النيل والفرات: للفلسفة الإسلامية تاريخ حافل بأعلام أصحاب المذاهب الذين أنشأوا أنظمة فكرية استندت إلى التراث اليوناني من ناحية، وللتراث الفكري الإسلامي من ناحية أخرى ونتج عن هذا التأثير المزدوج مُركب فكري خاص ممتاز بالأصالة إذا ما قورن بسائر التيارات الفكرية في تاريخ الإنسانية. وفي هذا الكتاب يحاول الدكتور عبد الرحمن بدوي وضع دراسة شاملة هي بمثابة موازنة عامة لتقدير أصول هذه المذاهب الإسلامية وقد جاء الكتاب ضمن قسمين، تناول القسم الأول منه أهم مذهبين إسلاميين في علم الكلام، المعتزلة والأشاعرة، وقد حرص المؤلف أثناء العرض على الإكثار من إيراد نصوصهم بحروفها حتى يتسم العرض بالموضوعية التامة، وليكون بعيداً عن مبالغات التأويل واغتصاب المقارنات بالأفكار الحديثة، أما القسم الثاني فقد تناول سائر المذاهب الإسلامية ذات الأفكار الفلسفية حيث استعرض فيه المؤلف أهم التيارات الباطنية الرئيسية: الإسماعيلية، والقرامطة، والنصيرية، وما يجمع هذه الفرق كلها هو النزعة الباطنية وذلك من خلال تأويلها للنصوص تأويلاً باطناً يختلف عن المعنى الظاهر اختلافاً مغرقاً في التأويل، وقد توسع المؤلف في تاريخها السياسي على خلاف ما فعل في القسم الأول، لأن المذاهب الباطنية كانت أيديولوجيات أكثر منها مذاهب فكرية، والأيدلوجيات هي البطانة النظرية للحركات السياسية والاجتماعية ولا يزال هذا التاريخ السياسي لهذه الفرق الباطنية حياً حتى اليوم، رغم الضآلة العددية لمن ينتسبون إليها اليوم في أنحاء العالم، في لبنان وسوريا، وباكستان، والهند، وإيران وجاليات صغيرة هنا وهناك في شرقي أفريقيا وفي الأميركيتين، وقد اعتمد المؤلف في دراسته هذه على قدر ضخم من المخطوطات التي لم تنشر بعد. ملتزماً النزاهة التامة في العرض، معتمداً المنهج التاريخي الفيلولوجي المحض دون أن يتعرض للحكم لها أو عليها لأنه ليس لمؤرخ أن يتخذ موقفاً خاصاً أيديولوجيا بازائها، وإلاّ جانب الأمانة وحاد عن الموضوعية، وتلونت أحكامه بلون ميوله.
أحد أبرز أساتذة الفلسفة العرب في القرن العشرين وأغزرهم إنتاجا، إذ شملت أعماله أكثر من 150 كتابا تتوزع ما بين تحقيق وترجمة وتأليف، ويعتبره بعض المهتمين بالفلسفة من العرب أول فيلسوف وجودي مصري، وذلك لشده تأثره ببعض الوجوديين الأوروبيين وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر. أنهى شهادته الابتدائية في 1929 من مدرسة فارسكور ثم شهادته في الكفاءة عام 1932 من المدرسة السعيدية في الجيزة. وفي عام 1934 أنهى دراسة البكالوريا (صورة شهادة البكالوريا)، حيث حصل على الترتيب الثاني على مستوى مصر، من مدرسة السعيدية، وهي مدرسة إشتهر بأنها لأبناء الأثرياء والوجهاء. إلتحق بعدها بجامعة القاهرة، كلية الآداب، قسم الفلسفة، سنة 1934، وتم إبتعاثه إلى ألمانيا والنمسا أثناء دراسته، وعاد عام 1937 إلى القاهرة، ليحصل في مايو 1938 على الليسانس الممتازة من قسم الفلسفة. بعد إنهائه الدراسة تم تعينه في الجامعة كمعيد ولينهي بعد ذلك دراسة الماجستير ثم الدكتوراه عام 1944 من جامعة القاهرة، والتي كانت تسمى جامعة الملك فؤاد في ذلك الوقت. عنوان رسالة الدكتوراة الخاصة به كان: "الزمن الوجودي" التي علق عليها طه حسين أثناء مناقشته لها في 29 مايو 1944 قائلا: "أشاهد فيلسوفا مصريا للمرة الأولى". وناقش بها بدوي مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية والزمان الوجودي. [عدل] عمله الجامعي عين بعد حصوله على الدكتوراه مدرسا بقسم الفلسفة بكلية الاداب جامعة فؤاد في ابريل 1945 ثم صار أستاذا مساعدا في نفس القسم والكلية في يوليو سنة 1949. ترك جامعة القاهرة (فؤاد) في 19 سبتمبر 1950، ليقوم بإنشاء قسم الفلسفة في كلية الآداب في جامعة عين شمس، جامعة إبراهيم باشا سابقا، وفي يناير 1959 أصبح أستاذ كرسى. عمل مستشارا ثقافيا ومدير البعثة التعليمية في بيرن في سويسرا مارس 1956 - نوفمبر 1958 غادر إلى فرنسا 1962 بعد أن جردت ثورة 23 يوليو عائلته من أملاكها. وكان قد عمل كأستاذ زائر في العديد من الجامعات، (1947-1949) في الجامعات اللبنانية، (فبراير 1967 - مايو 1967) في معهد الدراسات الاسلامية في كلية الاداب، السوربون، بجامعة باريس، (1967 - 1973) في بالجامعة الليبية في بنغازى، ليبيا، (1973-1974) في كلية "الالهيات والعلوم الاسلامية" بجامعة طهران، طهران و(سبتمبر سنة 1974-1982) أستاذا للفلسفة المعاصرة والمنطق والاخلاق والتصوف في كلية الاداب، جامعة الكويت، الكويت. أستقر في نهاية الأمر في باريس
الكتاب يعرض أفكار المدارس الكلامية المذكورة في العنوان الفرعي، مع توسع بشكل أكبر بالنسبة للأشاعرة والمعتزلة. لاأظن الكتاب يناسب المبتدئ أو من أراد فكرة عامة عن علم الكلام؛ وذلك لأن بدوي اعتمد على الإسهاب والتطويل في عرضه، والإكثار من النقل من أعلام هذه الفرق، وأنا لا أقصد بالإسهاب هنا صفحة أو صفحتين، بل صفحات طوال، قد يصل إلى نقل رسالة بحيالها. ويكثر النقل من الكتب التاريخية لحد الملل والتشتت في كثير من الأحيان. ولا أبالغ لو قلت بأن أغلب الكتاب هو اقتباس ونقل من كتب أخرى، لكن بالطبع لايخلو الكتاب من ملاحظات وترجيحات وتلخيصات مفيدة كعادة بدوي.
بعض ما لخصته:
-يقول بدوي: "إن المذاهب الباطنية (الإسماعيلية والنصيرية في هذا الكتاب) كانت أيديولوجيات أكثر منها مذاهب فكرية، والأيديولوجيا هي البطانة النظرية للحركات السياسية والاجتماعية"ا -يذكر بأن علم الكلام في القرون الأربعة الأولى لم يكن مجرد دفاع ونصرة العقائد، بل كان علماً تحصيلياً. ويورد تعريف للتوحيدي (عاش في القرن الرابع الهجري) نستشف منه هذا المعنى. -لا يَقبل بدوي اختيار أستاذه مصطفى عبدالرازق في أصل تسمية علم الكلام بهذا الاسم، إذ يقول عبد الرازق أن التسمية أتت "ضد السكوت، والمتكلمون يقولون حيث ينبغي الصمت اقتداء بالصحابة والتابعين الذي سكتوا عن المسائل الاعتقادية" بل في الغالب أن التسمية أتت من بعد محنة خلق القرآن، لمّا كانت مسألة "الكلام الإلهي" أبرز وأكثر مسائل العلم إثارة للجدل. ويذكر بأنها بدأت تظهر عند الجاحظ (255).ا -دعوى اجتماع المعتزلة على أن الله سبحانه لا يغفر لمرتكبي الكبائر من غير توبة غير صحيحة؛ لأنه يوجد عدد من شيوخهم من أجازوا ذلك من غير توبة (محمد بن شبيب البصري- الصالحي – الخالدي).ا -يذكر عمرو بن عبيد أن جميع أهل القبلة يسمّون صاحب الكبيرة فاسقاً، أمّا الاختلاف فيقع فيما عدا ذلك: فالخوارج تسميه فاسقاً كافراً، والمرجئة تسميه مؤمناً فاسقاً والشيعة تسميه كافر نعمة فاسقاً والحسن البصري يسميه منافقاً فاسقاً؛ فالمعتزلة أخذوا بالمتفق عليه بين المسلمين وتركوا المختلف فيه. (ملاحظة تحتاج لفحص، خصوصاً أن عمرو بن عبيد معتزلي).ا -يقول بدوي بأن آراء واصل بن عطاء في الذات والصفات لم تكن ناضجة حينها؛ فلا تصح نسبتها إليه. -المؤلف يذكر بأن تسمية المعتزلة بهذا الاسم أتت لأنهم "اعتزلوا" الحكم بين الخلافات السياسية مع الصحابة. (لكن واصل يُفسّق أصحاب الجمل؛ فكيف نقول بأنه اعتزل؟ أم أنه يقصد معنى آخر؟) ا -المعتزلة يُلزمون من يقول بتفسير "وجه الله" بمعنى الله ذاته أن يقول بنفس قولهم في الصفات، أي أن الصفات هي عين الذات. -ما دفع أبا هذيل (المعتزلي، الذي يقول بخلق الإنسان لأفعاله) إلى القول بأن أهل الجنة وأهل النار لا يخلقون أفعالهم هو أن الآخرة دار جزاء لا دار تكليف؛ فلو كانوا مختارين لوجب أن يحاسبوا. -أبو هذيل يقول بالجزء الذي لا يتجزأ، بينما يخالفه النظام ويقول بأن الجزء تجزئته أبداً (وابن حزم يوافق النظّام).ا -القائل بالجزء الذي لا يتجزأ من الفلاسفة، يقول بأن لتجزئته غابة في الفعل، أما في القوة والإمكان فليس لتجزئته غاية. -النظّام كان يعيش في فقر مدقع، لدرجة أنه أكل الطين في مجاعة. -خالف الجاحظ من وافق النظّام في القول بالصرفة وأفرد مؤلفاً بعنوان "نظم القرآن". -الجُبّائي لا يخالف المعتزلة في القول بالمنزلة بين المنزلتين، لكن له تفرقة في معنى الإيمان لغة ومعنى الإيمان ديناً، فيُسمي الفاسق مؤمناً لغة لا ديناً حسب هذه التفرقة. -الجُبّائيان لم يُفضّلا أحد الخلفاء الأربعة على بعضهم. -عند أبو علي الجبّائي، الخلق هو التقدير، وعند ابنه، فعل الخلق إرادة وليس تصوراً. -يرى بدوي من كتابات عبد الجبار المعتزلي أنه قليل البضاعة في الفلسفة مع أنه كان يعيش في فترة كانت زاخرة بها. -أول من قال بالكسب هو ضرار بن عمرو، توفي في بداية القرن الثالث، قبل الأشعري. -المؤلّف يُرجّح بأن "رسالة في استحسان علم الكلام" المنسوبة للأشعري ليست من تأليفه، ويشكك أيضاً في نسبة "الإبانة" إليه. -الأشعري يَعيب على المعتزلة وضعهم حداً للإرادة الإلهية بناء على مقولاتهم، ويقول أن الله سبحانه "مريد لكل شيء يجوز أن يراد". وفي ملاحظة ذكية، يعلّق بدوي بأن قول الأشعري نفسه وضع حداً للإرادة عندما قال "يجوز أن يراد"!ا -نظرية الكسب تطورت وتغيّرت عند الباقلاني ثم عند الجويني، حتى أصبحت قريباً من مذهب المعتزلة عند الأخير (ص558).ا -لفظتا "نفسي" و"معنوي" المستعملة في تقسيم صفات الله تعالى عند الأشاعرة من إبداع الجويني. -دليل التمانع، أي التمانع بين إرادتي إلهين قديمين (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) "لا يصحّ على أصول المعتزلة لأنهم يقولون بحرية الإنسان في أفعاله؛ فالفعل مخلوق للعبد لا للرب؛ فلا شأن إذن لإرادة الرب في أفعال الإنسان، وبالتالي لا محل للكلام على التمانع بين إرادتي إلهين قديمين، لأن الإرادة التي يتوقف عليها الفعل الإنساني إرادة إنسانية حرّة لا تعلّق لإرادة إلهين أو أكثر بها". (ص729-730).ا -لازم معنى قول الجويني عند تطرّقه لتنزيل القرآن، أن جبريل نزّل المعنى والنبي قدّم اللفظ، وهو قول لم يسبق إليه كما يذكر بدوي ص734. -الفرق الباطنية (الإسماعيلية –القرامطة – النصيرية-البابكية) كلها تندرج تحت مذهب الشيعة باستثناء الأخيرة. -على نحو غير متوقع –بالنسبة لي على الأقل- لا يوافق بدوي المطاعن التي وجّهت لشخصية ابن سبأ ودوره في الفتنة (ص779-780 | ص783 | ص787).ا - عند السبأية: المهدي = هو علي نفسه. -لم يورد الأشعري في مقالات الإسلاميين ولا الباقلاني في تمهيده ولا البغدادي في الفَرق بين الفِرق عقيدة المهدي ضمن عقائد أهل السنة . -الكرماني ينفي شبهة التعطيل عن الإسماعيلية (ص973).ا -الإسماعيلية لا يقولون بالفيض بل بالإبداع (ص976).ا -من الشائع أن يُدرج إخوان الصفا من ضمن الإسماعيلية، وهذا غير صحيح ولا دقيق؛ فإخوان الصفا يسخرون من الإسماعيلية وولعهم بالعدد سبعة وينعتونهم بالـ"مُسبّعة"؛ فلا يمكن أن يكونوا منهم. - لا يُرجّح بدوي أن نصير الدين الطوسي اسماعيلي المذهب. -النُصيرية فرقة شيعية تؤله الإمام علي، ومن المفارقات أنهم يحبون ابن مُلجم (قاتل علي)، ويقولون "خلًص اللاهوت من الناسوت".ا -احتفال النصيرية بمولد المسيح لا يعني تأثرهم بالمسيحيّة بالضرورة (ص1213).ا -ابن تيمية لم يكن عنده علم دقيق بالنُصيّريّة.
لعلّ هذا الكتاب من أفضل ما قرأت في البحث عن علم الكلام وما جاء بمختلف المذاهب في الإسلام. يشرع الكاتب بالكلام تفصيلاً عن المعتزلة، فيخبرنا من مصادرهم عن عقائعدهم وأشهر مفكّريهم في شرحٍ مفصّل وعلميٍّ ودقيق. ثمّ يكمل ليصل إلى الأشاعرة والإسماعيليّة والقرامطة والنّصيريّة، فيصيب منهم ما أصاب سالفاً، وهذا حسن. إنّي لأحسبنّ مقدّمة هذا الكتاب من أفضل المقدّمات وأكثرها إيجازاً، فقد راق لي أسلوب الكاتب في الطرح والنّقاش عن أهمّ النقاط وأكثرها إثارة للشك. شرحه لتسمية علم الكلام كان مفصّلاً ومفيد، وكلامه عن عدد الفرق أعجبني، فهو علميّ ودقيق ومسند بمصادر موثوقة. هذا ما وجدّته أيضاً في كلّ الكتاب. في كلامه عن المعتزلة وغيرها، وجدّت وجوباً لمعرفة بعض الأسماء من قبل. كما وإنّ الكتاب لا يشرع في الأبواب بتراتبيّة زمنيّةٍ محدّدة ومفصّلة، مّما قد يصعّب القراءة على البعض. إستخدام الكاتب للجداول كان فعّالاً جدّاً وقد أفادني بكثرة. لا شكّ بأنّ هذا يعكس قدرة الكاتب الرائعة في الشرح وفهمه المعمّق للأفكار هنا. عليّ أن أثني بكثرةٍ على الكاتب بعلمه وأسلوبه في الشّرح، فقد كان رائعاً فعلاً. لعلّي أعاتبه بعض الشيء في إسترساله الشّديد في بعض المواضع الّتي كان من الممكن أن تكون أقل أهمّيّة من أمور أخرى كان أوجب له الكلام بها. فقد توسّع جدّاً في أمورٍ تاريخيّة وتفاصيل قد تبدو في خارج السّياق، تاركاً أبواب ذات أهمّيّة أكبر من دون نقاشٍ معمّق. كنت أحبّذ لو وجدّت نقاشاً أوسع في مذاهبٍ إسلاميّة تأثّرت بالفلسفة أكثر، وكنت أحبّذ لو خصّص باباً لهؤلاء الفلاسفة الإسلاميّين بدل الغوص جدّاً في أمور التّاريخ وغيرها. في الختام، أرى بأنّ هذا الكتاب هو تحديداً ما كنت أبحث عنه لفهم مختلف مذاهب الإسلاميّين وهو رائع ومفصّل. من المؤلم والمحزن لي بأن أرى الأمور التّافهة والسّخيفة الّتي اقتتل المسلمون عليها...
كاتب صفحتين عن حياديته ووضوحه وتدخل على الكتاب تلقاه بجهة والحيادية والوضوح بجهة :) أغلب الأفكار المطروحة منحازة وهذا واضح لكل ذي نظر، لكني اعطيته خمسة نجوم لأني كنت أبحث عن التسلسل التاريخي وتراجم رؤوس المذاهب وهذا ما وجدته وهو ما أجاده عبدالرحمن بدوي