره أبو فهر في حديثه عن الأحرف السبعة ومسائلها: -أن القرآن كان على حرف واحد إلى أواخر سنة تسع، أي نحوا من ٢٢ سنة، حتى أذن الله بالتخفيف عن أمته بالأحرف السبعة بعد ذلك. -أن الذي كتبه كتاب الوحي مفرقا في الرقاع واللخاف وغيرها إنما كان حرفا واحدا في أوائل نزول القرآن= إذن: عودة زيد بن ثابت لجمع المصحف بتتبعه من الصدور ثم منها يدل على أن الحرف الذي اختير في المصحف الإمام هو هذا الحرف الأول الذي نزل به القرآن. (وهو من الافتراضات التي لا يقف دونها حائل، لكن الجزم به أيضا لا يرتكز على متين). -المراد بكتابة القرآن بـ"لسان قريش": استبعاد ما تفردت به القبائل دونها تفردا في طريقة نطق الكلمة التي تؤثر في طريقة كتابتها أو رسمها، وتخصيص ذلك بكتابة المصحف لا تلاوته، ثم تخصيصه بما وقع فيه الاختلاف بين القراء، فيخرج من ذلك ما لا يكون فيه بينهم خلاف، وإن لم يكن من لغة قريش. -أن المراد بـ"الأمة الأمية" أي: التي ليس لها كتاب منزل على نبي، يتوارثونه بينهم جيلا بعد جيل، يتلونه ويتدارسونه، فهم متروكون على جبلتهم وفطرتهم، أي: ما ولدتهم عليه أمهاتهم. وقد وردت هذه العبارة في طلب رسول الله التخفيف عن أمته الأمية بالأحرف السبعة، وذلك لاختلاف لهجاتهم، ولأنه لا كتاب لهم سابق، لانت ألسنتهم على تلاوته، فيهون عليهم الانتقال من لهجة ألفوها، إلى أخرى لم يألفوها، والتي كان يتطلبها قراءة القرآن في مبتدأ الوحي. ويشهد لذلك تخصيصه عليه الصلاة والسلام تلك الأمة بالأمثلة التالية: "العجوز، الشيخ الكبير، الغلام، الجارية، الرجل الذي لم يقرأ كتابا قط". فهؤلاء جميعا كما ترى يجمعهم العنت والمشقة في الانتقال من لهجة ألفوها إلى أخرى لم يألفوها، والتقيد بلفظ الكلام المكتوب، على الوجه الذي قاله صاحبه أو كتبه [واستحضر معي صورة جدتك وهي تتلو القرآن وهو عليها شاق عند تحقيق الهمزات وميلها إلى تسهيلها؛ يترجح عندك مثل هذا الرأي وترى وجاهته]. وهذا التنبه منه لهذا الملمح اللطيف، وعدم تمريره لمثل هذه النصوص دون تمحيص، هو مما قصدت الإشارة إليه في ثنائي أعلاه، ولا أدري أسبقه أحد إلى الاستدلال بهذا النص على هذا الرأي أم لا. -التفريق بين اللهجة واللحن واللغة واللسان، وتعريف كل منها. فاللهجة جرس الكلام، ويدخل تحتها: الروم والإشمام والإمالة، ونحو ذلك. واللحن: ترجيع الكلام، وهو أعم من اللهجة وأدنى إلى اللغة؛ لأنه حركة الصوت بجملة الكلام لا بأبعاضه، وبه تتميز القبائل من أهل اللسان الواحد. وأما اللغة فهي الكلام نفسه بلحنه ولهجته، ويدخل تحته ما يكون من لغة القبائل في حركة أنفس الكلمات، ونحوه. وأما اللسان: فهو الكلام الذي يعبر به القوم عن أغراضهم، وهو الذي نسميه اليوم اللغة، وهو أشملهم. وهذا التفريق هام، ويعين على تحقيق القول في معنى الأحرف السبعة. -المراد بالأحرف السبعة: إن أول ما يتضمنه الحرف هو ما اختلفت في نطقه ألسنة العرب وحناجرها من هيئة إخراج الحروف مقطوعة وموصولة (أصول أداء القرآن)، من إمالة وإدغام وروم وإشمام، ونحوها. وهو أعظم أبواب التجويد، ولأجله سأل رسول الله ربه التخفيف، لأن المقصود لا تبديل الألفاظ وإنما التيسير في باب الأداء والتجويد. ويدخل تحت باب التهوين أيضا: ١-الاختلاف في حركة أنفس الكلمات، مثل: "البُخل" و"البَخل". و٢-الاختلاف في حركة الإعراب مما يكون من باب لغات القبائل، مثل الاختلاف في: "أمهاتِهِم" و"أمهاتُهُم". أما ما كان من باب "الأداء": فـ٣-الاختلاف في حركة أنفس الكلمات مع تغير يسير في المعنى. ٤-اختلاف حركة الإعراب، ويداخله تغير إسناد الأفعال. ٥-اختلاف في نفس الكلمة مع مطابقتها لرسم المصحف. ٦-اختلاف في نفس الكلمة مع مخالفتها لرسم المصحف. ٧-اختلاف في التقديم والتأخير، على غير رسم المصحف الإمام. ٨-اختلاف في الإفراد والجمع، والتأنيث والتذكير، ونحوها. ٩-اختلاف في الزيادة على رسم المصحف الإمام. ١٠-اختلاف في النقص عن رسم المصحف الإمام= هذه الفصول العشرة كانت مفرقة بين الأحرف السبعة، يتضمن كل حرف منها قدرا لا يوجب إفراده على حدته، لأن كل سورة من سور القرآن تشتمل على قدر يسير منها. فلم يبلغنا أن رسول الله أمر الصحابة بكتابة مصحف على الحرف الأول ثم الثاني ثم الثالث… فتركه ذلك دليل على أنه لم يكن مأمورا بإفراد كل حرف على حدته، ناهيك عن أن في الإلزام بالقراءة بحرف واحد من العنت والمشقة ما يخالف صورة التخفيف والتهوين التي جاءت بها الأحرف السبعة، وفي تصويب جميع القراءات لعمر رضي الله عنه حينما خالطه الشك ما يقوي هذا المعنى ويعضده. -معارضة قول أبي جعفر الطبري أن الذي نقرأ به حرف واحد من الأحرف السبعة، واعترض عليه بسؤال اختلاف القراء في القراءات، والحق أن معارضته قوية واستشكاله يصعب الجواب عليه بغير القول أن ما عندنا من القراءات يرجع إلى عدة أحرف لا حرف واحد. -أن ما فعله عثمان رضي الله عنه لم يتعدَّ حسم النزاع فيما له أثر في اختلاف رسم المصاحف وكتابتها، أما الاختلاف في الأداء، والاختلاف في حركات أنفس الكلمات، وحركات الإعراب، فلم يحسم منه شيئا. -أن علم النحو، إنما هو ثمرة اختلاف الأحرف السبعة، ولولاه لتأخر النظر فيه. -عدم وقوف المؤلف على حديث صحيح ولا نص بيِّن، يكون حجة دالة على أن رسول الله قد اتخذ بمكة كتابا للوحي، وأن المعتمد في تلك الحقبة هو الحفظ في الصدور. -أن بدء كتابة الوَحْي إنما كان بعد مقتلة بئر معونة، في السنة الخامسة أو السادسة، وأن زيد بن ثابت هو كاتب الوَحْي الذي لزم كتابته إلى أن لحق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرفيق الأعلى، وأن غيره من الصحابة كتبوا ما شاء الله أن يكتبوا، ولكن لا على وجه الملازمة والاستمرار. ومما يقوي هذا القول في نفس المؤلف: عنونة البخاري لحديث الكتابة بـ"كاتب النبي" ويعني به زيد بن ثابت، دون أن يذكر غيره. -أن معنى "قراء القرآن" في حديث عمر عن قتلى اليمامة: القوم من الصحابة الذين تلقوا عن رسول الله قرآنا قل أو كثر، مقروءا على حرف من الأحرف السبعة، وأن خوفه من "ذهاب كثير منها"، يقع على اختلاف قراءة الآيات والسور باختلاف الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، لأن كل حرف منها قرآن، خاصة الستة التي نزلت بأخرة، وتلقاها صحابة معدودون، ولم يطل بها أمد كالحرف الأول، فضياعها ضياع وجوه من قراءة بعض ألفاظ القرآن، لا نص القرآن تاما بسوره المعدودات وترتيب آياته على الحرف الأول، فيكون معنى "جمع القرآن" في عهد أبي بكر: كتابته في صحف مثبت على نواحيها اختلاف الأحرف السبعة في نص القرآن المحفوظ في صدور الصحابة. وقد استغرق هذا العمل من زيد رضي الله عنه سنة أو أقل على وجه التحقيق. -أن المراد بـ"جمع القرآن" في عهد عثمان رضي الله عنه: جمع القرآن على أحد الأحرف السبعة في صحف مجموعة مرتبة على ترتيب حفظه في الصدور، ثم تتبع بقية الأحرف، وإعادة كتابة هذه الصحف على رسم تحتمل قراءته بعض اختلاف الأحرف السبعة، ويتخذ منها مصحفا إماما يرسل منه بنسخ متعددة إلى أمصار المسلمين، ويلزم القراء بألا يقرئوا الناس إلا ما وافق رسم هذا المصحف. -أن الأصل الذي مضى عليه أمر القرآن منذ نزل هو حفظه في الصدر، لا كتابته في الطرس، فهو كتاب وإن لم يكن مجموعا بين دفتين، كما سماه الله ووصفه: "وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان"، ولعل في قوله: "لا يغسله الماء" إشارة إلى أن الصدر يحتويه؛ لذا لا يصل إليه الماء ولا يضره كما المكتوب. -أن المراد بقولهم: "أول من جمع القرآن" أي: بين لوحين. وكتبه في صحف متتابعة مرتبة، فيكون بهذا المعنى أبا بكر رضي الله عنه. -أن لفظ «جمع القرآن» مشترك بين حفظه في الصدور مرتبًا، وهو الأصلُ الذي جَرَ�� عليه كلامُهُمْ حتى عزم أبو بكر على كتابة القرآن في الصُّحف = وبين جمعه كما يُجمع كُلُّ كتاب، وهذا هو المعنى الذي جاء في حديث زيد بن ثابت. والتفريق بين المعنيين، وتحديد زمانهما، هو العاصم من الزلل في فهم هذا اللفظ، وفي تاريخ القرآن. -أن ما فعله أبو بكر من الفصل في قضية كانت مشتبهة عند الصحابة، وهي جمع القرآن بين دفتين، من فضائل أبي بكر على الأمة، وبعمله مهد لعثمان رضي الله عنه الجمع الثاني، وإلا لما اجترأ هو أيضا بعمل لم يسبق إليه أحد. -ما كان في العهد النبوي من الأحداث ما هو إلا إرهاصات لما تلاه، فالبذرة الأولى لكتابة المصاحف كان في فداء أسارى بدر بتعليمهم الصبيان، فكان منهم كاتب الوحي زيد بن ثابت، ومن ثم نهي النبي عن كتابة شيء سوى القرآن، تشريعا لكتابة القرآن وإن لم يكن في ذلك صراحة الحض على جمعه، يسبق ذلك كله الدلالة اللغوية للكتاب في وصف الله لكلامه بالكتاب، التي تدل على الخط في الصحف، وفي ذلك كله إشارات ومقدمات للمرحلة التالية من كتابة المصحف وجمعه، وإن كان الأصل عندنا أن القرآن يتلقى ويجمع في الصدور قبل السطور.
كتاب كنز وقيم في بابه، وإضافة ثمينة في موضوع ما زال محل مراجعة واجتهاد. ينبغي أن يستتبع بقراءة ملحوظات شيخنا الطيار، فشيخنا ممن لا يتجاوز إلى غيره عند عرض الآراء المطروحة في الدراسات القرآنية: https://drive.google.com/file/d/18aX7...
*بخصوص صورة الغلاف: شركات التدخين ماسكة شيء على دور النشر؟ كما أن قيمة الكتاب لن تقلّ لو كانت الأغلفة ملونة أيضاً.
تتبّع محمود محمّد شاكر، رحمه الله، المراحل التي قطعها جمع القرآن حتى انتهى إلى كتابة المصحف الإمام في زمن عثمان، سنة خمس وعشرين وما بعدها، ثمّ إرسال نُسَخِهِ إلى الأمصار .
اختلفت قبائل العرب في حركة أنفُسِ الكلماتِ وتصريفها ونحوها، كاختلافها في عين الفعل الماضي والمضارع وما يتبعهُ من تغيّرِ بابِه، وكاختلافها في الإعراب حيثُ يرفعُ قومٌ ما ينصبهُ غيرهم، ولكن بناء اللّغة وتركيبها وقواعِدَ تصريفها كان واحدًا لا يكادُ يختلفُ إلا في الشاذّ النادر. والاختلاف قائمٌ أيضًا في النُّطقِ ويختلفُ باختلاف هذه القبائل، من إشمامٍ،ورومٍ، وإدغامٍ، وإظهارٍ، وإمالةٍ، وإخفاءٍ، وتفخيمٍ، وترقيقٍ، وغُنّةٍ، ومدٍّ، وقصرٍ،وتسهيل همزة أو نبرها، وأشبهُ ذلك ممّا يتعلّقُ بالنُّطقِ ومخارج الحروف، ما بين الحَسن، والمقبول، والمستبشع، والخبيث.
عن أبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار، قال: فأتاه جبريل، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، قال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك " ثم أتاه الثانية، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، إن أمتي لا تطيق ذلك " ثم جاءه الثالثة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على (٣) ثلاثة أحرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسأل الله معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك " ثم جاء الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرأُوا عليه فقد أصابوا.
وإن القرآن العظيم ظلّ ينزل على حرفٍ واحدٍ، اثنتينِ وعشرينَ سنة، في مكّة والمدينة، منذ البعثة إلى سنة تسع من الهجرة. وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم نظر في هذا الأمر لمجيء هذه الوفودِ المختلفة اللهجات واللّحون وهي مُعجلةٌ سريعةُ الأوبةِ إلى ديارها ونظرَ إلى من وراءهم من أهليهم الّذين ينتظرون عودة الوفود بإسلامها وقرآنها.
** في المرحلة الأولى (13 عامًا في مكّة) : ما من دليل واحد من صحاح الأخبار ومُسنداتها، يُعين على استنباط شيءٍ يُوثّق به في شأن كتابة الوحيْ بمكّة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
** المرحلة الثّانية : (منذ هجرة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ومُقامه بها حتّى لحِقَ بالرّفيق الأعلى.) إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يتّخذ كاتبًا للوحي إلا بعد مقتلة القُرّاء بالرّجيع وبئر معونة . وأوّل من كتب الوحيَ لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مقدمه المدينة هو "أبيَّ بن كعب" . لكن زيد بن ثابت هو كاتب الوحي الذي لزم كتابته إلى أن لحق رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالرّفيق الأعلى، وغيره من الصّحابة كتبوا ما شاء الله أن يكتبوا، ولكن لا على وجه الملازمة والاستمرار.
وهذا يومٌ لا ينساهُ مثل عمر، لما كان أخذه فيه من الحيرة والشّك، والتّردد، فلم يسكن طائر قلبه حتى ضرب رسول الله ﷺ في صدره وقال "ابعد شيطانًا" ثلاث مرّاتٍ. بقي هذا اليومُ لقربِ عهدهِ مقترنًا بالأحرف السّبعة.
** المرحلة الثَالثة : منذ وفاته صلّى الله عليه وسلّم إلى أن طُعن عُمر رضي الله عنه ،
وأبدأ بحديث صحيح :
عن زيد بن ثابت الأنصاري -رضي الله عنه، وكان ممَّن يكتب الوحيَ- قال: أرسلَ إليَّ أبو بكر مَقتلَ أهلِ اليَمَامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إنَّ عمر أتاني، فقال: إن القتلَ قد اسْتَحَرَّ يوم اليَمَامة بالناس، وإنِّي أخشى أنْ يَسْتَحِرَّ القتلُ بالقُرَّاء في المواطن، فيذهب كثيرٌ من القرآن إلَّا أنْ تجْمعوه، وإنِّي لأَرى أنْ تَجْمع القرآنَ. قال أبو بكر: قلتُ لعمر: «كيف أفعلُ شيئًا لم يفعله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟» فقال عمر: هو واللهِ خيرٌ. فلم يزَلْ عمر يُراجعني فيه حتى شَرَحَ اللهُ لذلك صَدري، ورأيتُ الذي رأى عمر، قال زيد بن ثابت: وعمرُ عنده جالسٌ لا يتكلَّم، فقال أبو بكر: إنك رجلٌ شابٌّ عاقلٌ، ولا نَتَّهِمُك، كنتَ تكتبُ الوحيَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتَتَبَّعِ القرآنَ فاجْمعه، فواللهِ لو كلَّفني نَقْلَ جبل من الجبال ما كان أثقلَ عليَّ ممَّا أمرني به مِن جَمْعِ القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو بكر: هو واللهِ خيرٌ، فلم أزَلْ أراجعه حتى شرح اللهُ صدري للذي شرحَ اللهُ له صدرَ أبي بكر وعمر، فقمتُ فتتبَّعتُ القرآنَ أجمعُه من الرِّقَاع والأكتاف، والعُسُب وصدور الرجال.
وأن زيدًا لما فرغَ من كتابة القرآن في الصُّحفِ على الحرفِ الأوّل وعلى رسمهِ، أقبلَ على القرآن يجمعهُ "من صدور الرّجال" وهو القرآن الذي وعتهُ صدورهم حفظًا مقروءًا على الأحرف السبعة جميعًا.
إذن، فالذي كان "في صدور الرّجال" هو القرآن بسورهِ المعدودات، وكل سورةٍ معدودةٌ آياتها مرتّبةً على ترتيب تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومقروءةً ألفاظُ آياتها على "الأحرف السبعة" التي نزل بها القرآن على قلبِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وشرط زيد في جمع ذلك المكتوب، أن لا يقبل، كما أمره أبو بكر وعُمر، ممّن كتب لنفسه قرآنًا، إلّا أن يجيء على ما كتب بشهيدين يشهدان أنه كتب ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعارضه بِه، وأقرّه رسول الله على ما كتب.
* في عهدِ عثمان رضي الله عنه
حديث صحيح : إن حذيفة بن اليَمان قدمَ على عثمان وكان يُغازي أهل الشام في فتْح أَرْمِيِنيَّة، وأَذْرَبِيجان مع أهل العراق، فأفْزَع حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال حُذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدْرِكْ هذه الأمةَ، قبل أنْ يختلفوا في الكتاب اختلافَ اليهود والنصارى، فأرسل عثمانُ إلى حفصة: «أنْ أرسلي إلينا بالصُّحُف ننسخُها في المصاحف، ثم نردُّها إليك»، فأرسلتْ بها حفصةُ إلى عثمان، فأَمَر زيدَ بن ثابت، وعبدَ الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرَّهْط القُرَشيِّين الثلاثة: «إذا اختلفتم أنتم وزيدُ بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بِلِسان قُريش، فإنما نزل بِلِسانهم» ففعلوا حتى إذا نسخوا الصُّحُف في المصاحف، رَدَّ عثمانُ الصُّحُفَ إلى حفصة، وأرسل إلى كلِّ أُفُق بمصحف مما نَسَخُوا، وأَمَر بما سواه من القرآن في كلِّ صحِيفة أو مُصحف، أنْ يُحرق.
لقد توضّح عندي الغامض في فهم شأن المصاحف وارتباطها بالأحرف السّبعة التي نزل عليها القرآن الكريم .. ولكن من جهةٍ أخرى، أرى أنّ بحث محمود محمد شاكر رحمه الله، قد أدخلني في أسئلةٍ متواليةٍ، استعصى عليّ أن أجد لبعضها جوابًا.
نقدر نقول صفة الجمع غير ما كنت أظن، وإن الجمع مقصود به الأحرف الستة، وإنها مفرقة في المصحف على غير ما يقال اليوم بأن الموجود بين أيدينا هو الحرف واحد فقط والاختلاف اختلاف لهجات. معنى الحرف لحون العرب ولهجاتها ولغاتها، وفتح الأبواب لمعاني أخرى لفظ قارئ لم يكن بمعنى الجامع لكل القرآن في صدره. النزول كان على حرف واحد والأذن بالأحرف السبعة نزل مؤخرا بعد الفتح لكثرة الوفود. وتفسيره لمعنى نائما ويقظان بمعنى بصيرا وغير بصير. فلو حملها على المعنى الظاهر وأن هذا خاص بالنبي أن يقرأ القرآن نائما ويقظان كما ورد عن عائشة قالت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: إن عيناي تنامان ولا ينام قلبي. لعله هذا المقصود لأن الحديث قال؛ تقرأه. عموما الكتاب بيفتح أبوابا من الأسئلة لا حد لها عاوز اقرأ كتاب المصاحف، وعاوز اطلع على الخطوط المصحف القديمة، ومعرفة الخط القديم. من الأسئلة اللي وقفت عليها قول سيدنا زيد ( فلم أجدها مع أحد غيره ) وتفسير شاكر لها بأن لم يجدها مكتوبة فهل يعنى هذا أن القران كان كله مكتوبا عند أكثر من صحابي سواء كتبة الوحى أو غيرهم، ولو أن المكتوب كان جله، إما أن يكون هناك آيات قد تعددت كتابتها عند أكثر من واحد، وآيات كُتبت متفرقة بين الصحابة، لم تتعدد كتابتها. فلزم من هذا أن تكون الآية الواحدة كتبها أكثر من صحابي، ومن المعلوم – عنده – أن المكتوب لا يكاد يتجاوز ربع القرآن، ولم يكتب من القرآن المكي شيء. فهذا يلزم وجود آيات لم تكتب أصلا وآيات كتبت عند صحابي واحد فقط فكيف يفسر مقوله زيد بأنه لم يجدها. أي مكتوبة .
ليته أتمه رحمه الله، والكتاب يحتاج مزيد تفصيل وتخريج، فقد جاء أكثره مجملا، وأهم ما ينقص الكتاب شيئان يمكن إصلاحهما بالشرح: ١- تكثير الشواهد النصية على آراء المؤلف، وهذا النقص راجع إلى المنهج البحثي المعروف الخاص بالمؤلف رحمه الله من التركيز على التذوق واستكشاف النصوص المركزية بدل الاستكثار من التفاصيل. ٢- دفع الاعتراضات على استنتاجات المؤلف.