What do you think?
Rate this book


855 pages, Hardcover
First published January 1, 1951

كتاب عظيم موسوعي، سهل العبارة في معظمه، واسع النطاق في مسائله … رغم طابعه التنظيري الفلسفي، إلا أن له أثرًا رقائقيًا لطيفًا وواضحًا، أثّر فيّ أثرًا طيبًا، أرجو من الله أن يدوم.
يحاول الدكتور رحمه الله أن يستنبط النظرية الأخلاقية في القرآن، ومعنى النظرية هنا هو النظرية في وجهة نظر الفلسفات الأخلاقية الحديثة، ولذا كان ما سبّب هذا الدافع هو رؤيته أن السلف اهتموا بالجانب العملي أكثر، بينما فاتت الصورة الكاملة عمل المستشرقين، وتعريف الأخلاق ها هنا ليس مقصورًا على الأخلاق في التعامل مع الناس أو الأخلاق الذاتية، بل هو مجموع الأفعال والأقوال والأفكار التي تعتبر حسنة أو سيئة، ويرتبط بهذا تعريف مجال فاعلية الأخلاق من دونه.
عَمَلُ الدكتور رحمه الله هنا كان قائمًا على تقديم منظور جديد لأساسيات الفقه الإسلامي، وأصل العبودية في الإسلام، فقام بطرح منظورين فصّل الأول في ثلاثة فصول، وفصّل الثاني في فصلين بعده، وفي خلال الفصول كلها يمكنك أن ترى أنه يعود للتذكير بذات المبادئ –مستقاة من أصول الفقه أو أصل العقيدة– يعاد التذكير بها وإعادة العمل بها؛ أما المنظور الأول فهي وجهة نظر قانونية للأخلاق بدأها بالإلزام، وهو تأكيد مصدر الأخلاق، وتبيان الموقف الذي ينبغي على الإنسان أن يتخذه تجاهها، ثم انتقل للمسؤولية، وهي تفصيل في مسألة إلزام الإنسان بما أُلزِم به من واجبات، وتفصيل للجهات المتعددة التي يتم محاسبة الإنسان ومراجعته على الفعل، وأنواع للمسؤوليات التي تتحقق على الإنسان إزاء أفعاله، أما الفصل الثالث في هذا المنظور هو الجزاء، أي ما يترتب على الفعل خيره وشره، عاجله وآجله.
المنظور الثاني هو منظور لمركبات الأخلاق ذاتها، فهو فصلان؛ النية والجهد، باب النية يناقش فيه تأثير نية الإنسان على العمل، وفي الجهد ناقش العمل الفاعل الإيجابي الذي عده السلاح الوحيد في يد الأخلاق، وتفاوت مقادير الجهد الذي يمكن بذله، وكيف ينبغي أن يوجّه.
ويمكن ملاحظة عدة مبادئ كانت فاعلة في أكثر من فصل، فأولها مثلًا: مسألة التدرج في الأعمال، فليس كل الحسن أخلاقيًا على ذات الدرجة، وليس كل السيء على ذات الدرجة، جاء هذا المبدأ صريحًا في فصل الإلزام، حيث عده الكاتب شرطًا لحدوثه، حيث كان هذا التدرج هو العامل الذي سمح للأخلاق أن تشمل جوانب الحياة العديدة، وكان هذا بأن حددت حدًا أدنى لكل عمل واجبًا، وحدًا أقصى متاحًا لكل إنسان أن يسمو بعمله إليه، وكذا في المحرمات، وكانت الأعمال المباحة الوسط الذي يسمح للإنسان أن يمارس حياته دون أن يخالف الأخلاق. وذكره أيضًا في فصل النية، حيث كان يفصّل في أثر النية على العمل، وفضل نية على أخرى، وهذا باب مهم في الفقه الإسلامي. مبدأ التدرج كان مثالًا على المبادئ الفقهية المذكورة بكثرة في هذا الكتاب، وذكر من أخواتها إمكانية التصرف والتكليف على قدر الاستطاعة، وشرط صحة العمل وموافقة السنة، ناهيك عن اشتراط الإخلاص في النية، فقد أفرد لها فصلًا.
المبدأ الأساس في هذا الكتاب هو مبدأ العبودية، فهو مصدر الإلزام، وهو مسوّغه، كان مذكورًا بكثرة في كل فصول الكتاب، وكان من أوضح ذكره في باب الجزاء حيث تعرض الكاتب لحديث «لن يُدخل أحدًا عملُه الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة»، وذكر أن مدار عمل الإنسان قائم على العبودية، والجزاء –دنيويًا كان أو أخرويًا– إنما هو فضل ورحمة من الله عز وجل، لا مكافأة لفعل الإنسان، وجاء ذكره في باب النية، حيث أن شرط صحة العمل هو إخلاص العمل لله من حيث أنه أمره وأن الإنسان يمتثل ويتعبّد لله به، وأنّ تمام النية في ألا يطلب سوى وجه الله تعالى من العمل، ولا يخالط القلب غاية سوى الله عز وتعالى.
وهناك سؤال كان له أثر في أكثر من فصل، وهو رد على اتهام يوجّه عادة للأخلاق الدينية أنها تقلل من شأن الضمير الفردي والجماعي في مقابل سلطة إلهية صارمة غريبة عنه، فأوضح اتفاق جميع المذاهب الإسلامية أن الإنسان قد أودِع فِطرة تسمح له بالحكم على الخير والشر من الأعمال، وكان الخلاف فحسب في مقدرة هذه الفطرة على أن تأتي بالحكم السليم في كل ما يعرض لها، وكان رأي أهل السنة أن الفطرة تحتاج للوحي لتستنير به، وتزيل عن نفسها ما قد يعلق بها من مفسدات الفطرة، وحيث أن مصدر هذه القدرة الفطرية هو الله عز وجل، فإنه لا يُتصوَّر أن يتصادم الوحي مع الفطرة، وكان من أهم شروط إلزام الإنسان بالأخلاق هو تمتعه بحرية اختياره الأخلاقي، ولذا كان القرآن يوضح اتساق أوامره الشرعية مع العقل والحكمة والفطرة والعدل والاستقامة. أما الضمير الاجتماعي، فبعد أن ربط الإسلام أصل الأخلاق بحرية الاختيار، اعترف بدور للمجتمع والدليل على هذا هو تشريع الحدود والتعزيرات، وتشريع حق التعويض، فيلزم على كل من تسبب في ضرر لغيره أن يصلحه، حتى وإن كان عن غير قصد، وشرع مبادئ عامة تلزم الإنسان بقرارات السلطة التي تعنى بالصالح العام، بشرط ألّا تخالف باقي أوامر الإسلام، والقرآن وإن ذكر كل هذا، لا ينفك يذكر بالمصدر الأساس والذي تستمد منه الأخلاق شرعيتها وإلزامها للناس.
وأذكر بعض الفوائد العديدة التي خرجت بها من هذا الكتاب، فمنها ما جاء في باب الجزاء في تعريف الجزاء الخلقي وإيضاح تداخله مع الجزاء الحسي، وهذا على مرحلتي الجزاء، أي الجزاء الدنيوي العاجل، والجزاء الأخروي، فتأمل قوله عز وجل "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ"، فأحد النتائج العاجلة للأعمال هو التأثير على حالة القلب بخير أو بشر، وهكذا الأمر في الآخرة أيضًا، فرغم كثرة مظاهر الجزاء الحسي في الآخرة عن الدنيا، إلا أن الجانب الخلقي ما زال له الحظ الوافر، خاصة أن نوعي الجزاء متداخلان أكثر في الآخرة، فكان أكثر ما وُعِد أو هُدِّد به جزاء معنوي، فيقول الله عز وجل: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ"، والجزاء الحسي في الآخرة هو من باب آخر ليس من باب نعيم الدنيا، فهي لا تنغض من الصفاء الروحي للإنسان، فيقول الله عز وجل عن خمر الآخرة: "لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ"، يقول الطبري: لا في هذه الخمر غول، وهو أن تغتال عقولهم: يقول: "لا تذهب هذه الخمر بعقول شاربيها كما تذهب بها خمور أهل الدنيا إذا شربوها فأكثروا منها." عقب الدكتور على هذا كله بأن ناقش إن كان يصح أن توصف أخلاق الإسلام بأنها أخلاق نفعية إذ أنها تحث الناس على طلب جزاء الجنة والخوف من عذاب جهنم، وأجاب أن القرآن كان يذكر الناس دومًا بالعبودية الحقة لله عز وجل وأنها الأساس في استحقاق الأخلاق، وهذا الجزاء إنما هو تمام عدل الله وحكمته، وتذكير الناس هو دافع مهم – وإن كان ثانويًا لأصل العبودية – لأن همّة الإنسان تحتاج دومًا لهذا النوع من التذكرة أن الأخلاق تأتي بصلاح الدنيا والآخرة له.
أحد مميزات الأخلاق الإسلامية هي الشمولية، فكل إنسان وكل حالاته داخلة تحت نطاقها، ولا يعني هذا أن كل القواعد سارية على كل الناس باختلاف حالاتهم، بل أن كل عمل لا بد له من أصل في الأخلاق كي يصير مقبولًا، فإما تستحسنه صراحة، وإما تسكت عنه وتقبله، كما أن تغيير النية في الأعمال المسكوت عنها، يمكنها أن تغيرها إلى أعمال حسنة.
النية التي تحكم العمل الذي أقوم به وغايته نتيجة لمجموعة مؤثرات كثيرة فاعلة، وتغييرها ليس عملًا يسيرًا، وإنما يتطلب قدرًا من الفكر والعمل على مدة كي تتغير، ولذا لم يكن مجرّد حدوث علم بمسألة ما كافيًا لكي يتغير الواقع الإيماني، وإنما هناك جهد أكبر مطلوب من كثرة التفكر ودوام العمل كي يتغير الواقع الإيماني، والذي بدوره يؤثر على النية.
الكتاب عسير على التلخيص، فهو كتاب موسوعي عديد المسائل كما بدأت الكلام، ولا بد له من جلسة قراءة جديدة … رحم الله الدكتور محمد دراز وجزاه خير الجزاء عن عمله العظيم.