دخل لبنان، في العام 1975، نفق الحرب التي دامت خمسة عشر عاماً، وتصدرت أخبارها باستمرار واجهة الأحداث ما خلا بعض فترات الهدوء. وفي تلك الأثناء، كانت محاولات تفسير أسبابها كثيرة، وكتبت مقالات لا تحصى عنها، فبدت عصية على الإدراك أحياناً، وصدرت عشرات الكتب للإضاءة على هذا الجانب أو ذاك من حرب شارك فيا أطراف عدة، واستعان الباحثون بكافة فروع العلوم الإنسانية لفهم محفزاتها، والمثير للدهشة، أن التاريخ كان الغائب الأكبر عن تلك الكؤلفات، لذلك يسعى هذا المصنف إلى ردم هذه الفجوة بالذات، وهو يطمح إلى أن يكون تاريخاً شاملاً للمرحلة الأولى من مراحل الحرب في لبنان.
يتميز هذا الكتاب الذي لا يكتفي بتدوين الوقائع أو الجدال، بغزارة المراجع المتوافرة في سياق تاريخي متمحور حول الحدث ومضامينه، ويعيد بأسلوب منهجي تشكيل الوقائع، ورفد كل مشهد بمختلف مستويات القراءة التاريخية المستمدة في دينامية المجتمع اللبناني نفسه والبيئة الإقليمية على حد سواء.
كيف دخل لبنان الحرب؟ من هم أبرز رموزها؟ كيف استولد العنف نفسه على رغم المحاولات المتكررة لفرض وقف لإطلاق النار؟ ما سبب استمرار المعارك؟ هل كانت الحرب حرباً أهلية أم حرباً خارجية على أرض لبنانية؟ ما دور الأطراف الإقليميين الفلسطينيين والسوريين والإسرائيليين؟ وما دور اللبنانيين أنفسهم؟ كيف عاش المجتمع اللبناني المحنة؟ وكيف تأقلم معها؟ يقدم سمير قصير أجوبة مفصلة عن هذه الأسئلة في سياق مميز ينأى عن التعميم والغموض.
سمير قصير (1960 - 2 يونيو 2005). صحفي وأستاذ لبناني من أصل فلسطيني وأمه سورية. كان أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف في بيروت ودرس في جامعة السوربون في باريس. وهو من الداعاة للديمقراطية ومعارضي التدخل السوري في لبنان، ويحمل الجنسية الفرنسية. شارك عام 2004 في تأسيس حركة اليسار الديمقراطي وكان من أبرز مجوهها إلى الياس عطاالله ونديم عبد الصمد. ساهم في صنع وقيادة انتفاضة الاستقلال قبل أن يدفع حياته ثمنا لمواقفه. في 2 يونيو 2005 تم اغتياله عن طريق قنبلة في سيارته، وما زالت هوية الفاعلين مجهولة. هناك تخمينات حول تورط جهات أمنية سورية ولبنانية في عملية الاغتيال، إلا أن أيا من هذه التخمينات لم يتم تأكيده أو نفيه.
وهو متزوج من الإعلامية اللبنانية جيزيل خوري المذيعة في قناة العربية، وله ابنتان من زواج آخر.
صدر عن دار النهار للنشر كتاب «حرب لبنان» للكاتب اللبناني سمير قصير (ترجمة سليم عنتوري)، يتضمن تاريخ المرحلة الأولى من الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1982. في العام 1975 دخل لبنان نفق الحرب التي دامت خمسة عشر عاماً وتصدرت أخبارها واجهة الأحداث ما خلا بعض فترات الهدوء. في تلك الأثناء كانت محاولات تفسير أسبابها كثيرة وكُتبت مقالات لا تُحصى عنها فبدت عصية على الإدراك أحياناً. كذلك صدرت عشرات الكتب للإضاءة على هذا الجانب أو ذاك من حرب شارك فيها أطراف كثيرون واستعان الباحثون بفروع العلوم الإنسانية لفهم محفزاتها. لكن الغريب أن التاريخ كان الغائب الأكبر عن تلك المؤلفات، لذلك يسعى هذا الكتاب إلى ردم تلك الفجوة بالذات، وهو يطمح إلى أن يكون تاريخاً شاملاً للمرحلة الأولى من مراحل الحرب في لبنان. يتميز هذا الكتاب، الذي لا يكتفي بتدوين الوقائع أو الجدال، بغزارة المراجع المتوافرة في سياق تاريخي متمحور حول الحدث ومضامينه، فيعيد بأسلوب منهجي تشكيل الوقائع ورفد كل مشهد بمختلف مستويات القراءة التاريخية المستمدة من دينامية المجتمع اللبناني نفسه والبيئة الإقليمية على حد سواء. ويطرح الكتاب تساؤلات وإشكاليات عدة متشعبة، كيف دخل لبنان الحرب؟ من هم أبرز رموزها؟ كيف استولد العنف نفسه على رغم المحاولات المتكررة لفرض وقف إطلاق النار؟ ما سبب استمرار المعارك؟ هل كانت الحرب حرباً أهلية أم حرباً خارجية على أرض لبنانية؟ ما دور الأطراف الإقليميين السوريين والفلسطينيين والإسرائيليين؟ وما دور اللبنانيين أنفسهم؟ كيف عاش المجتمع اللبناني المحنة وكيف تأقلم معها؟ يقدم الكاتب أجوبة مفصلة عن هذه الأسئلة في سياق مميز ينأى عن التعميم والغموض ويبين تفاعل العوامل الداخلية والخارجية في حرب لبنان. يشير قصير إلى أن إحدى الأفكار الشائعة تفيد أن لبنان شهد حروباً عدة ابتداءً من 1975، وإذا كانت إحدى السمات الأساسية لحلقة العنف هذه، هي التبدل في التحالفات والرهانات والتناقضات، فالسمة الأخرى هي استمرار بؤر الحرب والجبهات والمحاربين وأشكال العنف، ما يحمل على الافتراض أن وحدة المكان ليست سوى معطى طارئ وأن المتحاربين المتعاقبين على هذه النزاعات التي يُفترض أنها مستقلة الواحدة عن الأخرى، لم يأخذوها في الاعتبار. لذلك ستكون الاستمرارية الجيوسياسية نموذجاً حتى عندما ستشهد الأراضي اللبنانية أقصى حدود التقسيم. ويضيف قصير أن الاستمرارية الجيوسياسية ستحدد عمليات التواصل العملانية المطروحة وتشجع على تأجيج الخصومات وتقود إلى علاقات متعددة الأقطاب بين المتحاربين، حتى لو أن النزاعات الجزئية التي تتداخل في ما بينها على مستويات مختلفة لا تشكل في النهاية سوى سلسلة من الأحداث، أي مسلسل حرب لبنان. وهنا يعتبر أن كتابه هذا يطمح إلى وصف استمرارية هذه السلسلة بالتزامن مع تعاقب فتراتها التأسيسية وانقطاعاتها. في إطار هذه الرؤية، يتعين البحث عن المادة الأساسية لهذه الدراسة في الأحداث نفسها التي تخفي قدرة عظيمة تساعد على الاكتشاف، أي تساعد على إيجاد العناصر الحقيقية لشرح ترابط أعمال العنف ،ويرى قصير أن هذا البحث الوقائعي الذي ينسجم مع الانحياز المبدئي إلى تفضيل الآليات مقارنة بالأسباب، يفضي إلى الفرضية القائلة بقراءة التاريخ فور وقوع أحداثه، وهو يتموضع في الواقع على طرفي نقيض بين الرؤية البوليسية للتاريخ ونظريات المؤامرة التي شهدت انتشاراً واسعاً. ولا ينكر الكاتب أن النزاع اللبناني كان عرضة لممارسات حربية بعيدة عن الأنظار ولمختلف أنواع المناورات وأن نقاطاً تاريخية ما تزال غامضة، إلا أن هذه الممارسات المفترضة والوقائع التي بقيت جزئياً غير مفهومة، لم تؤثر في التماسك المنبثق من الفصول المتعاقبة الواضحة المعالم. ويعتبر أنه إذا بقيت مشاكل ترتبط بتفسير الوقائع والأحداث فإنها تجد مبررها في المقابل في التنافر شبه المستمر بين الخطاب السياسي والممارسة، خصوصاً في التفسير الثابت في مجالي الأقوال والأفعال، والساحة اللبنانية الداخلية والساحة الشرق أوسطية. المشكلة الأولى صغيرة نسبياً وتشكل مصدراً لطرح التساؤلات وتجد حلولاً عبر عمليات حل الرموز من خلال مقارنة الخطاب السياسي بالأحداث الحاصلة، أما إيضاح المشكلة الثانية الأشد صعوبة فتشكل الهدف الأسمى لمؤلف يطمح إلى أن يكون تاريخاً متكاملاً قدر الإمكان للحرب في لبنان. وحسب قصير، يوفر هذا المجهود التوضيحي فائدة تتمثل بتغطية أكبر قدر من الأحداث ويشكل الطريقة الوحيدة للرد على الضرورة المزدوجة لتحديد التحديات السياسية للحرب وطرائق عملها، كذلك من غير الممكن تجاهل أن الحرب في لبنان تشكل جزءاً من تاريخ الشعب الفلسطيني، وبقدر أقل، من تاريخ سوريا. ولا يمكن تناسي أنها تجسد إحدى لحظات تطور مشروع الاستيطان الصهيوني في الشرق الأوسط، وتبدو المقاربة ضرورية لفهم كيف أن حربا حصر امتدادها في النهاية، اضطلعت بوظيفة أساسية ودائمة في تاريخ المشرق المعاصر. لذلك، حسب قصير، لا بد من المقارنة بين مجموعتي العوامل الداخلية والإقليمية. يفيد الكاتب أن توتر الرهانات الخارجية أثمر وفرة في التفسيرات التي اعتبرت الحرب في لبنان انعكاساً لنزاع أو نزاعات إقليمية، وإذا كان من الضروري إجراء تمييز بين ظواهر تتعلق بالدولة أو بالمجتمع اللبناني وظواهر أخرى تجد جذورها خارج الحدود، فهناك ضرورة للاستنتاج أن جزءاً مما هو «غريب» ينتمي فعلاً إلى التطور الداخلي للحرب. ويوضح أن الممارسة السياسية والعسكرية للمقاومة الفلسطينية والتدخل السوري ابتداءً من 1976 يشكلان في أحوالهما المختلفة عناصر داخلية للحرب مذ بدأت تؤثر بصورة منتظمة في آلياتها. كذلك تندمج الحوادث المتعلقة بالاجتياحين الإسرائيليين في 1978 و1982 في إطار الديناميكية الشاملة للحرب. ولا يشك الكاتب في أن الحالات الثلاث المذكورة أدخلت في سياق عوامل خارجية صرفة لأن الممارسات السورية والإسرائيلية وفي درجة أقل الممارسات الفلسطينية في لبنان، تتكامل مع تطورات أخرى ينبغي تصنيفها في فئة النزاع الإسرائيلي-العربي، أو بالأحرى الاستقطاب الدولي. يعتبر الكاتب أنه لا يرمي، من خلال التركيز على العوامل الإقليمية والإشكالية الطائفية، إلى إيجاد مكان وسط ولا إلى تثبيت أي شبكة من التفسيرات، فالطابع التخفيفي الذي يتميز به كثير من المفاهيم عن الحرب في لبنان، مرده إلى الرغبة في تطبيق شبكة من التفسيرات العامة والدائمة عليها. فضّل قصير أن يقتفي أثر الحقيقة كما هي بدلاً من تخيُّلها، مستعيناً بالقاعدة الماكيافيليّة، من هنا كان تركيزه على اللاعبين أكثر من اهتمامه بالعوامل، لأن اللاعبين هم الذين يقومون بالعمل ويتميزون بالقدرة على تجسيد تبدل الرهانات من خلال تصرف ملموس. عملاً بهذه النظرية، يرى أن التفاعل بين الساحتين الداخلية والخارجية يمكن أن يعطى حق قدره عبر علاقات المواجهة أو التحالف المعقودة على المسرح اللبناني، بين لاعبين دوليين (سوريا وإسرائيل ولبنان أيضاً)، أو لاعبين شبه دوليين (منظمة التحرير الفلسطينية)، ولاعبين ما دون الدولة (الطوائف والميليشيات والأحزاب والزعامات السياسية)، في إطار مكون من اتجاهات إيديولوجية عابرة للبلدان (القوميات العربية والنضال الفلسطيني المسلح ومسألة الأقليات). يتعين القول أن هؤلاء اللاعبين ليسوا ثابتين لكنهم يتعرضون للتحولات، وإن إدراكهم في الأمكنة التي يتحركون فيها، يتطور أيضاً، إلى درجة أن الموضوع الذي يتعاملون معه، أي لبنان، يتغير بدوره. ومن هذا المنطلق يرى قصير أن هناك نقصاً في الكتابات المتوافرة عن هذا الموضوع، فهي لا تكشف عن سبب تعقيد العوامل الداخلية التي لا يمكن تجاهلها في ديناميكيات المواجهة، لكنه يشيد ببعض المؤلفات الرفيعة المستوى التي عالجت أبعاد الحرب في لبنان. والمدهش هو ضآلة المؤلفات الوثيقة الصلة بالموضوع بين الكتب «الشاملة»، أي الكتب التي تعالج الحرب في لبنان بصورة عامة وقليلة هي الكتب «الشاملة» التي لا تغطي سوى جزء من الحرب في لبنان. يقول قصير أن الغاية من بحثه هذا هي التطلع إلى أفق متوسط الفترة لتكوين نظرة شاملة عن الحرب في لبنان وتحديد ما يتيح حركتها وسيرورتها والتحدث عنها باعتبارها وحدة لأسباب تتعلق بالحجم والوقت والوضع الراهن. يتقاطع طموح قصير العلمي هذا، حسب رأيه، مع هاجس آخر على الصعيد المجتمعي يقضي بالحفاظ على الذاكرة، لأن الأمور تنحو بصورة طبيعية إلى النسيان منذ انتهاء الحرب، ليس في وسائل الإعلام الدولية التي التزمت الصمت فور سكوت المدافع فحسب، إنما في لبنان أيضاً حيث لاحظ وجود رغبة مفهومة في تبديد الذكريات المؤلمة عبر سياسات رسمية قصيرة النظر.
ويبدو أن الغياب المأساوي لمؤلف الكتاب، وهو في ريعان شبابه وعطائه الفكري، قد أضفى على هذا الكتاب طابع الوصية، التي تسترجع ذاكرة الحرب وأحداثها عبر تناول نقدي وعلمي، أملاً في عدم تكرارها، وتكرار فواجعها ومآسيها، خصوصاً في هذه المرحلة التي يشهد فيها لبنان أزمة سياسية كبرى، بلغت درجة تنذر بما هو خطير على السلم الأهلي والتعايش اللبناني، إذ بالرغم من محاولات تطويق الأمور ومنعها من دخول مرحلة الصدام الدموي و«حرب الجميع ضد الجميع».
فإن لا أحد يستطيع معرفة مآل الأمور إذا استمرت التعقيدات الأساسية في التفاقم والحفر في عمق النسيج اللبناني، الاجتماعي، فضلاً عن السياسي والمذهبي. وكان يأمل سمير قصير أن يرى كتابه النور في نسخته العربية وهو على قيد الحياة، لكن القدر أودى بحياته، وبقي الكتاب للقارئ، كي يتمعن في محتوياته، ويطلع على هذا النوع من الكتابة العلمية النقدية، التي تكتب الحدث كما هو، ولا تزيف الواقع، ولا تغرق كذلك في جلد الذات، إنما ترصد الواقع كما هو، وترتقي به من أجل مستقبل أفضل.
ويسترجع سمير قصير وقائع الحرب اللبنانية التي بدأت في عام 1975 واستمرت حتى عام 1982، وانتهت بعد التوصل إلى اتفاق الطائف، محاولاً الخوض في الأسباب السياسية والاجتماعية التي تسببت في الحرب، ومحللاً حيثيات النزاع الأهلي والتدخلات الإقليمية التي أطالت أمد الحرب، وذلك استناداً إلى العديد من الوثائق والمواقف والمراجع حول الحدث ومضامينه، معتمداً على أسلوب منهجي يعيد تشكيل صورة الأحداث بأدوات جديدة بحثية، يتداخل فيها السياسي مع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
ويمكن لقارئ الكتاب أن يأخذ فكرة وافية عن كيفية دخول لبنان طاحونة الحرب، والأشخاص والقوى التي برزت خلالها، ولماذا استمرت طويلاً؟ وهل هي فعلاً حرب الآخرين على أرض لبنان، أي هل كانت لبنان ساحة حرب؟ والأهم من ذلك كله كيف استطاع الإنسان اللبناني التعايش مع العنف والدمار الذي ألمّ بالبلد؟
ربما تعود بداية النزاع اللبناني إلى 1969، لكن سمير قصير يرى أنه خلال الفترة التي تفصل بين هذا التاريخ والاندلاع الفعلي للأحداث عام 1975 عاش فيها لبنان حالة سلام على الرغم من عمليات التصعيد الإسرائيلية، لذلك يرفض إرجاع بداية الأزمة إلى مايو 1973 الذي شهد نزول فرقة كوماندوز إسرائيلية في بيروت اغتالت ثلاثة من القادة الفلسطينيين، وعليه فإن آليات الدخول في حرب لبنان لم تتحرك إلا لأن الإطار الذي تندرج فيه قد شكّلته عواقب أزمة 1973.
ويتطلع المؤلف إلى أفق متوسط الفترة، كي يكوّن فكرة شاملة عن الحرب في لبنان، وتحديد ما يتيح في حركتها وسيرورتها، التحدث عنها باعتبارها وحدة. ويتقاطع هذا الطموح العملي مع هاجس على الصعيد المجتمعي، يقضي بالحفاظ على الذاكرة، لأن الأمور تنحو بصورة طبيعية إلى النسيان بعد انتهاء الحرب.
يعود المؤلف إلى معاينة مراحل تطور الكيان اللبناني، حيث وجد الاعتقاد بهشاشة لبنان مرتكزه الأساسي في تجزؤ المجتمع اللبناني، المؤلف من تكوينات أو مجموعات متلاحمة إلى حد كبير هي الطوائف الدينية.
حيث يفصل بها كثير من المعتقدات والأفكار التي يحرض عليها التنافس في النظام اللبناني، وانبثقت من هذا التجزؤ مشاكل بنيوية خطرة أرخت بثقلها على وحدة البلاد، وبقيت بلا حلول ناجعة على الرغم من التقدم الملحوظ. وقد احتدم النقاش عقوداً حول شرعية كيان الدولة الجديدة التي أعلنها الجنرال الفرنسي غورو في الأول من سبتمبر 1920.
غير أن هذا الكيان أرسى الطائفية السياسية، حيث انعكست على مشكلة بنيوية خطيرة جداً، هي المحسوبية التي استفاد منها عدد من كبرى العائلات. وزاد القانون الانتخابي، الذي تمسك به لبنان المستقل، من نفوذ الوجهاء لدى كل طائفة، وقضى هذا النظام الذي يميل إلى تمثيل الطوائف والدوائر، بتوزيع اللوائح الانتخابية والانتخاب الفردي.
الأمر الذي ينجم عنه تشظ كبير للمجلس النيابي، وشبه استحالة للأحزاب الحديثة غير الطائفية في الوصول إلى البرلمان. ومن خلال هذه الشرعية التي يضفيها عليها القانون الانتخابي، فإن التحزب يمتد إلى كافة مستويات الدولة، ويشجع بالمقابل التلاعب بمقدرات الدولة .
وبالرغم من ذلك كله، حقق لبنا نجاحاً اقتصادياً قبل عام 1975، حيث بلغت مساهمة الصناعة 12 ـ 13 في المئة من الناتج القومي في ستينات القرن العشرين، وبلغت 20 إلى 25% في 1974. واستفاد لبنان من الثورة النفطية الأولى ومن إغلاق قناة السويس منذ العام 1967، وارتفعت العائدات السياحية في 1968 و1974 أربع مرات حتى باتت تشكل 10% من الناتج القومي الخام.
وفي الفترة بين 1960 و1973 شهد لبنان ميلاً لزيادة حجم فئات متوسطي الدخل وحجم فئات مرتفعي الدخل. أما في الفترة بين 1950 و1970 فإن نسبة التقدم بلغت 44% في جنوب لبنان و40% في شمال لبنان، و6,15% في البقاع.
وتؤكد المؤشرات أن الهوة بين الطوائف قد تقلصت، لكن التطور بوجه عام كان غير مدروس، فعاش لبنان ابتداء من أواخر الستينات فترة غليان سياسي كبير، تجسد في الطابع السياسي الذي وظف في الصراعات الاجتماعية.
وشهد لبنان في ستينات وسبعينات القرن العشرين المنصرم، انطلاق قوى اليسار وأحزابه، لكن ذلك لم يفضي إلى طمس الانقسامات الطائفية، بل سيعقدها كما سيتضح في مستهل الحرب. ولم يرد اليسار اشتعال الأحداث، بل أنه في أحداث صيدا دافع كمال جنبلاط عن موقف الجيش اللبناني، واقترح بأن ترسل الأحزاب التقدمية وفداً إلى صيدا لتجنب التصعيد.
غير أن المؤلف يتحدث عن الفوضى التي تسببت بها بعض مجموعات اليسار المنحرف، وعملاء مفترضون لإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وعن ازدواجية الالتزام والدور الذي اضطلع به الوجود الفلسطيني المسلح من إطلاق زخم الاحتجاج المتعدد الأشكال، بكسر استئثار السلطة بالعنف في قرى الجنوب أولاً.
ثم في ضواحي العاصمة بيروت، مستخلصاً بأن النهج الذي مارسته جهاراً منظمة التحرير الفلسطينية في إدارة الأحداث السياسية اللبنانية، على الرغم من ثقلها الميداني، والعناصر المحرّكة للأزمة كانت تكمن في الدرجة الأولى في التناقضات الداخلية ومعها لا يمكن بالتأكيد إلغاء العنصر الفلسطيني بشكل متناسق على جانبي المتاريس.
ومع اندلاع الحرب دخلت سوريا رسمياً إلى لبنان وسط ردود فعل تفاوتت بين الترحيب الحار والعداء، فأيد قادة الفريق المسيحي التدخل، حيث كان ترحيب سليمان فرنجية والجميل حاراً، بينما أعرب شمعون عن بعض التحفظات، ورحب به أيضاً الزعيمان الشيعيان المتنافسان كامل الأسعد والإمام موسى الصدر.
وتجنب كرامي اتخاذ موقف، فيما كان موقف صائب سلام قريباً أقل حدة من موقف ريمون إده الذي ندد بـ «الاجتياح السوري» ودعا إلى المقاومة. وأضفى أول مرسوم تصدره الحكومة في رئاسة الياس سركيس 1977 الصفة الشرعية على الأمر الواقع الناجم عن وجود القوات السورية في لبنان.
وتحول لبنان إلى ساحة حرب الشرق الأوسط، والبحث عن تسوية شاملة مع جولات سايروس فانس المكوكية ومقترحات جيمس بيكر واتفاقيات كامب ديفيد والتمثيل الفلسطيني في مؤتمر جنيف، والغاية هي إعادة صوغ المفهوم الأميركي في الشرق الأوسط.
ويرى المؤلف أن الوضع اللبناني خلال الحرب، كان يتغدى من عنف متفشٍ، ينفجر من كل مكان في الشوارع المكتظة والأزقة وعلى الطرق، ومن داخل الأحياء والقرى، والعنف في الصراعات السياسية والصراعات الإيديولوجية وسلاح الاغتيال السياسي، ومن تدهور العلاقات بين الجيش والميليشيات، وأعمال إجرامية.
أبرزها سرقة السيارات وممارسة ابتزاز التجار، وانعدام السيطرة على سلوك المنظمات الفلسطينية، والأخطر من ذلك مواجهات الشارع في مختلف المناطق، والمواجهات في التنظيمات الفلسطينية نفسها. وأدى ذلك إلى أزمة مستعصية، أو أزمة غير قابلة للانضباط مع تشعب الانقسام الوطني وأزمات حكومية، والهجوم على الدولة.
والنتيجة هي تفتت مستمر في مجمل الفترة الممتدة من 1977 إلى 1982 مع كثير من التنويعات داخل المشهد الواحد في لعبة غير متعادلة النتائج. استطاع المؤلف أن يقدم كتاباً شديد التنويعات داخل المشهد الواحد مع الالتزام بالسلوكيات البحثية، ومن دون انحياز أو مجاملة عاطفية، فكانت كتابته وافية وملمة بأبعاد الحرب المختلفة والمعادلات الإقليمية المعقدة والتشابك بين الداخلي والإقليمي والدولي والعامل الإسرائيلي. وقدم شهادة على فظاعة جريمة الحرب.
*الكتاب:حرب لبنان ـ من الشقاق الوطني إلى النزاع الإقليمي (1975-1982)