إلى الشرق خذني.. إلى الأزلي الذي منه يولد كل أزل ومن كل ما في كتاب الحضارة.. أرجوك خذني إلى المستهل.. إلى لغة برقها ببروق الملائكة القدماء.. أتصل.. إلى الوحي.. حين تنهد فرق خفيف السماء المجاز.. الجلل.. إلى الفن.. يوم مشت في رماد الحقيقة عاطفة.. فاشتعل
شاعر سوداني ولد في الرياض وتلقى فيها دراسته حتى الثانوية ثم أكمل دراسته الجامعية في الجامعة الأردنية . استشرافية شفافة . تناقلته الصالونات الشعرية والمنتديات الأدبية في شتى العواصم العربية. فاز ديوانه الأول ( مرثية النار الاولى ) بجائزة الشارقة للشعر، وفاز ديوانه بجائزة السنوسي الشعرية لعام 2016 عن ديواني الثاني (كأنك لم..) دواوينه : - (مرثية النار الأولى ) الفائز بجائزة الشارقة في الشعر عام 2013 - ( كأنك لم ) صدر بتاريخ 20 فبراير، 2014 وفاز ديوانه بجائزة السنوسي الشعرية لعام 2016
فاق كل توقعاتي✨ الحضارةُ كالشمسِ: تشرقُ في الشرقِ تغربُ في الغرب. -ما الفرق بينهما، أقصدُ الشرق والغرب؟ -يا سيدي الغربُ ليس سوى و جهةٍ ، بينما الشرقُ معنى.
يبدأ الديوان بالوحدة، ويكثر منها "وحدي هنا"، "في هذا الزحام الملحمي أنا هنا وحدي"، "وحدي وتنهش ليلة ذئبية مني عيوني والرياح عواء"، "وأنا هنا وحدي تضيف لصمتها من صمتها أجراسي الخرساء"، فيستنجد الشاعر بالمدينة لتحرره من هذه الغربات "وأسكنيني منك في بيت من الصحو الجميل يشع في الأعلى لكي يتحرر المنفى المفاجئ من توجسه ويخفت في الضباب ضباب" "أنا ضيفك المخلوق من ظمأ إلى كل الينابيع التي تنساب" وهو إذ يسرد عليها هزائمه يأمل أن تجعله يسيل مع فيض الوجوه، غير أن المدينة مازالت تعيده لذاته المتغربة، فهو يشم في الطريق "احتراق المسافة في عابر شاخ في معبر" -هل كان يقصد نفسه؟- ويرى في المشاة أسباب خوفه وهكذا تعيده كل تفصيلة إلى ذاته، ويكتشف أن غربته لا سبيل لكسرها، إذ أنها غربة زمانية "أنا لست من طينة العصر هذا لأني أود الذي لا يود" ويحتج وحيدا بطريقته الفريدة: "أنا الآن أشهد جوع الضحية وحدي وجلادها يتبجح للشكر عيد والعيد أن يأخذ الآن شكل الوليمة، هو التاج تاج الزمان الرديء أنا ألبس التاج وحدي وألمع ألمع لكنني لا أضيء،..، وحدي أخفف من قبة الكهرباء المضيئة حتى أعيد كتابة كل النجوم،.. أنا واقف عند بوابة العصر وحدي فوحدي أريد الخروج " هكذا يتأمل، وصولا إلى طفل يعيده لطفولته،ويوقظ فيه الحنين، ولا يخفي أساه على "عمره المراق سدى" في عدة مواضع، ويبدأ ليقص علينا حكايته منذ ان ذاق التراب الماء، في أروع مقطوعة تمشي بنا من جذور غربته إلى طموحاته المضاعة، وهو يحكي لنا كيف جرب كل السبل دون أن يهتدي "جربت مقترح الطيور حمامتي أودى بها من أفقها الإعياء، جربت مقترح الحديقة وردتي لم تعترف بوجودها الأشذاء"، "لم يبق إلا الموت حلا ممكنا للغز فليسرع إلى رثاء" هذا ليس يأسا ولكنه إنهاك القلب حين يغمره الرمل "دعي عنك قلبي قلبي من يوم ما اكتظ بالرمل لم يخفق" ، وذبول الوردة حين تنكرها الحديقة، لكن شاعرنا بقي له من الأمل التوسل، فقد عاد لينقلنا إلى جو بديع من الابتهالات كان قد ودعه فيما مضى "فمتى يضيء البرق في الأقصى " ويتخلى بصورة مفاجأة عن شيء من النزعة التشاؤمية عند حلول الربيع، فهو يخلق من موته ميلادا جديدا، ويذكرنا بدورة الفصول، وبجريان الشمس، وهو أخيرا يدرك أن غربته هي إنما إلى ذاته التي ربما تلّمحها في لحظة من لحظات الكشف ثم اختفت، وهو يحرر نفسه من الزمان والمكان، فصوته يسطع في كل غد. وفي كل ذلك كان يجمع بين العام والخاص، ويبشر بأن "الهزيمة توشك أن تنجلي عن بطل"، فهل عاد شاعرنا إلى نبوءاته، وهل عبرت به هذه الأغنية النهر مرتين إلى ذاته التي كان قد أنكرها؟
This entire review has been hidden because of spoilers.
لا تقرأ هذه القصيدة بمعزل عن سياقات الخسارات التي أعلنا عبدالباري في ديوانه السابق (لم يعد أزرقاً). هنا الشاعر يبحث عن ذاته، عن زرقة جديدة تناسب تفرده في عصره.
كتبت القصيدة في عام، وقسم الشاعر قصيدته في ٤ فصول و ١٢ جزء، وكأنها فصول السنة وأشهرها، بل هي حقًّا. ففي كل فصل تجد ملامح الطقس واضحة؛ الشتاء، والصيف، كما الخريف والربيع.
قصيدة تقرأ على مهل، وبعد الانتهاء منها لا بد من قراءة سلسلة تغريدات الناقد السعودي عدي الحربش عنها، فمحمد عبدالباري هو متنبي هذا العصر، وأعتقد أن عدي الحربش هو ابن جني المتنبي.
آخر القصيدة كان أجملها، وفيها إعلان واضح أن (التجربة الصوفية) التي فشلت في ديوانه (لم يعد أزرقا) عاد إليها ووجد أن الطريقة هي خلاصه من عالم نيويورك؛ حيث المدنية الوحشية والفردانية الرأسمالية.
التحرر من سلطة الشّكل الشّعري والكتابة كما لو أنّه نثرٌ منظوم هو أمر لا يُسْتَهان به، نحن أمام شاعر عبقري، مرن جدًا في التخلص من كل ورطة تودي به القصيدة إليها، وهو يبدأ بداية العازف في التقاسيم، حرّ، لكن ليس من ذاكرته.
أعتقد أنّ هذا العمل تجاوز جنسه الأدبي، وارتقى إلى مستوى الشعر العظيم الذي تحدّث عنه بودلير في مقدمته لأعمال إدغار آلان بو القصصية، وكأن محمد عبد الباري مرّة أخرى يصر بأن الشعر بجوهره ممكن في شكله العمودي كما هو ممكن في الأشكال الأخرى.
من يراجع محمد! (عتبي كان على المصطلحات النثرية السمجة التي تظهر فجأة، عرفت الشاعر فيلسوفًا لا يحتاج لهذي اللغة الفجة في التعبير عمّا قرأ، أذهبت كثيرًا من شاعريّة النّص)
هذه فلسفة وليس شِعرًا.. رحلتي مع شِعر عبد الباري طويلة وممتعة، وحسيت هنا باغترابه الشديد عن نفسه، يعني الشاعِر اللي كتب عن القاهرة والرياض وبغداد ودمشق وبيروت في ٢٠١٢، اختلف تمًامًا عن الشاعِر القانط في نيويورك ٢٠٢٠، يعني غربته مع نفسه في بلاده غير غربته مع نفسه في غير بلاده، وكأن الهوة بينه وبين العدمية اتسعت، عشان كدا الديوان الأخير دا فلسفة عدمية صِرف، ولو محفوظ نجح دايمًا في إنه يفلسف رواياته؛ فعبد الباري لا يفشل هو الآخر في فلسفة شِعره:)
ما أحب نيويورك ولا مره ارتبطت فيها نفسياً ولا معنوياً ولا ثقافياً بس نشوفها افلام وزحمة ومتاحف
لكن ان يكتب عنها عبدالباري حبيت نيويوركه اللي احتفت فيه وحسيت انها بهذلته😝
بس هو بهذلها أكثر بالشعر
قراءة شعر عبدالباري مرة واحدة مو كافية تمر عليها مرة ومرتين وثلاث مثل النهر ما تقدر تعبره مرتين ما يكون نفسه تلقى كل مرة معنى جميل معنى سقط منك معنى توك توصل له
المهم حاليا اكتب مراجعة واحتفي بهالمقطع
أنا في المدينة يكذب التاريخ حول بداية التاريخ يكذب في المحيط الأطلسي غياب ماء الأبيض المتوسط الآثار تكذب في المتاحف تكذب الأحماض في الكيمياء تكذب في المذاقاتِ التوابل البديل في المعاجم تكذب الكلمات وهي تخافُ من أنسابها الفصحى وتكذب في الكنائس قبةٌ قوطية الأقواس تكذب في مناقشة العلوم عباءة الأستاذ تكذب في النجوم طوالع قد أنكرت أسماءها العربية الأولى وتكذب في الصباح الشمس تكذب في الكتاب الأبجديات الأوربيات تكذب قصة المعراج في دانتي وتكذب في المسيح عيونه الزرقاء
"لي حكمتي أنّ المياه بعيدة أنّ القريب من المياه سرابُ لي في يدي وطن وأعرف أنّه وطن وبالمنفى البعيد مصابُ فهي البلاد هوى وهاوية معًا وهو الرّحيل عذوبة وعذاب"
صوفيا تمنحنا تجربة الصوفي في نيويورك الذي عَبَر النهر المرة الأولى وكتب أغنيته لنعبر النهر معه مرتين، وهو يعاند بشغب العبارة الشهيرة "إنك لا تنزل نفس النهر مرتين" المكان هنا هو البُعد الحاضر، قصائد كتبت في نيويورك وأخذت من روح المنفى، جسر بروكلين يوصله إليها، الأزرق والأحمر في الغلاف يشي بعلمها، يقسِّم ديوانه بتبدل فصولها، وهو فيها مشغول باستكشاف الأفق الجديد وناسه بكل مافيه وفيهم من تناقضات. "مملكة من غبار "هكذا يسميها، يطلب منها بصراحة "أن تزيح ستارة الصوفي عن جسده" و تحسن ضيافته، فتهبه قوة الحواس ليلاحظها، وتتقمَّص المدينة تارة صفة المحبوبة فيغرقها غزلا وتارة صفة المستبد ليجلدها ويذكرها بتاريخها في الجريمة وأثر دماء الشعوب في يديها. يذكرني بكتاب "المدينة الوحيدة" حين يقول "رغم الزحام أنا وحيد" ورغم ضجيجها تزدحم بالأشباح، يجلد اللاجئين إليها بوصفهم "متقدمون إلى الأمام ويرجعون" يلتقط من هذه المدينة كل شيء فلم تفته منها حتى حوار التاكسي الذي لا يشبه أي حوار، حوار التعرف على الهوية في البلد الجديد، وفي نهايتها يعود الصوفي الذي نعرف، لم يعترف بألوان الترف المزيف، ويصرخ "إلى الشرق خذني".
الفن يكمل بعضه، كذلك كانت اللوحات الفنية مكملة للقصائد لا شارحة لها، الديوان تجربة تقرأ من أولها لآخرها مرة واحد لنعبر النهر مرتين.
❞ وألفتُ من سفري إلى معنايَ أن .. تتطابقَ الخطواتُ والأخطاءُ ❝
❞ طالتْ تدابيرُ الذهابِ لنجمةٍ مجروحةٍ سكّانُها الشهداءُ وتصدّعتْ عني البيوتُ وقادني عبر العراءِ إلى العراءِ عراءُ سجنتْ وجوهي في الكهوفِ صواعقٌ وتبخّرتْ بي في الجبالِ ظباءُ وترعرعتْ بين الضلوعِ متاهةٌ مني وماتَ على الشفاهِ حُداءُ ومشتْ بي الصحراءُ حتى لم يعد مشيٌ وحتى لم تعد صحراءُ ❝
من هنا انطلقت رحلتي لقراءة كافة أعمال محمد عبدالباري وإليها أعود، قرأت هذه القصيدة بارتعاشات من شدة النشوة المُباحة. سنةٌ كاملة، أربع فصول. عشت فيها حياةً كاملةً، بلذَّتها، وحدتها، ارتحالاتها، وغربتها. الشِعر، يوقظ فيّ كل شعور، الحُب، الموت، الرغبة والرحيل. هنا شاعر كامل التكوين من بدايته إلى نهايته حتى وهو باق على قيد الحياة. ويتجلّى بخبرته الشعرية في دواوينه السابقة؛ ولأنه أحدث أعماله وقرأته في حينها وجب عليّ أن أقول إن تطوّره من ديوانه الأول إلى هنا بلَغ الكمال.
حتى عبدالباري لم يجعلني أجد نفسي في نيويورك وترتبط إنسانيتي بشيء فيها ولا حتى عبر شاشة الشعر الجميل. رائع عبدالباري ومتفرد لا خلاف، يتنافس مع نفسه وقد رفع على نفسه السقف عالياً في دواوين سابقه حتى بات لقارئيه توقعات تقارب النجوم، وما زلنا نتنظر منه القمر.
"أنا ضيفكِ المخلوق من ظماٍ إلى كل الينابيع التي تناسب"