«تِيبْحِيرِينْ»! هذه الكلمة الأمازيغية ذات الإيقاع الشعريّ في السمع والتي تعني الجنان أو البستان في لغة أهل البلد، الذين هم اليوم أهلي، كانت فِتْنتي الأولى ـ ووحشتي لاحقًا. إنها جنة صغيرة بخصوبة أرضها ودفق مائها واخضرار محيطها، الذي يغدو في أيام الثلج وشاحًا قدسيًّا، تحضن الدير مثل هدية أنزلها الإله من السماء ووضعها بين «تَمزْگيدَة»، جبال النار هنا، وبين الشّْريعة، جبال الأرزّ الفاتن هنالك. فكذلك نما لها، مثل فسيلة زيتون، عشقٌ في قلبي أنا الذي جئتُ من منطقة القالة شرقًا، الساحرةِ ببحيرتها مَعبرًا للطيور المهاجرة، وبمينائها ملتقى للغرباء، حيث وُلدتُ لأسرة شاء لها قدرُها أن تكون من هذه العائلات التي تُسمّى «الأقدام السوداء». فكنتُ، إذاً، فرنسيًا بالولادة، لتصبح حياتي كلها من أجل أن أنتهي جزائريًا بالهوية. على سعادة، في غدٍ من الغدوات، إذ خرجت إلى البستان لأجني سلّة من المشمش تحضيرًا لتحلية الغداء، رأيتُ في السهل القريب هذه البقرة التي ترعى وحدها، أحسبُها تنظر ولا ترى. وغير بعيد عنها هذا الراعي الذي يحمل عصًا وحلُمًا كان سيعود به عند ميَلان الشمس نحو مغيبها سائقًا غنمه إلى الزريبة، كما فعل الأنبياء موسى والمسيح ومحمّد.
السيرة الذاتية الحبيب السائح كاتب جزائري من مواليد منطقة سيدي عيسى ولاية معسكر. نشأ في مدينة سعيدة، تخرّج من جامعة وهران (ليسانس آداب ودراسات ما بعد التخرّج). اشتغل بالتّدريس وساهم في الصحافة الجزائرية والعربية. غادر الجزائر سنة 1994 متّجها نحو تونس حيث أقام بها نصف سنة قبل أن يشدّ الرّحال نحو المغرب الأقصى ثم عاد بعد ذلك إلى الجزائر ليتفرّغ منذ سنوات للإبداع الأدبي قصة ورواية. § صدر لـه : - القرار : مجموعة قصصية، سوريا 1979 / الجزائر 1985. - الصعود نحو الأسفل : مجموعة قصصية، الجزائر، ط 1، 1981، ط 2، 1986. - زمن النمرود : رواية، الجزائر 1985. - ذاك الحنين : رواية، الجزائر 1997. - البهية تتزيّن لجلادها : مجموعة قصصية، سوريا 2000. - تماسخت : رواية، دار القصبة، الجزائر 2002. - تلك المحبّة، الجزائر 2003. - الموت بالتّقسيط : قصص، اتحاد الكتاب الجزائريين 2003. § ترجمت لـه إلى الفرنسية : - ذاك الحنين 2002. - تماسخت 2002. الوصف الحبيب السائح الذي يعيش بين سعيدة التي احتضنته صغيرا، وأدرار التي احتضنته كبيرا، أشبه ما يكون بالساعي بين الصفا والمروة،على اعتقاد لا يتزعزع، بأن قارئه، يسكن هناك في جهة المستقبل.
خلال الحرب الأهلية الجزائرية أُختطف وأُغتيل سبعة رهبان من دير تِيبحيرين بطريقة بشعة
هذه الحادثة التي كانت المحور الرئيس الذي ارتكز عليه الحبيب السائح في عمله الأدبي التوثيقي عن هذه الفاجعة. السائح الذي لم أقرأ له أو أسمع عنه من قبل قدّم عملًا ذا لغة بديعة بأسلوب ذكي أنطق فيه كل راهب على حدى مشكّلًا ما يشبه السيرة أو سبع سيَر إلى جانب سيرة الراوي الأخ أميدي.
إن هذا العمل كُتب بأسى واخلاص تام في سبيل تخليد هؤلاء الرهبان بقالب أدبي ممتع وجدير بالاهتمام. أنا معجبة بأسلوب الكتابة هنا.
توثق الرواية حادثة اختطاف سبعة رهبان من دير تيبحيرين بالجزائر عام ١٩٩٦ وقتلهم على يد جماعة إرهابية أثناء الحرب الأهلية تنقسم فصولها الى فصول تحكي عن الحادثة، وفصول تحكي حكاية كل راهب منهم، رحلة حياته وصولا الى دير سيدة الأطلس
الرواية حزينة، ومأساوية بالطبع، ولكن ليس بسبب حادث الاختطاف المؤلم فقط.. فالكاتب يتعرض لمختلف وجوه الحرب، فعندما قررت فرنسا احتلال الجزائر عام ١٨٣٠ ومعاملة شعبها كالبهائم وارتكاب من الفظائع بحقه ما يشيب لهوله الولدان، كان هناك البعض ممن رأى وحشية ما يحدث، بعض ممن استيقظت فيهم الانسانية وقت ان رأوا خلقا مثلهم يُقتلون ويبادون بكل غلظة وبلا منطق. ولكنهم كانوا بضعة جنود لا قوة لهم سوى الاعتراف بفداحة ما أقدموا عليه، فترى اغلبية الرهبان يتحدثون عن أيام خدمتهم بجيش الاحتلال الفرنسي، والفظائع التي ارتكبوها فى ذلك الوقت ضد أهل البلد من قتل وتعذيب واغتصاب، ثم سيطرة الندم عليهم لاحقا مما يجعلهم يسلكون طريق الرب لعله يغفر لهم ما فعلوه.
ترى أصحاب الأقدام السوداء، وهم أبناء المستعمر الذين ولدوا فى الجزائر وعاشوا هناك ولكنهم كانوا مختلفين بالطبع كلية عن أبناء البلد الأصليين. وترى أزمتهم الوجودية. فهذه بلد ولدوا بها وتنشقوا هواءها وساروا بأزقتها وتعلموا بمدارسها ولهم فيها أصدقاء ورفاق. ولكنهم ما زالوا غرباء، اسما ودينا وعرقا.. لا ينتمون لهنا ولا هناك. يحزنهم ما يتعرض له البلد الذي احتضنهم على يد البلد الذي جاءت منه عائلاتهم.
هناك أيضا الجواسيس، او اصحاب البلد الذين يعملون لصالح العدو، من ثم يلحق بهم وبأبنائهم العار للأبد، فلا يوجد مفر لهم سوى الهروب الى فرنسا، او أن يلتحق أحد الأبناء بجيش التحرير لتطهير اسم العائلة.
وهناك الجماعات الإرهابية، التي لا دين ولا وطن لها، يقتلون المسلم والمسيحي ويشيعون الفتنة مستغلين خروج البلاد من محنة عظيمة استمرت لما يقرب من ١٣٠ عاما، وبدلا من إعادة إعمارها، فكل ما يفعلونه هو تأجيج الحرب الأهلية خدمة لمصالحهم الخاصة.. وكان على رأس جرائمهم جريمة اختطاف رهبان دير سيدة الأطلس، وهم رجال كبار السن منهم من كان يبلغ الخمسين والستين بل والثمانين من عمره، بعدما عاشوا فى خدمة أهل القرى المجاورة وفى خدمة الدير سنين عمرهم، وذبحهم ببشاعة وإلقاء رؤوسهم على أحد الأرصفة.
فترة عصيبة بحق مرت بها الجزائر، وعاني أهلها الكثير، ولا يسع الانسان عندما يقرأ عنها سوى أن يشعر بالألم والأسى على انتهاك حرمة الانسان.
كانت قرائتي الاولى للحبيب السائح، هناك بعض الفقرات التي اختلط علي أمرها واحتجت لقرائتها مرة ثانية، خصوصا عندما يختلط السرد بالحوار، ولكن فى العموم اسلوبه مميز وجميل والرواية تستحق القراءة.
"تيبحيرين" الرواية التكريمية ( Un Roman hommage ) عندما يتمحور موضوع الرواية حول حادثة تاريخية معاصرة، وتفاصيلها معروفة بل محفورة في ذاكرة القارئ، فإنّه سيقف أمامها متردّدا بين الميثاق الروائي والحقيقة التاريخية، وإذا كانت الحادثة موضوع الرّواية تخصّ زمن الحرب الأهلية الجزائرية، فسيفترض أنه أمام رواية تنتمي إلى سرديات المحنة أو ما يعرف برواية العشرية السوداء، خاصة مع اعتراف القارئ بفضل الرّواية في التأريخ والتوثيق لتلك الفترة المتأزّمة والهشّة من تاريخ الجزائر المعاصر في ظل غياب الخطاب الرسمي والمساءلة التاريخية حولها، وسيتساءل عما يمكن للرّواية أن تضيفه للحدث التاريخي المعروف بتفاصيله ونهايته ومآلاته، ويبقى فكره مشدودا إلى كيفية تعاطي الرّواية مع الحقيقة التاريخية التي تستعيدها أو تستدعيها بين دفتيها. خاصة أنّ الرواية لا تخرج الحدث التاريخي من ماضويته وتعيد تحيينه وإحياءه فحسب، وإنّما تستله من صرامة وصلابة ويقينية السرد التاريخي وتطوّح به إلى العوالم الجمالية والفنية للأدب، فكأنّها تخرجه من مربّع الثابت إلى دائرة المتغيّر القابل للممكنات والقراءات وتعدّد التأويلات بلا نهاية. وهو الأمر الذي راودني أثناء قراءتي لرواية "تبحيرين- محنة الرهبان السّبعة" التي يتضح من خلال الدلالة المباشرة لعنوانها أنّها تتمحور حول حدث حبس أنفاس الجزائريين والفرنسيين على حدّ سواء طيلة ما يقارب الشهرين مترقبين مصير سبعة رهبان من دير "سيدة الأطلس" بقرية "تبحيرين" بضواحي مدينة "المدية" أين تمّ اختطافهم واغتيالهم في ربيع سنة ألف وتسعمائة وستة وتعسين، فجعلني أتساءل عمّا يمكنني أن أستنبطه من خلال قراءتي للحدث روائيا لا تاريخيا. 1) تيبحيرين فتنة الرهبان ومحنتهم يقول السارد "أميدي" عن المنطقة: "تيبحيرين" هذه الكلمة الأمازيغية ذات الإيقاع الشعريّ في السمع والتي تعني الجنان أو البستان في لغة أهل البلد، الذين هم اليوم أهلي، كانت فتنتي الأولى- ووحشتي لاحقا" (الرواية ص 12) ثمّ يردف واصفا جمال الطبيعة الآسر الذي أبهره وباقي الرّهبان، حيث يثني جميعهم في النّص على جمال المنطقة وسحر الطبيعة الجزائرية وتنوّعها، فكان ذلك الافتتان من الأسباب التي جعلتهم يتمسّكون بالإقامة في الجزائر بعد انتهاء حرب التّحرير، ثمّ يصرّون لاحقا على البقاء "بتيبحيرين" رغم تحدّيات الحرب الأهلية والخطورة التي هدّدت سلامتهم في تلك الفترة، إلى أن لقى سبعة من أصل تسعة منهم مصيرهم التراجيدي، فعاشوا فيها محنة الاختطاف والأسر كرهائن لاستبدالهم بموقوفين، ومن ثمّ الاغتيال وقطع الرؤوس التي لم تلتحق بالأجساد حتى بعد الدّفن، فتشاركوا مع الجزائريين نفس الخوف والقلق والمصير المأساوي، واختلطت دماؤهم بدماء الشعب الجزائري، كما شاركوهم شمس هذا البلد وماءه وهواءه وخيراته، لتبقى "تيبحيرين" في الواقع شاهدة على أحد أبشع الاغتيالات في تاريخ الجزائر المعاصر، ويقترن اسمها إلى اليوم بمأساة الرهبان السّبعة، تماما كما يقرن الرّوائي في عنوانه، المكان (تيبحيرين) بالحدث التاريخي (محنة الرهبان السبعة)، وبهذا الاقتران يترجم العنوان واقع الحدث التاريخي ومآله. 2) السرد اليومياتي واعترافات الرهبان اختار الرّوائي أن يسرد أحداث الرّواية على لسان إحدى شخصياتها، وهي شخصية واقعية لها وجودها المادي الحقيقي في الحياة والمتمثّلة في الراهب "أميدي" الناجي الثاني من المأساة، فهو السارد والشخصية المحورية في الرواية، وهذا الخيار له مبرّره الذي نستشفّه في جانبين، الجانب الأوّل، لغوي؛ إذ يتفشّى في الرّواية خطاب ذو طابع ديني روحاني، من أجل التعبير عن الرؤية الفلسفية للأديان التي تطفح بها الرّواية، وتبلّغ كذلك عن النزعة التأملية والطبيعة المسالمة والتسامحية التي ينماز بها الرهبان في الديانة المسيحية، وهي لغة أقرب إلى لغة الدّراويش والفقراء الصّوفية في الإسلام، ما يجعل اللغة متماشية ومندمجة مع مضمون الرّواية، معبّرة عن نوعية شخصياتها الدينية، ويتحقّق بذلك نوع من الصّدق اللّغوي في الخطاب الرّوائي، إن صحّ قولي. وذلك كما يرى الطاهر وطّار؛ لأنّ الكاتب لا يستطيع أن يكتب عن إيديولوجية ما، دون أن يستعمل لغة ومنطق ومفردات منتسبيها، وهذا ما يفسّر تماشى لغة الرّواية مع طبيعة شخصياتها الدّينية. ومن جانب آخر نجد السّارد "أميدي" في سرده للأحداث كأنّه يقدّم كلمة تأبينية في حقّ إخوانه الرّهبان المغتالين، فهو المعايش لهم في الدّير والشاهد على المحنة والناجي منها، وبالتالي هو الأقدر على الحديث عن مأساتهم، والأصدق في تقديم اخوانه الرّهبان المغتالين للقارئ من وجهة دينية مسيحية. ولذلك نلمس في الرّواية هالة نورانية تصاحب تصوير شخصيات الرهبان بحيث لا نجد أي خدش أو طعن في شخصياتهم، والاختيار الثاني في سرد الأحداث كان بالاعتماد على تقنية اليوميات التي خطّها الرهبان السبعة في دفاترهم اليومية(كريستيا، برينو، سيليستيان، كريستوف، لوقا، ميشيل، ﭖـول). إذ جاء الفصل الثاني من الرّواية متضمّنا للسّير الذاتية للرهبان السبعة التي تُسْرد عبر خطاباتهم، فالرّوائي يمنح لكلّ واحد منهم صوته من خلال تقنية اليوميات، للتعريف بأنفسهم وذكر المسالك المهمة في حيواتهم، والتعبير عن ذواتهم وما يختلج في نفوسهم من هواجس، خاصّة فيما يتعلّق بانتمائهم لجيش الاحتلال الفرنسي أثناء حرب التّحرير، ومواقفهم المتباينة منها والتي انتهت بالنّدم والتّوبة ومحاولة التكفير عن الذنب. ولأن اليوميات كفنّ مستقل خارج الرّواية ينتمي للأدب الاعترافي، فيمكنني القول أنّ الرّوائي يمنح للرّهبان المغتالين حق الاعتراف الأخير (La Confession dans la religion chrétienne) فجاءت اختياراته في سرد الأحداث دقيقة ومدروسة وتجمع لحمة الرّواية شكلا ومضمونا. 3) تيبحيرين الرواية التكريمية إنّ الملاحظة التي شدّت انتباهي في رّواية "تيبحيرين- محنة الرهبان السبعة"، هي عدم تركيزها بالطريقة المتوقعة على مأساة الرهبان، علما أنّ محنتهم دامت حوالي شهرين من الاختطاف ثمّ الاغتيال الوحشي والتنكيل بفصل رؤوسهم عن أجسامهم، والمفترض أنّ طول أمد الاختطاف مع المعطيات المتوفرة عن طبيعة الحرب الأهلية، وكذا المعرفة الكبيرة بطبيعة المنطقة وجغرافيتها ومناخها، كلّها أمور كانت ستسمح بالتصوير التخيلي لشكل المأساة التي عاشها الرّهبان طيلة فترة المحنة، وفي مقابل ذلك توجّه تركيز الرواية في مجمل السير الغيرية للرهبان، وعلى مدار الفصل الثاني، إلى انتماء ستة منهم لجيش الاحتلال الفرنسي أثناء حرب التحرير الجزائرية، فتطرّقت الرّواية إلى موضوعة حرب التحرير أكثر من تطرّقها لمعاناة الرهبان سواء خلال سنوات الأزمة أو أثناء أحداث محنتهم، ومع تناول ��لرواية لحرب التحرير لم نجد أي نوع من أنواع الإدانة للرهبان، أو الحكم عليهم بسبب قتالهم ضدّ الشعب الجزائري، أو وجود أي أثر لخطاب كراهية تجاههم، أو حتى التشكيك في أمر رهبنتهم من أجل العودة إلى الجزائر لأغراض مضمرة والتحقيق في ذلك روائيا، وهو أمر أعيده إلى ثلاثة أسباب: - أوّلا: إلى اختيار سارد متعاطف معهم (أميدي) بحكم الأخوة الدّينية والانتماء الوطني فساد في الرّواية الحياد في موضوع حرب التحرير بدلا من مشاعر التّعصّب لها، فنجد السارد "أميدي" يرجع خدمة ستة منهم في جيش الاحتلال الفرنسي إلى الصدفة والقدر (ينظر الرواية ص 195) كما يقول مبرّرا عدم ادانتهم بشيء : "... ليس من حقّي كإنسان، ولا هو من أخلاق راهب مثلي، أن أزعم إصدار أي حكم، أيّا كانت طبيعته، على حياة الإخوان السبعة إلاّ ما تركوه أثرا وجدت نفسي ملزما بأن أذيع بعضه على العموم؛ لا سيما منه هذا الذي له صلة بالديانة المسيحية في دار الإسلام وبالحوار المباشر ضمن الصداقات أو عن بعد بالكتابات أو عبر جسر، ولو كان من دم وألم، يُمَدّ للقاءات من أجل السلام؛ لما له علاقة بهذه الأرض وباحتلالها وبإنسانها وبالحرب فيها؛ باعتبارهم هم السّبعة وقد صاروا اليوم طوباويين، الذين كانوا سيضيفون إلى سجلّ تاريخ هذا البلد صفحة أخرى مكتوبة بدمهم شهادة على تحوّلهم في الألم وبالألم" ( الرواية ص 195-196) وهو خطاب يدعو إلى مدّ جسور السلام بين الدّيانات، وجمع أواصر الأخوة في الإنسانية رغم الاختلاف، كما مدّتها أيدي الرّهبان طيلة تواجدهم في الجزائر إلى أن انتهت تجربتهم بمصير مماثل لمصائر اخوانهم المسلمين في الجزائر، فكأنّ محنتهم بحد ذاتها رسالة للإنسان في السلام ضدّ الحرب، وفي الأخوة ضدّ التعصّب، وفي المحبة ضدّ الكراهية. وثانيا: إلى كونهم يعترفون عبر يومياتهم بخطاياهم ومدى ندمهم على ما ارتكبوه من جرائم خلال خدمتهم العسكرية في الجزائر، فصوّرتهم الرواية نادمين على أخطاء الماضي، متأملين، مسالمين، متسامحين، مندمجين مع المسلمين، متعاطفين مع الشعب الجزائري في محنته الأخيرة، ومتمسّكين بحق البقاء في الجزائر خدمة للرّب وللإنسان حسب إيمانهم ومعتقدهم الدّيني. وثالثا: والأهم في نظري؛ أنّ الرواية كلها جاءت لتكرّم ذكرى الرهبان السبعة، والتكريم إنّما يكون بذكر المثالب والتغاضي عن المساوئ، ولذلك أضفت الرّواية على شخصياتهم نوعا من القداسة والهالة النورانية باعتبارهم أرواح شهداء شأنهم في ذلك شأن شهداء المحنة الجزائرية، لأن المأساة التي عاشوها كفيلة بالتكفير عن أي حرب ساهموا فيها مدفوعين إليها باسم الواجب الوطني. ولذلك كلّه كانت الرّواية تكريمية (Un Roman hommage) أكثر من كونها رواية المحنة أو العشرية السوداء التي تسلّط السّرد على وحشية التّعصّب الدّيني، وتمعن في تصوير الجرائم البشعة للجماعات المسلّحة، وتصوير مآسي المثقفين ومعاناة الشعب الجزائري، كما أنّها ليست رواية صّراع (الأنا والآخر) أو (الشمال والجنوب) أو (الأوروبي والعربي) أو (المسيحي والمسلم) ، وإنّما هي رواية منفتحة على السّلام الذي تدعو إليه كافة الدّيانات السماوية، فمن خلال استدعاء حادثة تاريخية تتعلّق بالصّراع الديني في الجزائر، تعبّر الرّواية عن شجبها لأي نوع من أنواع الصراع، خاصة ذلك الذي ينشب باسم الأديان فيحمّلها ما ليس منها.
في الرواية يمكننا التعرف على الرهبان السبعة الذين اغتالهم أيادي الغدر في جزائر التسعينيات، كل واحد في مساحة مقبولة مع تداخل سير بعضهم بعضا في بعض الأحيان . في اسلوب روائي جميل