النيل والفرات: ابن رشد، فيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها، أبو الوليد مفكر، فيلسوف، عالم، مجتهد جمع بين العلم والفضيلة، حيث كان يجسد بحق الفكرة التي قال بها سقراط، وهي أن المعرفة أساس الفضيلة، فالعالم لا يكون إلا فاضلاً في تصور سقراط، وابن رشد كان بحق أحد أولئك القلائل الذين اقترن لديهم العلم بالفضيلة، ليكون حكمه ويكون صاحبه حكيماً.
وهذا الكتاب هو في سيرة ابن رشد وفكره، سلك فيه الباحث مسلكاً خاصاً، فجمع بين حكاية السيرة الذاتية لهذا الفيلسوف والتعريف بفكره من خلال أهمّ كتبه، في الفقه وأصول العقيدة والفلسفة والعلوم والطب والسياسة. ويقول الباحث بأن هذا المسلك فرضه عليه ابن رشد نفسه، لكون سيرة ابن رشد الذاتية هي مسيرته العلمية نفسها، فلا يمكن الحديث عن الواحدة منها بمعزل عن الأخرى.
فقد نشأ في بيت كان أهله "إلى العلم أميل" كما يقول من ترجموا لهذا البيت، فانقطع منذ صغره للدراسة، فلما بُلغ أشده "في العلم، بدأ التدريس والتأليف والبحث العلمي إلى أن توفي، عن عمر يناهز خمس وسبعين عاماً قضاها كلها في الدراسة والتدريس والبحث والتأليف.
ويمكن القول بأنه ومن خلال هذا الكتاب وغيره من الكتب التي دارت حول ابن رشد ومؤلفاته والتي صدرت في السنة التي قررت عدة جهات أكاديمية، عربية ودولية، إطلاق ابن رشد عليها، احتفاءً بمرور ثمانية قرون على وفاة هذا الفيلسوف العربي الكبير، نقول أنه ومن خلال هذا الكتاب وغيره يمكن استعادة ابن رشد الفقيه، وابن رشد الفيلسوف، وابن رشد العالم.
وتلك ضرورة تمليها، ليس فقط المكانة المرموقة التي يتبوؤها هذا الرجل في تاريخ الفكر الإنساني والتي غابت في فكرنا العربي، بل تمليها كذلك حاجتنا اليوم إلى ابن رشد ذاته: إلى روحة العلمية النقدية الاجتهادية، واتساع أفقه المعرفي، وانفتاحه على الحقيقة أينما تبدت له، وربطه بين العلم والفضيلة على مستوى الفكر ومستوى السلوك سواء بسواء.
محمد عابد الجابري (1936 بفكيك، الجهة الشرقية - 3 مايو 2010 في الدار البيضاء)، مفكر وفيلسوف عربي من المغرب، له 30 مؤلفاً في قضايا الفكر المعاصر، أبرزها "نقد العقل العربي" الذي تمت ترجمته إلى عدة لغات أوروبية وشرقية. كرّمته اليونسكو لكونه “أحد أكبر المتخصصين في ابن رشد، إضافة إلى تميّزه بطريقة خاصة في الحوار”.
رغم انتقاداتنا للجابري, وهي مآخذ على تلامذته أكثر منه, لأنهم أخذوا بخلاصات الجابري ناقصة ودون منهجيته في الوصول لها, فما كان معرفيا وايديولوجيا لدى الجابري, أضحى ايديولوجيا بحتاً لدى تلامذته, إلا أنه يبقى أن الجابري أغنى المكتبة العربية و جدد آفاق الاشتغال في هذه المواضيع, ومهما يكن فإن هيام الجابري بابن رشد جدير بأن ينتج بحثاً بذل فيه من جهده وقلبه وقلمه الرشيق الكثير وسبق أن كتبت مقالاً مطولاً حول المآخذ على منهجية الجابري.
منذ مدة وانا احاول ايجاد كتاب جيد اقرأه عن ابن رشد بسبب اعاجبي الشديد بهذه الشخصيه الفذة بعد العديد من المحاضرات التي شاهدتها عنه وعن اهمية احياء فكره فكما يقول الدكتور مراد وهبة ان ابن رشد هو الحلقة التي يمكن من خلالها هدم الفجوة بين الشرق والغرب اذ انه الرابط المشترك بيننا حيث ان الغربيين اعتنوا بتراث ابن رشد الفكري كثيرا واسسوا مذهباً فكريا عرف بالرشديه اللاتينيه الذي اسهم بنهوض اوروبا وخروجها من عصر الظلام الذي كانت تعيشه في ذالك كنت متشوقا الى قراءت كتاب يشرح فكر ابن رشد بشكل مبسط ويكون بمثابة مخدل لفكره ولم اجد افضل من كتاب ابن رشد سيرة وفكر للدكتور محمد عابد الجابري أحد كبار المختصين بفلسفة ابن رشد, يتناول في هذا الكتاب الجانب الشخصي من حياة فيلسوف قرطبة ابن رشد والذي هو في نفس الوقت الجانب الفكري .. الكتاب رائع وقد غير وجهة نظري حول ابن رشد وفكره وصحح الكثير من الاخطاء عندي بالاضافه الى توضيحه اهم نقطة وهي سبب نكبه ابن رشد حيث بين بشكل منطقي مستندا الى مراجع تاريخيه موثوقه (ككتاب المعجب و كتاب الذيل والتكملة) سبب النبكة الحقيقيه التي احرقت بسببها كتب ابن رشد و تم نفيه لسبب سياسي وهو كتاب كان كتبه لاخ الخليه المنصور (الضروري في السياسيه) ابي يحيى الذي قتله الخليفه ايضا والذي ادان فيه الاستبداد السياسي في عصره ما جعل الخليفه ناقما عليه .. اما القسم الثاني من الكتاب فيتطرق للجانب الفكري عند فيلسوفنا ويوضح محاولاته في اصلاح العقيده والاخطاء التي دخلتها نتيجه الاعتماد على النقل لا الاجتها ولذالك كتب كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد, و يستعرض الجابري اهم كتب ابن مع سبب كتابتها واهم الامور التي جائت لمعالجتها ومن ثما يتحدث عن الصراع مع الغزالي وابن سينا حيث يتطرق الى كتاب تهافت التهافت و فصل المقال في تقرير ما بين الشريعه والحكمه من الاتصال والتي بين فيها ان تكفير الفلاسفه خأ على الشريعه وبين مواطن الضعف في نقد الغزالي للفلاسفه كما بين اخطاء ابن سينا الفلسفيه وقد التزم الحياد في هذا الصراع بين الفلاسفه ..وفي القسم الاخير من الكتاب يوضح سبب شرحه لارسطو واهمية شرح فكر ارسطو
العقل جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها, وهذا الجوهر ليس مركبا من قوة قابلة للفساد, وإنما هو مجرد عن المادة في ذاته، مقارن لها في فعله. 2- العقل قوة النفس التي بها يحصل تصور المعاني, و تأليف القضايا والأقيسة. فهو قوة تجديد تنتزع الصور من المادة, وتدرك المعاني الكلية, ولهذه القوة مراتب : أ - مرتبة العقل الهيولاني : وهو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات, ونسب إلى الهيولي لأن النفس في هذه المرتبة نشبه الهيولي الأولى الخالية في حد ذاتها من الصور كلها, والعقل الهيولاني مراد في العقل بالقوة, وهو العقل الذي يشبه الصفحة البيضاء التي لم ينقش عليها شيء بالفعل . ب - مرتبة العقل بالملكة : وهو العلم بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات. ج- مرتبة العقل بالفعل : وهو أن تصير النظريات مخزونة عن القوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد, لكنها لا تشاهد بالفعل . د - مرتبة العقل المستفاد : وهو أن تكون النظريات حاضرة عند العقل لا تغيب عنه . وعند هذا العقل الأخير يتم النوع الإنساني, وكل عقل من هذه العقول قد يكون عقلا بالقوة بالنسبة إلى فوقه, وعقلا بالفعل بالنسبة إلى ما تحته,ولا يتم له الانتقال من القوة إلى الفعل إلا بواسطة عقل مقارن هو دائما بالفعل,وهو العقل الفعال, ومنزلته فوق العقل الإنساني تفيض عند الصور على علم الكون والفساد, فتكون موجودة فيه من حيث هي فاعلة . أما في عالم الكون والفساد فهي لا توجد إلا من وجه الانفعال, وإذا أصبح العقل الإنساني شديد الاتصال بالفعل الفعال,كأنه يعرف كل شيء من نفسه سمي بالفعل القدسي. وهذا كله مأخوذ من قول أرسطو: " إن العقل الفاعل هو العقل الذي يجرد المعاني أو الصور الكلية من لواحقها الحسية الجزئية على حين أن العقل المنفصل هو الذي تنطبع فيه هذه الصور". اقتباس من الكتاب (بالأحرى اقتطاع!): "الاتصال" كانت له أهمية خاصة في القرون الوسطى فهو غاية المتصوفة و يبلغ عندهم تمامه في ما يسمونه "الحلول" أو "وحدة الوجود" أما عند الفلاسفة فالاتصال الذي يبحثون في كيفية حصوله يكون بالعقل و العقل النظري بالذات... يرى ابن باجة أن الاتصال يكون بالعقل الفعال عندما يتحد بالعقل بالملكة, أي بالعقل النظري. و قد استند في ذلك على المقدمات التالية: (1) المعقولات النظرية مخلوقة (2) كل ما هو مخلوق له ماهية (3) العقل قادر, بطبيعته نفسها, على انتزاع ماهية كل ما له ماهية (4) و النتيجة أن العقل قادر على تجريد المعقولات و ماهيتها, و بذلك يصير عقلاً يعقل بدون حاجة إلى ما له مادة, أي عقلاً نظرياً محضاً فيحصل الاتصال بالعقل الفعال. يناقش ابن رشد هذا الاستدلال فيلاحظ أن الصدق و عدم الصدق فيه يتوقف على الفصل في مسألة ما إذا كان مفهوم الماهية يُقال على ماهيات الأشياء المادية و ماهيات المعقولات المفارقة بنفس المعنى أم باشتراك الاسم فقط؟ و بعد أن يقرر أنه من الصعب الفصل في هذه المسألة نهائياً ينتقل إلى ما قرره ابن باجة في رسالته ’اتصال العقل بالإنسان‘ من أن الفيلسوف عندما يرقى إلى ذروة صعوده على سلم تعقل المعقولات فيعقل المعقول كمعقول, لا كماهية منتزعة عن مادة, فيعقل المعقول المفارق, و ذلك هو الاتصال. ...و بين أنه عندما تكون جميع المعقولات النظرية حاصلة فينا بالقوة فالعقل الفعال متصل بنا بالقوة, و عندما تكون موجودة فينا بالفعل فهو يتحد بنا بالفعل, و أيضاً عندما يكون بعضها متحداً بنا بالقوة و بعضها بالفعل فهو أيضاً يتحد بجزء منه و لا يتحد بنا بجزئه الآخر في هذه الحالة الأخيرة نقول إننا نتحرك نحو الاتصال به. و عندما يتم تحركنا هذا و يبلغ تمامه يتحد بنا العقل الفعال بجميع الاتجاهات. و بين أنه في حالة الاتحاد تكون نسبة العقل الفعال إلى الإنسان و نسبة العقل بالملكة إليه نسبة واحدة. و عندما يتم هذا الاتحاد –الاتصال- فبالضرورة يعقل الإنسان جميع الكائنات بعقل هو له و خاص به و يفعل جميع الموجودات الفعل الذي هو خاص به, فعل التعقل. و ذلك على نفس النحو الذي يعقل بواسطة العقل بالملكة, عندما يكون عقله متصلاً بالصورة الخيالية, جميع الموجودات بواسطة تعقل هو خاص به. فمن هذه الجهة يكون الإنسان كما قال ثاميسطيوس شبيهاً بالإله! ذلك أن الإله هو, على نحو ما, جميع الموجودات, و هو يعقلها جميعاً على نحو ما كذلك. ذلك لأن الموجودات ليست شيئاً آخر غير علمه (الإله) كما أن سبب الموجودات ليس شيئاً آخر غير علمه. "و لعمري هذا النظام عجيب و هذا النوع من الوجود عجيب".
ابن رشد.. الاكيد ان ابن رشد كان فيلسوفا بما تحمله الكلمة من معنى ولم يكن مجرد ناقل للعلوم فلديه نظرياته واطروحاته، وهنا لا بد من التركيز على الجانب المهم برأيي في ابن رشد ليس نظرياته القديمة نسبيا ولا نتائجه المعرفية بل هذا ما نحن بحاجة اليه وهو قدرة الفيلسوف على التحليل وتركيب المعلومات لا تجميعها، فقد ألف ابن رشد بالعلوم العقلية ورد على المتكلمين الاسلاميين بطريقة عقلية ، والف في الاصول والقواعد الدينية بطريقة جديدة ، فأنا اعتقد ان ابن القرن الخامس في المعرفة العلمية لم يتحصل على النتائج العلمية الحديثة نفسها ابن القرن الحادي والعشرون بحكم تطور ادوات المعرفة ووسائلها، لكن ابن رشد لا يزال ثورة حتى عصرنا الحاضر في التحليل وطرقه في الاستدلال العقلي والفلسفي بعيدا عن التحيز النصوصي الجاهز واللا اضافة سوى العمل ضمن القالب التقليدي الذي حاول كثير من المتكلمين اثباته بدون تقديم اي اضافات حقيقية،، لهذه المقدمة ما بعدها بكل تأكيد.
أتحفني الجابري مرة أخرى في كتابه هذا، ابن رشد سيرة وفكر، والذي يعد خلاصة عامة وزيادة إيضاح لفكر ابن رشد الذي أعده المشروع الثاني للجابري بعد مشروع نقد العقل العربي لأن إحياء الرشدية امتداد طبيعي لمشروع نقد العقل العربي بل يعد ابن رشد أو بالأحرى الروح الرشدية مرشد عمل لإعادة تدشين الإصلاح والتجديد في عقل عربي غاب عن الوعي أكثر مما ينبغي. هذا الكتاب مهم لأنه جمع ما تخصصت به كتب إحياء ابن رشد التي وقف عليها الجابري وهذه الكتب هي :أ- فصل المقال في تقرير مابين الشريعة والحكمة من اتصال وب- الكشف عن مناهج الملة في عقائد الملة وج- تهافت التهافت ود- الكليات في الطب. هذه الكتب، يقول الجابري، هي كتب ابن رشد الأصيلة التي أبدع فيها ابن رشد إبداعا كان لو تم مدارستها بما يكفي وإشاعتها لأن تكون انطلاقة فعلية لنهضة عربية وإسلامية موءودة. وهذه الكتب حسب الجابري هي الوجه الآخر لابن رشد الإسلامي بينما كتبه الأخرى الشارحة لأرسطو هي التي أخذت مجال التفكير في ابن رشد اللاتيني. وقد قسم الجابري أعمال ابن رشد إلى حقول معرفية خمسة وهي : 1-مؤلفات تعليمية و2-ومؤلفات في الحقل الديني : الفقه والعقيدة و3-مؤلفات في الطب والعلوم و4-مؤلفات في الفلسفة وعلومها و5- مؤلفات في العلم المدني أي الأخلاق والسياسة والذي يعده الجابري حالة استثنائية في الفكر العربي. لماذا ابن رشد ؟ هذا السؤال سيجد جوابه في معظم كتب الجابري ولعلني لا أبالغ إن قلت إذا كان ابن رشد أعظم شراح أرسطو وقد سماه اللاتين الشارح الأكبر فإن الجابري وقد مسح الغبار وسهل الدخول إلى فكر ابن رشد قلت إنني أعد الجابري الشارح الأكبر لابن رشد لما يلمسه المرء في قراءته مشروع الجابري طول نفس وصبر ومكابدة في "تصحيح" ما اختلط على البعض من فكر ابن رشد و أهمية ابن رشد هذه تتجلى في عصر الجابري وعصرنا نحن أيضا ذلك أن الجابري كتب كتابه هذا في سنة 1998 وهو يرى انتشار مقولات الإسلام السياسي بين الجمهور والعوام والمثقفين أيضا. يقول الجابري :"إن ترشيد الإسلام السياسي والتخفيف من التطرف الديني إلى الحد الأقصى لا يمكن أن يتم بدون تعميم الروح الرشدية في جميع أوساطنا الثقافية ومؤسساتنا التعليمية". إن قيمة ابن رشد حسب الجابري تتجلى واضحة في مشروعه الذي رام تصحيح مجالات كثيرة أهمها مجال العقيدة ومجال الفلسفة وعلاقتها بالدين ثم مجال العلم والسياسة وكل هذا بما يقتضيه مذهب أرسطو لأنه كان المرجع الأعلى الذي تأوي إليه الطبقة المثقفة والمفكرة في تلك العصور لذلك يدعو الجابري إلى فهم ابن رشد داخل سياق تاريخه الذي أطرته منظومة أرسطو العلمية. لكن ماذا يعني الجابري بقوله إن ابن رشد دشن مشروعا ضخما في تصحيح العقيدة والسياسة والفلسفة والعلم؟ يجيب الجابري بأن تصحيح العقيدة عند ابن رشد يعني تجديد النظر لا في مبادئ العقيدة لأن مبادئ الشرع لاتحكمها مبادئ العقل بل تصحيح الفهم الذي كونه الناس لأنفسهم لتلك المبادئ. بمعنى آخر التصحيح هو مجموع الاجتهاد والتجديد. أما تصحيح العقيدة فقد انكب ابن رشد على تفكيك البنية المعرفية للأشاعرة التي كانت القوة الفكرية الأولى في زمن ابن رشد وكان كتابه تهافت التهافت ردا صريحا لا على الغزالي الذي طم الوادي على القرى بتعبير ابن رشد ولكن بالرد على مراجع الغزالي وعلى رأسها خلاصات أبي المعالي الجويني الذي استقرت مباحث علم الكلام على يديه لتقسم إلى مقدمات وأركان ولواحق. إن ابن رشد حينما رد على الغزالي فقد كان يرد على مستويين مستوى فكر الغزالي ومستوى فلسفة ابن سينا. أما الغزالي فقد نبه ابن رشد على أنه لم يرد على الفلاسفة بل كان يرد على ابن سينا . وأما الأخير فقد تحدث عن الفلاسفة بزيادة أشياء لم تأت منهم بل هي نظرة ابن سينا الخاصة خاصة في ما يتعلق بنظرية الفيض التي عدها ابن رشد خرافات منطقها أكثر تهافتا من منطق الأشاعرة و منشأ هذا الأمر حسب ابن رشد هو قلق عبارة أرسطو خاصة في الإلهيات، ما بعد الطبيعة أو الميتافيزيقا، التي توقف عندها ليفتح شراحه الكبار الباب أمام تأويلات ستعود بالفلسفة إلى الخرافة عكس ما اقتضاه مذهب أرسطو لتنتج لنا الأفلاطونية المحدثة التي نزعت إلى التوفيق والتلفيق بين الدين والفلسفة. هنا يدخل الجابري في تفصيل منظومة أرسطو الفلسفية التي تقوم على أركان خمسة : 1-كتاب البرهان في المنطق و2-كتاب السماع الطبيعي و3- كتاب السماء والعالم و4- كتاب النفس في الطبيعة و5- كتاب ما بعد الطبيعة والذي يسمى أيضا بالميتافيزيقا أو الإلهيات أو الفلسفة الأولى. انطلاقا من كتب أرسطو سيعمل ابن رشد على تصحيح ما شابه من خلط شراحه له من خلال مبدأ ما يقتضيه مذهب أرسطو أي ما لا يختلف مع نسق أرسطو الفلسفي والعلمي. لقد كان سكوت أرسطو عن العقول المفارقة للمادة فتحا لباب التأويل والتوفيق بين الدين والفلسفة كما سبق وأشرت آنفا ليصل ابن رشد إلى أن التوفيق بين الدين والفلسفة ليست من مذهب أرسطو ولا كانت مما يشغل تفكيره. هنا يأتي جديد بل تجاوز ابن رشد أرسطو لكن داخل ما يقتضيه مبدأ أرسطو نفسه وهذا التجديد أو التجاوز ابتكار ابن رشد معنى جديدا لعلاقة المادة بالصورة على عكس ما تصوره الحكيم أرسطو الذي رأى العلاقة بينهما، يقول الجابري، على الشكل الآتي : المادة كالمرمر والصورة كفكرة التمثال في ذهن النحات والمركب بينهما هو التمثال في حين يرى ابن رشد أن هناك حالة تكون فيها المعطيات الثلاثة المذكورة اثنان لا أكثر. ثم يسافر بنا الجابري في أعقد ما جاء به ابن رشد شارحا أرسطو خاصة في معنى العقل الإنساني ليخلص الجابري إلى أن ابن رشد تجاوز أرسطو من خلال نتيجتين. يقول الجابري في هذا التجاوز إن ابن رشد وصل إلى أن الفلسفة أزلية، خالدة، إذ هي التي تعطي المعقولات النظرية أي القوانين الكلية التي تحكم العالم، وبعبارة عصرنا هي خالدة لأنها ليست شيئا آخر غير الرؤية المطابقة لحقيقة الوجود. النتيجة الثانية العقل الهيولاني) وقد عانيت ولا أزال في فهم هذا العقل لدى قراءتي الجابري( بما أنه أزلي وبما أنه واحد في جميع أفراد الإنسان فمعنى ذلك أن النوع الإنساني خالد. أما سياسيا فقد كان لكتاب الضروري في السياسة وهي تلخيص لكتاب الجمهورية لأفلاطون ما بعده خاصة في ما يتعلق بنكبة ابن رشد مع يعقوب المنصور والذي لم يكن تلخيصا تعليميا فقط للجمهورية بل كان نقدا لاذعا لتسلط يعقوب المنصور وما أحدثه من ردة على المشروع الموحدي الذي قام به عبد المومن المؤسس الفعلي لدولة الموحدين أما جديده فهو تعقيب ابن رشد على خلاصة أفلاطون بأن مسألة تعاقب طرق الحكم مسألة حتمية قائلا ،أي ابن رشد، إن الحتمية تكون في عالم الطبيعة لا عالم البشر حيث الإرادة ممكنة والتغيير ممكن. لا أستطيع إلا أن أثمن جهود الجابري الجبارة في إحياء روح الرشدية التي نحن في أمس الحاجة إليها وكما قال الجابري إن الجيل الصاعد إما أن يكون رشديا فيتقدم على مدارج الأصالة والمعاصرة معا وإما ألا يكون له كون ولا مكان في هذا العالم. هي صرخة الجابري إذن تلك التي تستحثنا على العمل وأول الأعمال ترتيب العلاقات بين الديني والفلسفي والسياسي. أما عن خلاصاتي بعد قراءة هذا الكتاب فكانت عرضانية. ذلك وأنا أقرأ الكتاب مدونا أفكاره وخلاصاته عرض لي أمران. أولهما أنه من الممكن أن يفهم امرؤ فلسفة قوم يختلفون عنه خيرا مما قد يفهمها كبار مفكري هذه الثقافة والدليل فهم وهضم وتجاوز، حسب الجابري، ابن رشد شراحا كبارا لأرسطو وهو البعيد عنه ثقافيا ودينيا ورغم قرب شراحه له لغويا وثقافيا أما الخلاصة الثانية فهي كيفية تعلم هؤلاء الكبار من أمثال ابن رشد وابن سينا والفارابي اللغة اليونانية أو اللاتينية التي كتبت بها فلسفة أرسطو؟ كيف تعلم هؤلاء هذه اللغة لدرجة فهم وهضم هذه الفلسفة؟ هل كانت ثمة بيداغوجيا لتعليم اللغات؟ ما هي وعلى يد من؟ حتى الذين تعلموا العربية من النصارى ونقلوا الفلسفة إلى العربية كيف تعلموا العربية وبأية طرق؟ هذه الأسئلة قد تفتح نقاشا على كيفية تعلم المتقدمين اللغات الأجنبية في تلك العصور
This entire review has been hidden because of spoilers.
هذا الكتاب افضل ما كتب عن فكر ابن رشد وسيرته ، فقد صحح الجابري الكثير من الأغلاط التي تدور عن ابو الوليد
الفكر يعيش في بيئة سياسية مشجعة ، ويموت في بيئة سياسة مستبدة ترى أنها صاحب الرؤية الواحدة لم يكفر ابن رشد إلا بسبب سياسي لا غير ولم يتم تنكيل والإساءة إلى أهل الفكر في الحضارة العربية الإسلامية إلا بسبب سياسي وليس ديني ولم يكن السبب الديني إلا غطاء لتمرير الهدف السياسي
لقد تتبع ابن رشد فكر أرسطو ورأى أن فهم أرسطو والإنطلاق منه هو التقدم ، وهذا ما حدث في الحضارة الغربية بعد أن تلقفوا شروحات ابن رشد لأرسطو
حاجة غريبة كيف يكون أكبر شارح لأرسطو؛ منطلق شرحه كان أمر من البلاط الملكي، مرات الأفكار العظيمة ما تجيش من عقلك دراسة غنية وشاملة لسيرته -الناقصة- ونكبته ومسيرته في الكتابة والشرح. من الأفكار اللي منتشر، إنّ ابن رشد مش فيلسوف أو مفكر عظيم؛ لأنه في النهاية مجرد "شارح" هذوا ما يعرفوش تاريخ ابن رشد في الكتابة أو إنّهم ما يعرفوش إنّ شروحات ومنهجها بـ"ما يقتضيه مذهبه" لهو في حد ذاته انتاج علمي فاخر، يجعله بمرتبة فيلسوف قرطبة. واختزال مسيرته بالشروحات والمختصرات والردود لهو اجحاف في حقه
هذا الكتاب الجادّ "تصحيح" للصورة التي غلبت على أذهان المتعاملين مع ابن رشد؛ إن على المستوى الشخصي أو العلمي. والجابْري هنا يستعير لفظ التصحيح نفسه من ابن رشد الذي مارس هذا الفعل في مختلف الجوانب العلمية؛ مارسه في الفقه وأصوله فكان كتابه ''بداية المجتهد ونهاية المقتصد'' الذي دعا فيه إلى فتح باب الاجتهاد. كما مارس التصحيح في العقيدة، فكرّ على المتكلمين خاصة الأشاعرة في كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة" ونقد مناهجهم وانحرافهم بالعقيدة بمقتضى التأويل عن طريق القرآن الذي يشهد له البرهان ولا يخالفه. وفي الفقه كانت فتواه في وجوب النظر الفلسفي لتحقق الاتصال بين الحكمة والشريعة وأنهما وجهان لحقيقة واحدة. والتصحيح في الفلسفة سواء بالردّ على من هاجموا الحكمة كما فعل في ''تهافت التهافت'' ناقضا الغزالي. أو في تصحيح أرسطو بالتزام "ما يقتضيه مذهبه'' هذا المقتضى الذي حاد عنه الشراح الأولون أو حادوا به إلى إشكاليات لم يعنى به أرسطو من أصل كما فعل الفارابي وابن سينا مثلا. هنا يظهر ابن رشد لا كشارح لأرسطو فقط بل متجاوزا له بما سد من ثغرات المتن الأرسطي بعد أن رفع القلق عن عباراته. كما كتب في أخريات حياته '' الضروري في السياسة" وهو مختصر لجمهورية أفلاطون جرّد أقاويله العلمية وبناه بطريقة برهانية مخالفا أفلاطون في منهجه الحجاجي الجدلي، ومضفيا عليه روحا أرسطية كما كانت تقتضي أرضى المذاهب بالنسبة لابن رشد. ويرجح الجابري أن هذا الكتاب هو سبب نكبة ابن رشد التي حار المؤرخون واختلفوا في تعليلها، كون هذا الكتاب يصم الأحوال السياسية في عهده بالفساد والاستبداد، أو بعبارة ابن رشد ''وحدانية التسلط". كما طال تصحيحه كذلك الطب فألّف "الكليات'' الذي قعّد به لأسس الطب حتى يقطع مع الارتجال الغالب في طب عصره. كما صحح في الفلك فجمع بين النظام البطليموسي والنظام الأرسطي متسقا مع نظريته في وحدة الحقيقة. كتاب لا تكفيه قراءة واحدة، كما لا يكفي الانكفاء عليه، رغم أنه في وقته، لم يكن يُعرف ابن رشد بأجلى مما عرّفه الجابري، وهو الذي وسمته اليونسكو كواحد من أكبر المختصين بابن رشد. قلت لا يكفي الانكفاء عليه، فالجابري بعلميته لا بتواضعه فقط، زعم أنه فتح الباب على ابن رشد ولم يدّع أبدا ختم القول فيه.