كُتبت هذه السيرة في فترات متباعدة، تمتد من منتصف الثمانينات حتى منتصف التسعينات، في صيغة استجابات مختلفة وسياقات متنوعة: أجوبة على أسئلة في حوار، تعليق، مقال، مداخلة في ندوة، أو ذهاب ذاتي للبوح في صورة تأمل، يستبطن التجربة بآليات تتراوح بين الشكّ العنيف حيناً، والثقة المبالغ فيها حيناً آخر. وكنت كلما ثارت الأسئلة في داخل التجربة أو حولها، لجأت إلى محاورتها، بما يشبه التداعي الذاتي، مكتوباً في نص هنا أو نص هناك، ينشر بعضه، ويظل بعضه في ليل أوراقي، بشكل غامض من الاطمئنان بأن النص الشعري أكثر أهمية من الكلام النظري عليه.
لذلك، بقيت هذه السيرة في شتات من هواء الكتابة، متخفية، متماهية في رغبة النص الفاتنة في الذهاب إلى القارئ بريئاً من شهوة تبريره التي تنتاب الكاتب عادة، وإذا كانت هذه السيرة، بادية التفاوت، في درجة الانفعال والسبر والشعرية، فربما لأن الحياة هي أيضاً عرضة لمثل هذه الحالات المختلفة المتفاوتة.
وليس في نية هذه السيرة التقديم للنصوص الأخرى. وليست السيرة أيضاً طريق ملكية للكتابة يقترحها كاتب على قارئ.
هذه السيرة، إذن لا تأتي لتفسير ما تتهامش (أو تتقاطع) معه من النصوص الأخرى. وإذا صادف وتقاطعت بعض العناصر هنا أو بعض الإشارات هناك، فإنما يحدث هذا بفعل المصادفات الموضوعية، التي تستثيرها وتجترحها طبيعة المشاغل التي ينهمك فيها الشخص نصاً وحياة.
سيرة النص، هنا عبارة عن حوار ذاتي مع النفس، تتوق للاتصال بأرواح يؤرقها القلق ذاته، وتذهب إلى ذات الأفق، ولكنها تقدر، في الوقت نفسه، على العمل بأدوات وآليات مختلفة متنوعة ومتغايرة في كل تجربة وكل نص.
قاسم حداد شاعر معاصر من البحرين ولد في عام 1948 ، شارك في تأسيس (أسرة الأدباء والكتاب في البحرين) عام 1969. وشغل عدداً من المراكز القيادية في إدارتها. تولى رئاسة تحرير مجلة كلمات التي صدرت عام 1987 وهو عضو مؤسس في فرقة (مسرح أوال) ، ترجمت أشعاره إلى عدد من اللغات الأجنبية
ولد في البحرين عام 1948. تلقى تعليمه بمدارس البحرين حتى السنة الثانية ثانوي. التحق بالعمل في المكتبة العامة منذ عام 1968 حتى عام 1975 ثم عمل في إدارة الثقافة والفنون بوزارة الإعلام من عام 1980. شارك في تأسيس ( أسرة الأدباء والكتاب في البحرين ) عام 1969. شغل عدداً من المراكز القيادية في إدارتها. تولى رئاسة تحرير مجلة كلمات التي صدرت عام 1987 عضو مؤسس في فرقة (مسرح أوال) العام 1970. يكتب مقالاً أسبوعياً منذ بداية الثمانينات بعنوان (وقت للكتابة) ينشر في عدد من الصحافة العربية. كتبت عن تجربته الشعرية عدد من الأطروحات في الجامعات العربية والأجنبية، والدراسات النقدية بالصحف والدوريات العربية والأجنبية. ترجمت أشعاره إلى عدد من اللغات الأجنبية . متزوج ولديه ولدان وبنت (طفول - محمد - مهيار) وحفيدة واحدة (أمينة). حصل على إجازة التفرق للعمل الأدبي من طرف وزارة الإعلام نهاية عام 1997.
سرد ذاتي وأدبي للشاعر قاسم حداد يطوف فيه بين الشعر واللغة والإبداع والكتابة وحديث عن الشعراء والتجربة الشخصية والأعمال الأدبية متعة الكتابة والتعبير عما يدور في النفس في نصوص مرئية القدرة على قراءة النص واكتشاف خصوصيته وجمالياته والنصوص الإبداعية وارتباطها بالانسان والواقع والحياة
ليسَ بهذا الشّكل.. ولا بشكلٍ آخَر الكاتب: قاسم حداد. الناشر: مسارات للنشر والتوزيع (2018).
ليس عليك أن تكتُب بهذا الشّكل، ولا بأيِّ شكلٍ آخر؛ بل عليك أن تكتب فقط، محررًا قلمك من كلّ ثابتٍ يقيّده، طارحًا القداسَة عن كلّ الأشكال الأدبيّة الموروثة، سابحًا في فَلك اللُّغة؛ رفقة الموسيقى والإيقاع، غاضًا طرفك عن كل ما قد يعكِّر صفو إبداعك، وإن كان القارئ نفسه... هذا ما يقول به "قاسم حدّاد" في كتابه، بحوارٍ ذاتي جاء في نصوصٍ متفرّقة، يحاولُ من خلالها إعادة النّظر في مفهوم الكتابة؛ بتجاوز الأوهام المتّصلة بالتراث الأدبي، وما يفرضه من حدودٍ شكليّة للأنواع الأدبيّة وطرائق التّعبير؛ فيرى فيها حدًّا لعملية الكُتّاب الإبداعيّة، التي ينبغي أن تكون مفتوحةً أمامهم، لينطلق كلٌّ منهم في حقله الفني، ويعبّر بالشكل الذي يراه هو مناسبًا، لا غيره.
"يظل الشاعر مستغرقًا في حرِّياته، فليس لشكلٍ مسبقٍ سلطةٌ عليه. لستُ متعصبًا لطريقةٍ محددة في الكتابة، لأنني لا أثق في الأشكال".
فبِما أنّ كل الأشكال الفنِّية وضعها بشرٌ مثلنا؛ هذا يعني أنّ بشرًا آخرين يمكنهم أن يتمتّعوا بنفس الحق والحرية في تجاوزها واكتشاف آفاقٍ جديدة في كل تجرِبة وكل نص، وبتمتعنا بهذه الحرية ربما نحقق غايتنا من الكتابة؛ باعتبارها رغبةً في البَوْح الإنساني وتعبيرًا عن الذات، وليست تحقيقًا لنوعٍ فنّي محددًا بعينه، حسب رؤيته.
وقد فرض هذا التحرّر مسؤوليّاتٍ جديدة على الكتّاب، تكمن في (اللُّغة)، التي يحتفي بها قاسم معتبرًا أنه لن تُخلق الحالة الشعريّة وتتكون الصورة الفنّية بغير جماليّتها؛ فلا ينبغي أن نتوقف بإيقاعها عند بحور الخليل؛ التي ما استنبطها إلا من رُوح اللًّغة العربية وبُناها الصوتيّة، فما زال فيها من السِّحر ما لم يُستكشَف بعد، ولن يلامسهُ غير الشّعراء، بنسجهم لعلاقاتٍ جديدة بين الكلمات، فيمنحون القارئ بهذا تجرِبةً لن يصادف مثلها في غير الشِّعر. ويرى أنّ كل من يستهين بشأن اللُّغة في النّص، معتبرًا إيّاها ترفًا محضًا، وحاطًّا من شأنها؛ بحُجّة الوصول إلى القارئ فهو في الواقع يهين قارئه بركاكَته، وما يكتبه يمكن أن يكون أيّ شيءٍ غير أنه أدب. ويبلغُ احتفاءه بها -اللغة- إلى حدٍ يرى فيه أنّ ما سواها في النّص لا ينبغي الاكتراث به؛ وسيأتي عفويًا أثناء عمليّة الكتابة، على عكس ما تحتاجه هي من اهتمامٍ كثير؛ حتى تمتزج برُوح الشّاعر. "الشاعر لا يستطيع أن يحقِّق قدرته على الحضور الشعري خارج اللغة".
كانت لقاسم وجهات نظرٍ لم أتعرّض لمثلها قبلًا، وقد أثارت عجَبي حقًا، فمنها انتقاده للذين يزْدرُون الإنتاجات الأدبيّة الجديدة لحديثي العهد بالكتابة؛ قائلًا بأنّ في ذلك حدًّا من الإبداع، واستهانة بالطاقات الشبابيّة، ومصادرةً لفسحةِ التعبير الصّغيرة، من بين الفُسَح القليلة الممنوحة لنا في مجتمعنا العربي. ويرى أنه ما ينتقدهم إلا متمسّكٌ بموروثٍ يقدّسه، غير قادرٍ على رؤية الإبداع خارج إطاره. فعوضًا عن مهاجمتهم، ينبغي أن نتقبلهم برحابةٍ وحبٍّ ونمنحهم مساحةً يعبرون فيها ويبدعون.
الشاعر/ الكاتب والقارئ مكمّلان لبعضهما، فيَتبعُ الكتابة - القراءة، ومع أنّ هذا الكتاب موجّهٌ في عمومه لمن يمارس فعل الكتابة الإبداعية، إلا أنّه تعرّض لقارئها في مواضِع عدة، وتحديدًا في إطار علاقته بالكاتب، طارحًا مواضيعًا غايةً في الأهمّية، موسِّعًا في بعضها ومضيِّقًا في بعضها الآخر، مع تكرارٍ غير منقطع -تقريبًا- لأفكارِ الكِتاب الأساسيّة، بإضافاتٍ جديدة؛ أراها تعزّز من عمقها وفهمها لدى قارئها.
أثناء قراءتي، ظلّت فكرة أن الكاتب لا يخاطبني - باعتباري لستُ بكاتبة- مرافقةً لي، ما جعلني أرى أنني لم أتوصّل إلى عُمقِ فهم ما جاد به في كتابه، وأتمنى أن تشفع لي عنده محاولاتي الجادّة لذلك. ومن الغريب مع هذا أن أصف تجربتي معه بالــ(مثيرة)، إلا أنّها كانت هكذا حقًا، وأظن أن ذلك يرجع لوجهاتِ نظره المُغايِرة لما تقَوْلب عليه فكري، والتي جعلت من إعادة النّظر ضرورةً لا بُد منها.
كتاب آخر يجعلني أعيد النظر في إلزامي نفسي على إنهاء كل كتاب أبدؤه. ينتابني شعور بالنقمة عند مجاهدتي بتلك الصورة بدلاً من استثمار الوقت في قراءة أمتع وأنفع.
الكتاب عبارة عن هراء مصفف، يدعو لتجديد الشعر وهو أمر قد لا يعترض بعضنا عليه لو لم يكن خطابه في الكتاب هزيل جداً. يكفي هزالا دعمه الخطاب بالاحتجاج بما يكتبه والت ويتمان، يا رجل! تقابل العروض والخليل مع ويتمان وآلان پو ؟ أقرأت شعر ويتمان؟ وإن كنت مستاءً من تعصب الناس للمنهج النقدي القديم في الشعر العربي لماذا تلحّ على تسمية ما تكتبه شعراً؟ تخلَّ عن التسمية التي يتعصبون لها ويصونون مبادئها إن كانت قيود الشعر عندك لا تجاوز موسيقى تهرف عنها ولا يسمعها أحد سواك. ثم كيف تقدّم الشكل على المعنى ثم تدعو لإسقاط الشكل مع الوزن والقافية؟
بدا لي كمراهق؛ مهوس بفكرة التمرد والخروج على المألوف وهو يفتقر لأدوات الخروج حتى. مضيعة وقت ونشاز آمل أن لا أصادفه مستقبلاً.
أجمل ما قرأت لقاسم. شعرًا ونثرًا وكلّ شيء. أجده يصدر من جوفه إلى جوفي مباشرة. في عفويّة، عمق، استرسال، احتفاء باللغة وصراحة لا تطاق. كأني كنت جالسًا أستمع لبحة صوته تتدحرج من حنجرته إلى أذنيّ. لا بدّ لأي شاعر أن يمرّ على هذا، يصلّي لديه ما تيسّر ويولّي على أمّ دربه. غير مأسوف عليه.
كيف يأخذ النص شكلاً؟ ما الذي يمنح النص صفته وتصنيفه النوعي، حتى نقول عن هذه المادة قصة أو مسرحية أو قصيدة أو مقالة؟ في هذا الكتاب يفصل قاسم حداد في حوار ذاتي عن الكتابة ويقول: "ليس عليك أن تكتب بهذا الشكل، و لا بأي شكل آخر بل عليك أن تكتب محرراً قلمك من كل ثابت يقيده طارحا القداسة عن كل الأشكال الأدبية الموروثة، سابحاً في فلك اللغة". هذا الكتاب ضروري لكل كاتب.
هذا الكتاب قرأته قبل عامين تقريبا،مساء اليوم مررت على الكثير من مقتطفاته،بشكل عام تروق لي كتابات قاسم حداد كثيرا،هو الكاتب الذي أعود لقراءة كتبه لأكثر من مرة..له صياغة غريبة للكلمات ،ربطها،فلسفتها العميقة المعقدة والبسيطة،،قاسم حداد دائما يتأرجح بين البحر والسماءليصوغ العالم في مسرحٍ كبير في لحظة كتابة!ـ الكتابة حياة بالنسبة له..متلازمة الموت ترافقه حين لايسير في طريق الكتابة ..يقول في إحدى كتاباته(تأخذ الكتابة صاحبها إلى المهالك.../الكتابة في الحياة ضربٌ من الدفاع عن النفس)ـ يقدس قاسم (النص )كثيرا..فالنص ليس شيء عابر إنما يجب أن تقف عنده وتسبر أغواره..فللقراءة كما للكتابة حقها (إننا لا نقرأ النص الأدبي لكي نفهم بعضنا يأتي مدججاً برغبة المعرفة، كما لو أنه مقبل على جامع أفكار ، لكننا نقرأه لكي نقع في نشوة الإتصال بالآخر،)ـ وأيضا(لماذا لا نرى الى النص الأدبي بإعتباره الصديق الجديد الذي يتوق الى قرين لا أكثر ولا أقل. (بعضنا يرى الأصدقاء بوصفهم مراجع ، في حين من الأجمل أن نعتبرهم ملاجيء) . النص هو أيضاً ملجأ أرواح . )ـ جميلٌ هذا الكتاب جدا..بشكل أو بآخر،،مواضيع منفصلة..تربط بينها أحيانا وأنت تنتقل من مقال إلى مقال..لكن تجد قاسم يحمل ذات الإيمان والقناعة في كل مرة..أنت لاتقرأه بل تشعر به يتحدث..وأظن أن هذا ماكان يعنيه قاسم عن كيفية الإتصال بالآخر.ـ
أخيرا وقفة جميلة لقاسم : ثمة تناقضٌ يكتمل بين أشياء الحياة ، تناقضٌ لا ينبغي إصلاحه ، على العكس، يتوجب احتضانه وتأجيجه، تكريماً للحياة .
قاسم العرّاب ، كما يطيب للصديق وليد السبيعي أن يسميه ، عرّاب الشعر واللغة . تجده هنا لا يكتب .. بل يدك أوثان الكتابة ومقدساته بمطرقته الشعرية ، يشدك من يديك لتغور معه في عمق التجربة والأشكال الأدبية .
في الجزء الأعظم من الكتاب سيبدو لك قاسم كالرفيق الثائر الذي يقاسمك ثورته وهواجسه ، سيشعرك في بعض المواضع بأنه يدعوك أن تتمرد عليه أيضا إن استدعى الأمر . وسيتوقف هذا الشعور تحديدًا عند إضاءته / نصه الأخير "موسيقى الكتابة" ، والذي تم اقحامه في النسخة الأخيرة من الكتاب بعد ٢٠ عام تقريبًا . سيتجلى لك قاسم الأب ، المحافظ ، الحكيم ، الوجل ، حيث فزعه على اللغة ، والنصوص ، والشاعر ، والقارئ ، والأشكال ، والموسيقى ، والإرث العربي وأشياء أخرى لا يصرح بها . الخاتمة التي تعيدك للسطح مجددًا .. تجردك من اللا نهائية الشعرية ، تصنع حولك الحدود على استحياء .. و وثن حداثة صغير .