حصريا من كتب العالم ، شاهد متجرنا لمزيد من الكتب العربية وأحدث الإصدارات في مختلف المجالات ، تصفح الصور لمعرفة المزيد عن الكتاب ، نوفر الكتب الأصلية للحفاظ على حق المؤلف والناشر والقارئ ، هدايا مجانية مع كل كتاب ، ابحث عن كتابتك باللغة العربية ، الرابط المباشر للمتجر
خلف رواية رقص الإبل تجربة نفسية وحياتية شكّلت وجدان كاتبها. ربما يمكننا أن نبدأ هذه القصة افتراضيًا من عام 1967 حينما تعرضت مصر لهزيمة غير مسبوقة. لم يقتصر الأمر على الهزيمة العسكرية المذلة، بل امتد إلى حالة إيقاظ مؤلمة من سبات التجربة الناصرية. اكتشف من عايشوا الحلم الحلم الناصري أنهم مروا بكابوس لا بحلم، وبدأ المبدعون يتساءلون عن حقيقة ما حدث وأسبابه ونتائجه. شغلت هذه الأسئلة مبدعنا الكبير فتحي امبابي، وتوجه حينها إلى التاريخ، لا لمحاولة الابتعاد عن القضايا المباشرة، بل لإدراكه أن قضايا تشكيل الهوية والشخصية المصرية تلعب دورًا هامًا في محاولة فهم حقيقة ما حدث. كتب مبدعنا رواية نهر السماء وقد توصل أثناء بحثه في فترة حكم المماليك التي دارت فيها أحداث الرواية إلى استنتاجات مهمة؛ منها أن من حكم مصر لمئات الأعوام كانوا عبيدًا، حيث أن المماليك أتوا من أسواق النخاسة، ثم امتلكوا سلطات مطلقة. من الطبيعي إذن أن يفقدوا توازنهم. الأمر المهم هو: ما تأثير حكم العبيد لمئات الأعوام على الفلاح المصري؟ توصل فتحي امبابي أيضًا إلى طبيعة العلاقة التي ربطت السلطة الدينية الكبرى في هذا الوقت (الأزهر) بالسلطة السياسية، وكيف لعب الأزهر دورًا كبيرًا في حث الناس على قبول الاستبداد. أدرك أيضًا أن كل حركات العصيان التي اندلعت في هذه العصور لم تكن أكثر من تمرد، لكنها لم تعبر عن ثورات واعية، فكل الظروف الموضوعية التي أحاطت بالفلاح المصري لم تسمح له بتكوين وعي عميق عن قضايا الحرية والإنسانية. بدأت نهر السماء برصد الفلاح والنهر في العصر المملوكي، ثم استغرقت الأعوام كاتبنا في الكتابة عن الشخصية المصرية في ظروف أخرى ومختلفة، فكتب أعمالا رائعة عديدة مثل مراعي القتل والعلم وغيرها.... تمر السنون وترسل الأقدار كتيبًا صغيرًا إلى كاتبنا تحت عنوان "المديرية الاستوائية". يقرأه فيكتشف منه الأعماق التي وصل إليها الجيش المصري في السودان وحروبه هناك مع قبائل لا نعرف عنها شيئًا وقطاعًا من التاريخ مهمل. بحكم كتابته عن الجيش المصري سابقًا في مراعي القتل، قرر أن يقرأ المزيد من المراجع عن هذه الفترة التاريخية. هنا تبدأ فكرة مشروعه الضخم "خماسية النهر" في التشكل. قرر أن يكمل قصة النهر التي بدأها في "نهر السماء" ولكن هذه المرة بالذهاب إلى الجنوب؛ إلى أقاصي السودان. في عتبات الجنة يتناول الكاتب هزيمة جيش عرابي وتخلي الأخير عن جيشه بعد الهزيمة وتسليم سيفه إلى الملكة وقرار الخديوي بحل الجيش. بعد ذلك تندلع الثورة المهدية في السودان فيقرر الخديوي جمع هذا الجيش الذي حلَّه مجددًا وإرساله إلى السودان. تتتبع الرواية رحلة الضباط في غياهب مجتمع بدائي غريب حيث تقوم الغابات على ضفاف الأنهار وتعيش القبائل البدائية والبدوية. حتى هذه اللحظة لم يكن كاتبنا قد ذهب إلى السودان بعد، وهي معلومة قد تبدو مذهلة لمن يقرأ هذه الرواية لأنها تمتلئ بتفاصيل جغرافية ومكانية وطبيعية دقيقة وكثيفة. إنها من نوعية الروايات التي تُقرأ بالحواس الخمس. في رقص الإبل يواصل كاتبنا رحلته ليتناول لحظات تأسيس الحركة المهدية وصراع الهويات. هذه المرة يزور كاتبنا السودان فعلا ويعايش المكان هناك معايشة إبداعية قبل انخراطه في الكتابة. تطرح هذه الرواية أسئلة كثيرة على مستوى الشكل والمضمون على السواء. تبدو الرواية من حيث الشكل أشبه بملحمة الحرب والسلام الروسية، ولكن بطريقة أصيلة تخص كاتبها. تتضمن الرواية مثلا الخرائط والحواشي التفسيرية التي نجدها عادة في كتب التاريخ. كما تتضمن بدايات الفصول بعض المقاطع السردية المستقلة عن نسيج الرواية يتحدث فيها الكاتب عما دعاه "الهويات المضمرة" وبعض الأفكار الأخرى. لا يفعل فتحي امبابي هذه التجديدات الشكلية بنوع من التجريب، فقد تخطى هذه المراحل التجريبية منذ زمن طويل، وهو الآن يصنع شكله الخاص الأصيل الذي تكوَّن عبر عقود طويلة وأعمال روائية كثيرة. في ظني أن هذا الخروج عن الإطار السردي المباشر للقصة نجح بنسبة كبيرة، وبالرغم من استناده إلى تقنية الراوي العليم، لكنه يروي الحكايات من منظور أصحابها. إنها رواية أصوات بالمفهوم الأصيل للكلمة الذي شرحه باختين في أعماله. بالرغم من ذلك لا يمكن إغفال بعض المقاطع البسيطة التي بدا فيها تدخل الراوي العليم مقحمًا بعض الشيء حينما يطلق أحكامًا قيمية مثلا على شخصيات خارج متن الرواية مثل "محمد علي". حتى المقاطع السردية المنفصلة عن النسيج الروائي ربما تبدو مقبولة، أو على الأقل يمكن أن تختلف الآراء في طبيعة ما تقدمه، ولكن يقتصر الأمر على تدخلات طفيفة في نسيج السرد حملت وجهة نظر الراوي الحقيقي، لا الراوي العليم كما ذكرت عن محمد علي مثلا. وصف البعض فتحي امبابي بمهندس الرواية المصرية، وهو وصف أجده دقيقًا. في رقص الإبل – مثل بقية رواياته – نجد بنية هندسية للعمل مبهرة. ينطلق كاتبنا من منظور مادي للعالم، حيث تنطلق تصرفات الأبطال من البنية الاقتصادية والمادية، وتؤثر هذه البنية على نسيج الحياة الاجتماعية تأثيرًا حتميًا، وتتغلغل في كل شيء. لا نجد في شخوص امبابي من يرتكب عملا مفارقًا مثلا لنشأته أو يتوصل إلى أفكار خارج نسيج تشكيله الاجتماعي، بل يلتزم الراوي بواقعية صارمة، لكنها شديد العمق والصدق. حتى في تناوله لقصص الحب نجد هذا الالتزام الصارم والعميق بالأسس المادية والاقتصادية. نجد هذا واضحًا مثلا في سلوك ست النفر وعلاقتها بزوجها الذي هجرها وفارقها من أجل معشوقته التي حرمته منها الأعراف القبلية. تتفق سلوكياتها مع تكوينها القبلي وتشكيلها الثقافي، وربما اتسم الكاتب بالذكاء الشديد حينما اقترن غفرانها لزوجها على جلبه معشوقته معه إلى القبيلة ببداية علاقتها بالشيخ المصري المصاب في المعركة. تمتلئ الرواية بمشاهد ساحرة ومبهرة، وفي الجزء الأخير منها الذي ربما يصل إلى أربعين صفحة من القطع الكبير تصل جودة التصوير والتناول الفني إلى حد براعة لا تُصدق. في هذا الجزء يُصوِّر فتحي امبابي معركة كردفان وصولا إلى مذبحة غابة شيكان التي أبادت فيها قوات المهدي الجيش المصري تصويرًا مذهلا. يمكننا في هذه الصفحات أن نرى تحركات القوات وتفاصيل تطورالمعركة بشكل بصري رائع، كما يتناول مبدعنا التصوير النفسي لشخوص المعركة بالتوازي مع التصوير المادي لتحركات الجيوش وتكتيكات الحرب، ويرصد لحظات الموت ومجريات الحرب من أعين بعض أبطال المشهد الحربي. يخلق فتحي امبابي في هذه الصفحات إنجازًا روائيًا مرموقًا لا يقل عن تصوير معارك شبيهة في الروايات والملاحم العالمية الكبرى كالحرب والسلام مثلا. خاض فتحي امبابي في "رقص الإبل" مغامرات فنية غريبة وشجاعة كانقطاع حكاية البطلين الرئيسيين "التلب – مسك الجنة" على مدار أكثر من مائة صفحة! في هذه الصفحات دار الحديث كله عن تفاصيل الحملة المصرية ووصولها إلى السودان وحكايات بعض من أشخاصها، واندماج الضباط المصريين مع أهالي القبائل وتزوجهم من بنات القبائل السودانية. يُحسب للراوي أيضًا جدية تصويره لشخصية المهدي، وتناول ملامح العظمة فيه واختلاطها بملامح الانتهازية. يتكاسل الكثيرون في تصوير هذه الشخصيات بوصفها مجرد شخصيات انتهازية، ولكنهم يغفلون عن حقيقة تصديق بعضهم لرسالته فعلا. بدت رسالة المهدي رد فعل حتمي في ظل الظروف التي عايشتها السودان في هذه الفترة. هذه رواية مهمة وملهمة في مشروع عملاق "خماسية النهر" صدرت منه حتى الآن ثلاث روايات: نهر السماء – عتبات الجنة – رقص الإبل، وانتهى كاتبنا من الجزء الرابع تحت الطبع: "عشق"، ويعمل الآن على الجزء الأخير بعنوان: "منازل الروح". في رأيي قد تكون هذه الخماسية أحد أهم المشروعات الروائية والفكرية في تاريخ الأدب المصري. قال كاتبنا ذات مرة أن علماء الاجتماع والتاريخ هم من توجب عليهم الكتابة عن مثل هذه القضايا المتعلقة بالهوية وغيرها، ولكن نظرًا لفقر هذه المادة العلمية وجد نفسه مرغمًا على تناولها روائيًا، كما انجر إلى ابتكار الشكل الذي يلائم مثل هذه النوعية من الكتابة. تحية إلى مبدعنا الكبير فتحي امبابي وإلى مشروعه الملهم.