يتألَّف هذا الكتابُ من ثلاث دراسات متواشجة، يتغيَّا فيها المستشرقُ الأمريكي أيرا م. لابيدس تحقيق علاقة الدِّين بالدولة في الممارسة التاريخية عند المسلمين، وإزالة ما اعتراها من غموض والتباس مردُّهما إلى الغفلة عن أن الإسلام عَرَفَ منذ قرونه الأولى نموذجين متباينين للحُكْم: كان أحدُهما يتألَّف من دولة ومجتمع متكاملين موحَّدين تحت قيادة سياسية وأخلاقية يتمتع بها النبيُّ ثم خلفاؤه الراشدون، في حين كان النموذجُ الآخرُ عبارة عن مجتمع مُقَسَّم بين الدولة ونُخَبها السياسية من جهة، والمؤسسة الدينية ونُخَبها المدنية من جهة أخرى. وبعبارة أخرى يروم هذا الكتابُ الإجابة عن سؤال مركزي، ألا وهو: كيف كانت العلاقةُ بين الدين والدولة في الأزمنة الإسلامية الكلاسيكية، على وجه الخصوص، وما الذي يمثِّلُه ميراثُ الإسلام المبكر للمجتمعات الإسلامية فيما تلا ذلك من عصور؟
الورقة الأولى بعنوان: "العصر الذهبي: المفاهيم والسياسة في الإسلام"
يركز هذا البحث على تطور العلاقة بين الدين والدولة في المجتمع الإسلامي، بدءاً من دولة المدينة تحت حكم الرسول عليه الصلاة والسلام، مروراً بالخلفاء الراشدين، وصولاً إلى الدولة العباسية.
تميز النموذج النبوي ودولة الخلفاء باندماج السياسة والدين. فكان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يجمع بين دور القاضي والحاكم السياسي في شؤون الدنيا، إلى جانب تلقيه التشريعات من الله عز وجل وتبليغها للأمة. وبصفته الممثل الأوحد للسلطة الدينية، نشأ تشابك قوي بين السلطتين السياسية والدينية. واستمر هذا النمط في عهد الخلفاء الراشدين، حيث مثلوا المرجعية الدينية بعد وفاة الرسول، وبلغ ذروته في عهد عمر الذي كان له دور بارز في التشريعات والقوانين المنظمة للدولة.
أما في فترة بني أمية، فرغم احتفاظ الخلفاء بلقب أمير المؤمنين، إلا أنهم مالوا إلى الحكم السياسي المنفصل عن السلطة الدينية. ومع توسع أراضي دولة الإسلام وانضمام جماعات متنوعة ثقافياً وبنيوياً، ظهرت الحاجة لتعيين القضاة وتأسيس المنظمات الفقهية، وكان تعيينها يتم من قبل السلطة السياسية.
وفي العصر العباسي، برز علماء الدين الذين فرضوا سلطتهم على رجال القضاء والشريعة، ولعبوا دوراً مهماً في الحياة السياسية للدولة. ومع تزايد الحاجة إلى الهياكل الدينية المستقلة، أسس العباسيون نظام المحاكم الشرعية في محاولة لبسط السيطرة على المؤسسة الدينية.
ومع تطور الدولة الإسلامية وصولاً إلى العصر الحديث، ظلت الشريعة الإسلامية في صلب هذه الدول، حتى وإن كان ذلك شكلياً، إذ مثلت الأساس الذي تستند إليه أغلب القوانين في هذه الدول.
الورقة الثانية بعنوان: الدين والدولة في المجتمعات الإسلامية
بدأت الدراسة بتحليل العلاقة بين الدين والدولة في عصر ما قبل الإسلام، حيث وجد نظام الكهنوت لرجال الدين. ومع ظهور الإمبراطوريات التي سعت لبسط سيطرتها على "مجتمعات المعبد"، شكل ذلك منعطفاً مهماً في العلاقة بين السياسة والدين. فتحولت المعابد إلى مجرد أماكن للعبادة، وانفصلت عنها السلطة الدينية. ويتجلى ذلك في نموذج ملوك بلاد الرافدين الذين قدموا أنفسهم كنواب للآلهة. وهكذا عانت المجتمعات القديمة من علاقة ملتبسة بين الدين والسياسة، فلم يكن هناك فصل تام بينهما، إذ استأثر الأباطرة ببعض الوظائف الدينية باعتبارهم ممثلين عن الإله وحلقة وصل بينه وبين المجتمع.
ومع اعتناق الأباطرة الوثنيين للمسيحية، تولوا رئاسة النظام الكنسي، فعينوا الأساقفة، وعقدوا المؤتمرات الكنسية، ولاحقوا الهراطقة.
وفي الدولة الإسلامية، ورث الحكام السلطة التنفيذية، وأصبح لهم الحق في إعلان "الحق" والدفاع عنه دينياً. وادعوا كونهم خلفاء لله، وتولوا حماية العبادات وتنظيم الأوقاف وممارسة سلطة التشريع. وركزت الورقة على تطور العلاقة بين السلطات التنفيذية والمؤسسات الدينية وصولاً للوضع الراهن في الدول الحديثة.
الورقة الثالثة بعنوان : الفصل بين الدين و الدولة فى تطور المجتمع الإسلامي المبكر
ركز البحث على التاريخ الديني والاجتماعي للعصرين الأموي والعباسي، وتوضيح تطور الفصل بين الدين والدولة خلالهما. وهو يعيد طرح التسلسل التاريخي بدءاً من دولة النبوة والخلفاء وصولاً إلى زمن الأمويين، الذين سعوا إلى تقليص دور الفقهاء والعلماء في السلطة. أدى هذا إلى ظهور هؤلاء كمؤسسات مستقلة عن السلطة التنفيذية، مما أسقط فكرة اعتبار الخليفة المرجعية الدينية في ذلك العصر. ويمتد البحث إلى الدولة العباسية وأزمتها الأشهر "أزمة المأمون والصراع على الحكم ومحنة خلق القرآن".
فبعد وفاة هارون الرشيد، نشب صراع على الحكم بين الأمين والمأمون انتهى بفوز المأمون. ومع وجود معارضة من النخب السياسية في بغداد له، اعتمد على القوات الفارسية، مما أدى إلى إضعاف نفوذ العرب في الدولة. ومن نتائج هذا الصراع إضعاف مؤسسة الحكم، ومنح العلماء مساحة أكبر للاستقلال عن السلطة الحاكمة. وقد حاول المأمون فرض عقيدة المعتزلة في القول بخلق القرآن، وبدأ باضطهاد المخالفين من الفقهاء، كالإمام أحمد بن حنبل. مثّل ذلك صداماً مباشراً بين السلطة السياسية والعلماء، وانتهى هذا الصدام بعد تولي المتوكل وانتهاء هذه المحنة، وإعادة الاستقلال النسبي للمؤسسة الدينية.
وكان لأزمة خلق القرآن تأثير كبير على العلاقة بين الدين والدولة، فقد أضعف الصراع على السلطة من دور الدولة، وأظهرت محنة خلق القرآن موقف العلماء كمجموعة منفصلة عن الدولة يتبعها الناس كمصدر للفقه ومسائل الدين، مما أدى لتراجع دور الخليفة عن قدرته على فرض الآراء الدينية مع تعاظم دور العلماء كحراس للعقيدة.
وقد تحولت الدولة للتركيز على السياسة والعسكر، وتولى العلماء مسؤولية الشريعة والتعليم والقضاء، ولم تعد الدولة تحتكر الدين بل أصبحت المرجعية للعلماء.
يا له من كتاب! كتاب شديد الأهمية والنفع، والإمتاع كذلك. يتناول بتفصيل غير ممل وغير مُخل الخطوات التي أدت إلى انفصال الدين عن الدولة - أو الحراك الديني عن السياسي ما بعد عهد الخلفاء الراشدين وأسباب ذلك ومآلاته.. وتطور هذا الانفصال من الدولة الأموية إلى العباسية والأحداث المُثيرة والمُميزة التي رسخت ذلك في عهد الخليفة المأمون. ويُبين أن الإسلام منذ قرونه الأولى عرف نموذجين مختلفين للحكم: الأول يتألَّف من دولة ومجتمع متكاملين موحَّدين تحت قيادة سياسية وأخلاقية يتمتع بها النبي ﷺ ثم خلفاؤه الراشدون، والثاني يتكون من مجتمع مُقسَّم بين الدولة ونُخَبها السياسية من جهة، والمؤسسة الدينية ونُخَبها المدنية من جهة أخرى. ويتناول بعد ذلك تطور هذا النموذج الثاني واختلاف شكله مع اختلاف نُظم الحكم السياسي واختلاف المجتمعات الإسلامية وانتقال الخلافة من دولة إلى أخرى.. ويتكون الكتاب من ثلاث دراسات: الدراسة الأولى: معنونة بـ "العصر الذهبي: المفاهيم السياسية للإسلام"
الدراسة الثانية: معنونة ب "الدين والدولة في المجتمعات الإسلامية"
الدراسة الثالثة: معنونة ب "لفصل بين الدين والدولة في تطور المجتمع الإسلامي المبكر"
وجدير بالذكر، بل الأجدر به، أن مقدمة دكتور أحمد محمود عظيمة للغاية، وشديدة التركيز والإفادة، هي وتعليقاته، وأن ترجمته للكتاب شديدة الدقة والوضوح.
"مشكلة العلمانية أنها دواء استقدمه بعض المسلمين لمرض ليس لديهم بالأساس" هكذا كانت دائمًا ما تعبر أستاذتي د. أميمة عبود بارك الله لها في علمها وجزاها عنا خير الجزاء يعرض هذا الكتاب لهذه العبارة بقدر عال من التفصيل فهو يوضح طبيعة العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام وللمفارقة أن تصادف قراءتي لهذا الكتاب مع حضوري لتدريب في مؤسسة طابة كان من ضمنه ثلاث محاضرات عن نفس الموضوع وأخص منها محاضرة الإسلام وفلسفة الحكم والتي كانت خير معين لي على فهم موضوعات الكتاب المختلفة. على الرغم من كون الكتاب مجمع لثلاث دراسات للمستشرق الأمريكي أيرا م. لابيدس إلا أنها دراسات متشابكة توضح الموضوع توضحيًا جليًا ولا يغلب عليها التكرار وكذلك مقدمة دكتور أحمد محمود التي فكت الاشتباك في البداية بين عدد لا بأس به من المفاهيم . يقدم الكتاب أطروحة رئيسية وهي أن الإسلام منذ قرونه الأولى عرف نموذجين مختلفين للحكم: الأول يتألَّف من دولة ومجتمع متكاملين موحَّدين تحت قيادة سياسية وأخلاقية يتمتع بها النبي ﷺ ثم خلفاؤه الراشدون، والثاني يتكون من مجتمع مُقسَّم بين الدولة ونُخَبها السياسية من جهة، والمؤسسة الدينية ونُخَبها المدنية من جهة أخرى. ويتناول بعد ذلك تطور هذا النموذج الثاني واختلاف شكله مع اختلاف نُظم الحكم السياسي واختلاف المجتمعات الإسلامية وانتقال الخلافة من دولة إلى أخرى. وبقراءة الكتاب يتضح عدم وجود إشكالية الدين والدولة بمفهومها الغربي في السياق الإسلامي وأن العلاقة بينهم كان لها أشكال متعددة يتحقق من خلالها مقاصد الشريعة في كثير من الأحيان دون تدخل الدولة في الشأن الخاص للمواطنين. وأعتقد أن أهم ما استفدته من الكتاب هو عقم النقاش العلماني - الإسلامي الذي دار حول هل هناك علاقة بين الدين والدولة في الإسلام أم لا وذلك لأن هذا الأمر من الواضحات في التاريخ الإسلامي والشريعة الإسلامية، ويعبر عن ذلك بشدة مقولة رضوان السيد التي نقلها المترجم في المقدمة “إن مسألة كون الإسلام يتضمن دينًآ وسياسة مُسَلمَةٌ لا يمكن تخطيها، بل إن ذلك هو شأن سائر الأديان بما فيها المسيحية واليهودية، ولكن هل الدين والدنيا أو الدعوة والدولة تجمعهما مؤسسة واحدة أم مؤسستان؟ هنا منطلق النقاش، بل محط رحاله” وعلى الرغم من سعة المناقشة التي قدمها الكاتب لهذه القضية وكذلك العديد من الكتب الأخرى إلا أنني أعتقد أن العلاقة بين مؤسسات الدين ومؤسسات الدولة في الإسلام ما زالت بحاجة لبحث بشكل أكبر ومناقشة وأننا ما زلنا -وعلى الرغم من إطلاق تلك الدعوة منذ أمد بعيد- بحاجة إلى بناء نظرية سياسية إسلامية معاصرة.