فى هذا الكتاب المهم يجمع المازنى عددًا من أهم مقالاته التى تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، ورأيه فى أزمة كتاب «فى الشعر الجاهلى» لطه حسين. كما يتناول موضوعات أخرى متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، ويحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة فى حياته وذلك كله بأسلوبه الممتع ونقده اللاذع وأسلوبه الصحفى الساخر
إبراهيم عبد القادر المازني، شاعر وناقد وصحفي وكاتب روائي مصري من شعراء العصر الحديث، عرف كواحد من كبار الكتاب في عصره كما عرف بأسلوبه الساخر سواء في الكتابة الأدبية أو الشعر واستطاع أن يلمع على الرغم من وجود العديد من الكتاب والشعراء الفطاحل حيث تمكن من أن يوجد لنفسه مكانًا بجوارهم، على الرغم من اتجاهه المختلف ومفهومه الجديد للأدب، فقد جمعت ثقافته بين التراث العربي والأدب الإنجليزي كغيره من شعراء مدرسة الديوان.
حيا الله المازني لو صحت للأموات التحية. لم أجد حدًا لمعنى الأدب في نفسه وإن أذلها هو على عادته، كلما ارتقت للسماء تعلق بحبالها يهوي بها في جُبٍ سحيق حتى يغيبها، فلا تشهد في كُتَّاب ذلك الجيل كاتبًا تقلبه عاطفته وتطير به في عنفوان أقرب للفوضى منه للتوجيه مثلما تجد في أحرف المازني، ثم لا تلبث أن تستقر تلك الفوضى لبنةً في أساس يقوم على مادتها خلقٌ أدبي كأكمل ما يكون الخلق. وماذا تأمل من رجل أناخ رحاله بين حديّ الدنيا، صحراء يرى فيها معنى الأبدية تحط من أمله في أن يغير قلمه شيئًا، وقبر يكسر فيه بنيان الخلود الذي يبعثه الإبداع في كل نفس خلاقة، وبرغم أنف حياته وأدبه بل وذاته يأبى إلا أن يكون المازني.
المازني أسلوبه محبب إلى النفس، أحب قراءة ما يكتبه والجري خلفه في أي ميدان من ميادين القول، وهو في هذا الكتاب يتنوّع، يتحدث عن ذاته وعن الكتب وعن المشاعر الإنسانية وعن أثر العمى في الغريزة النوعية ويضرب مثلا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، والقليل من المقالات الفلسفية، ويتحدث عن طه حسين في كتابه (حديث الأربعاء) بشكل ساخر، وينقده، ولكن ليس النقد – في الحقيقة – قاسيًا كما يزعم لكي يعتذر بين سطرٍ والآخر إلى صديقه طه حسين، لدرجة أنه في سبيل عرض نقده للكتاب ابتدأ المقال بأهمية النقد وعرج على معرفته بطه حسين ثم كتب بأسلوبه الفاتن هذه القطعة:
ولا أكتم القراء إني صرتُ أؤمن بأن لكل منا شيطانًا، وأحسب شيطاني من أخبث الشياطين، فإنه يزج بي في مآزق لا أرضاها لنفسي لو كان الأمر لي، وإن على مكتي لأكثر من خمسة عشر كتابًا أستطيع أن أتناولها بما شئت من النقد وأنا آمن أن ألقى أصحابها إذ كنت لا أعرفهم، ولكن شيطاني الخبيث ظل يخايلني بكتاب الدكتور حتى أخرجته من بين أخواته وقلت له: (تعال يا هذا!)، وأخذت أقلب صفحاته كما يفعل المرء بالخروف يريد أن يشتريه لعيد الأضحى!، والحق أقول أنه أعجبني!، وأنا ألقى الدكتور كل يوم وأحادثه أكثر مما أحادث نفسي، ولكم قلت لنفسي وهو لا يدري (لا يا شيخ!، دع كتاب الدكتور إلى سواه، فإن للزمالة حقًا واجب الرعاية وستخجل أن تلقاه بوجهك هذا إذا نقدته) .. إلى أخره
بعد هذا كله فأن كل نقد المازني لطه حسين في كتاب حديث الأربعاء هو نقد ثانوي في مسائل ثانوية لا تمس الجوهر، ومن بين كل ما قرأت في نقد كتابات طه حسين فأن نقد المازني هو ألطفها نفسًا، ولكن في مقالة أخرى عن كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين، يستعجل بشدة في إنهاء تقريظه وإعجابه بالكتاب وأنه يعتبر فتحًا جديدًا وأفقًا لم يستكشف بعد (لم يصل إليه فيما يبدو – رغم ثقافته الإنجليزية الرفيعة - رأي القائلين بأن طه حسين كان مجرد مقلّد وتابع للمستشرقين في هذه الناحية) ثم أشار في مقالته إلى بعض التنبيهات البسيطة التي لا تعتبر حقًا من صميم النقد، ويأتي في آخر المقال ويكتب هذا النقد السريع:
وقد أطلنا جدًا والصحيفة لا تتسع للإفاضة، ولذلك نختم كلامنا بأن الباب الثالث من الكتاب أشبه بتخبط الطلبة منه بأبحاث الأساتذة، فليته استغنى عنه، وأن الدكتور ليحسن جدًا إلى نفسه إذا تحاشى الخروج من النقد العام الذي يسهل مع التحصيل إلى النقد التطبيقي أو الدراسات الفردية
!! أحببت المازني قاصًا وشاعرًا ومعبرًا عن خلجات الذات، ولم أرتح له هو يرتدي عباءة النقد، وخاصة إذا تعرض لنقد صديق يحدثه أكثر مما يحادث نفسه كما قال!
الكتاب مجموعة مقالات متفرقة عن الأدب والحياة .. أعجبني بعضها .
تتكلم المقالات عن حياة المازني رحمه الله، ففي المقال الأول تكلَّم عن الكتابة في عالمِه .. ومما لفتني قوله أنه حين يكتب المقالات تتداخله الأفكار فيتناول من كل بحرٍ قطرة مما يُعجِزه عن اختزال المقال بعنوان محدد لذا يطلب مساعدة الأديب الرافعي ليضع هو ما يوافقه من العناوين :)
كما ذكر المازني وجهة نظره التي يخالف بها طه حسين حول قيمة الشعر، فطه حسين يرى جمال شعر أبو نواس رغم مجونه، بينما يقول المازني أن الشعر أساسه صحة الإدراك الخُلُقي والأدبي، وعلى قدر نصيب الشاعر من هذه الصحة تكون قيمة شعره.
ولفتني في المقال الذي يتحدث عن بشار بن برد والمعري نظرتهم التي تستنقص المرأة بشكل غريب، والأغرب أن أن المعري يرى أن المرأة بشكل عام ليس لديها رادع ذاتي عن الفساد، فيقول مثلاً : (ألا إن النساء حبال غيٍّ ، بهن يضيع الشرف التليد ) .
وهنا بعض الاقتباسات من الكتاب :
* " العين لا تشبع من النظر ، والأذن لا تمتلئ من السمع ".
* " عملت لنفسي جناتٍ وفراديس غرست فيها أحلاماً من طل نوع ثمر ، وهذا كان نصيبي من كل تعبي ، قبض الريح ! زرعت حصىً في أرض صفوان وهذا حصادي وقبضت الريح من كل تعبي تحت الشمس وهأنذا أؤديها إلى القارئ وأطلقها عليه كما تلقيتها، وقد خرجت كما سيخرج القارئ وكما سنخرج جميعاً من هذه الدنيا، وليس في يدي شيء !" .
* " مضت شهور لم أكتب فيها كلمةً في الأدب، لأني كنت أقرأ! والقراءة والكتابة عندي نقيضان، وقد كنت وما زلت امرءاً يتعذر عليه أن يجمع بينهما في فترةٍ واحدة ".
* " وكثيراً ما يدفعني إلى الكتابة إحساسٌ غامض إلا أنه من القوة بحيث لا يسعني مغالبته فأتناول القلم، وأنا كالمسحور، وكأن القلم هو الذي يثب إلى يدي، وأُسرع في الكتابة وأمضي فيها إلى غايتها المقدورة ".
* " و كانت الكتب أنيسي في وحدتي و سميري في خلوتي، وكنت أستغني بها عن مُتع الحياة ولذات العيش " .
* " الكتب تسد النقص في تجارب المرء " .
* " فإن لي شريكةً تحبني، وإني لأراها الآن بعين الخيال مطلةً من النافذة منتظرةً أوبتي إلى وكرها ومشتاقةً رجعتي إلى عشها " .
* " كانت أدوار النساء في عصر سقراط يؤديها الرجال، فعاب عليهم ذلك وزجر الشبان الشرفاء عن محاكاة المرأة، وأما أدوار الرجال فليس يجوز في رأي سقراط لممثلها تقليد الأرقاء أو الجبناء أو غيرهم من الناس حين يشتم بعضهم بعضاً أو يركبه بالمجون أو حين ينطقون بالبذاء والفحش " .
"زرعت حصى في أرض صفوان وهذا حصادي وقبضت الريح من كل تعبي تحت الشمس وهٰأنذا أؤديها إلى القارئ وأطلقها عليه كما تلقيتها لو يقنع الطالب المدلّ! وقد خرجت كما سيخرج القارئ وكما سنخرج جميعاً من هذه الدنيا، وليس في يدي شيء."
جمع المازني مقالات هذا الكتاب ونشرها في العام الذي تلا نشره «لحصاد هشيمه»، أي عام 1925م، ومعظمها-فيما أظن-كانت المقالات التي كتبها لجريدة «الاتحاد». ولما كانت قراءتي لكل من الكتابين «حصاد الهشيم» «وقبض الريح» في مدة واحدة تقريباً، اتضحت لي فروق بينهما رغم كتابة مقالات الكتابين في عامين متعاقبين؛ إذ لا يتوقع من كاتب أن يغير أسلوبه في عامين.. ولكن المازني غيّر عن عمد، فلماذا؟
من تلك الفروق بين الكتابين قصد الجزالة وقوة التعبير في «حصاد الهشيم». كأنما الكاتب أحد أبطال كمال الأجسام الذي ينفخون عضلاتهم وأبدانهم لا طلباً للعافية وشدة الأيد وحدهما، بل ليبرزوها ويستعرضوا بها. وربما استدعى ذلك من المازني أنه أذاع في الكتاب عدداً من الآراء الجامحة والجديدة، فكان كأنما يستطيل ببيانه ليقيَ آراءه سهام الاعتراض والتفنيد. وهذا بإزاء لغة ميسورة في «قبض الريح» بل وفيها شيء من التسمح واستيراد الألفاظ العامية والاستعارة من المجازات الأجنبية، وربما أن المازني بعد «حصاد الهشيم» لمزته في أسلوبه بعض الأقاويل التي لا تعجبه-وإن زعم لنا أنه لا يحفل بها- ومن تلك الأقاويل التي وقفت عليها رأي لإسماعيل مظهر محرر مجلة «العصور» يقول ما فحواه أن المازني من الكتّاب الذي يولون من العناية للفط فوق ما يولون للفكرة، بل إنك تشعر بعد قراءة «حصاد الهشيم» أنك لم تخرج منه بفكرة واحدة-وأظنه استثنى مقالات ابن الرومي-وأنا مع إعجابي بالحصاد أوافق إسماعيل مظهر، ولعل المازني أحس بهذا النقد فصار في «قبض الريح» أكثر عناية بالفكرة، حتى أنه حاول أن يتفلسف ويبحث ويناقش في الفكر مُكرهاً نفسه على ذلك. أجل، وربما حمل المازني على التسامح في لفظه أيضاً كتابته عدداً من القصص في هذا الكتاب، أعني «قبض الريح»، وقد خلا الحصاد من القصة تماماً، وهذه إحدى تلك الفروق بين الكتابين. والقصة، بل السرد في الأخص، كما هو معلوم لا يجوز إلا أن يكون رشيقاً سهلاً كي يمضي معه القارئ ولا يسأمه.
ختاماً أقول: من اشتهت نفسه عبارة البيان العالي وجزالة الأسلوب القوي وجو النقد الساخن فليقرأ «حصاد الهشيم». ومن أحب أن يخلد إلى الأفكار الطريفة والأفاكيه الساخرة والأقاصيص الشائقة، مع الاستمتاع بنقد مخصص لطه حسين وحده-ولكنه نقد منزوع الأشواك-من أحب هذا فليقرأ «قبض الريح».
لم يكن المازني – شأنه شأن الكثيرين – بغافل عن سبل النجاح في هذه الحياة التي لاتعرف الرفق ولا تسكن الى الملاينة ولكنه " الحياء " تلك الخصلة التي تتولد في من رزق دينا قيما وخلقا كريما ونفسا عفيفة وروحا سامية يقول المازني في حصاد الهشيم : ان الحياء شئ حسن له فضله ومزيته ولكنه على ذلك ، ثوب يحسن ان يخلعه المرء اذا شاء ان يفوز بحقه ويظفر بما هو أهل له ، فقد تكون اقوى الناس استعدادا واكثرهم مواهب وملكات واقدرهم على الاضطلاع بالاعباء والقيام بخطيرات الامور وجلائل المساعي ، ويحرمك الحياء ان تجني ثمرة تعبك وزهرة غرسك ، وليس للخجل معنى في الحياة او نتيجة الا ان الناس يملأون بطونهم وأنت جائع ويدخلون وانت واقف بالباب ويتقدمونك وانت متردد ، ةاعلم انك اذا أنزلت نفسك دون المنزلة التي تستحقها لم يرفعك الناس اليها ، بل اغلب الظن انهم يدفعونك عما دونها ايضا ويزحزونك الى ما وراءها .
قبض الريح من اعمال المازنى الاولى. كتاب متوسط المستوى يضم قليل من المقالات القصصية وكثير من المقالات النقدية. بالنسبة للاولى لم تكن المقالات بمستوى واحد فمنها الجيد ومنها السيىء. وبالنسبة للثانية لا اميل لقراءة مقالات نقدية لكتب لم أقرأها وخاصة ان كانت شعرية. ملاحظة(أقل كتابات المازنى هى كتاباتة الاولى)
«زرعت حصى في أرض صفوان وهذا حصادي، وقبضت الريح من كل تعبي تحت الشمس وهانذا أؤديها إلى القارئ، وأطلقها عليه كما تلقيتها، لو يقنع الطالب المُدِلّ، وقد خرجت كما سيخرج القارئ، وكما سنخرج جميعًا من هذه الدنيا وليس في يدي شيء. إبراهيم عبدالقادر المازني سبتمبر ١٩٢٧» المقدمة.
نشر الكتاب وعمره كان ٣٧ سنة. الكتاب -كغالب كتب المازني- مقالاتٌ مجموعة، وفي قبض الريح ٢٤ مقالة وقصيدة عنوانها (هاتف من جانب القبر):، بعضها في النقد، وبعضها قصص قصيرة، وبعضها عامة في مجالات الحياة كما يقولون. تريدها بالضبط؟ احسب معي: ١٠ مقالات نقدية، نقد فيها متابَيْ طه حسين: حديث الأربعاء، وفي الشعر الجاهلي. وتحدث عن نشأة الشعر، والشعراء العميان كيف يكتبون الشعر. ٤ قصص قصيرة، ليلة بين الصحراء والمقابر، وسرّ غرفة أم وحي صورة (هذه عظيمة) ولولو (عن شاب عاشق)، وبين السماء والأرض. ١٠ مقالة منوعة، منها: ليلة، وقد سجلتها ونشرتها على قناتي في اليوتيوب (مداك العروس)، وهي وصف لليلة موسيقية حضرها المازني وغنى فيها محمد عبدالوهاب. ومقالة أخرى عنوانها (إيحاء التمثيل) وهذه عن التمثيل والممثلين وتأثير تمثيلهم للشخصيات على شخصياتهم الحقيقية، مقالة فلسفية عجيبة. والقصيدة مطلعها: جمالَك، لا تأسفْ عليّ ولا تأسى فإنّي تحت الأرض لا أحفل الحَبْسا - اقتباسات: •ولقد يُخيَّلُ إليّ في بعض الأحايين أن في نفسي معنى معيّنًا، ويؤكدُ ذلك عندي ويُقرر اعتقاديه؛ ما أحسّهُ من جَيَشانِ الصّدرِ واضطرابِه، فأذهب ألتمسُ هذا المعنى أو الخاطر فإذا به قد تبخّر! (بين القراءة والكتابة ص١٢) •أيّما رجل زعمَ نفسَه كاتبًا أديبًا وخلا كلامُه من عناصر الجمال فقل له: لستَ به.(نظرةٌ أولى في كتاب حديث الأربعاء ص٣٥) •ولو كان المرء يموتُ مرةً واحدةً لقلتُ لك صدقت، ولكنّه يموت مرةً كلما نسيَه واحد من الأحياء، ويشتمل عليه الفناءُ شيئًا فشيئًا.(ليلة بين الصحراء والمقابر ص١١٣) •والتقت شفتاهما في قبلة طويلة، ثم تناولت خدّيه بين راحتَيْها، وقالت: دعني أذهب الآن. ولكنه ضمّها وهو يقول: أدعك؟ كلا! أنا أيضًا أخشى أن تتسرّبي في الهواء إذا تركتك.(بين السماء والأرض ص١٩٧)
للمَازني- رحمه الله - أسلوب سهل ممتنع كما قال الشيخ علي الطنطاوي قل أن تقرأ لمثله من أدباء العرب، أسلوب سهل وممتع و ساخر حتى مواضيع مقالاته ممتعة! كتاب خفيف ولطيف ومثري
في كتاب «قبض الريح»، لا يروي المازني حكاية بعينها، بل يطارد المعنى الهارب من لحظة إلى لحظة، كما لو أنه يمسك بالهواء ليُفصح عن جوهره. هو كتاب يتنكر لحدوده، فيبدو حينًا سيرة ذاتية، وحينًا مقالة فكرية، وحينًا أدب اعتراف، لكنه في حقيقته مزيج داخلي حيّ من الأسى والفكاهة والتأمل، كأن الكاتب يخاطب نفسه بقدر ما يخاطب القارئ.
يكتب المازني بنبرة من عرف الحياة وخَبِر طعناتها، يتأملها من زاوية ساخرٍ حزينٍ، يرى أن الإنسان، مهما حاول، لا يملك إلا أن “يقبض الريح” حين يسعى خلف المجد أو اليقين أو الحب أو حتى الفهم. يتحدث عن الشعراء، وعن الأعمى الذي رأى أبعد من المبصرين، عن الأديب الذي تشغله السوق، وعن المجتمع الذي لا يرحم من يختلف. ووسط كل ذلك، لا يتوقف عن طرح الأسئلة: ما قيمة الأدب؟ ما جدوى المعرفة؟ هل نكتب لنهرب أم لنفهم؟
يمضي المازني في كتابه وكأنه يمشي في سوق مزدحمة، يلتقط منها النبرة والملامح والضحكة العابرة، ليعيد صوغها بحبر الفكر ومِداد القلب. لغته ناصعة، محملة بالسخرية الرشيقة، لكنه لا يخدعنا بخفة ظله، إذ ما يقدّمه ليس مجرد طُرفة، بل تأمّل ثقيل في خفّة الحياة.
في النهاية، «قبض الريح» ليس مجرد كتاب، بل وثيقة نفسٍ تبحث عن المعنى في عالم لا يكفّ عن التبدد. إنه أدب الصدق والقلق، أدب الإنسان حين يجلس وحيدًا، متأمّلًا، في لحظة يمرّ فيها العمر كما تمرّ الريح… دون أن يُمسك بها.
مقالات في الأدب والنقد، كتبها الكاتب الساخر المتفنن/ ابراهيم عبد القادر المازني. أحد الكتّاب الذين اثروا ذائقة القارئ العربي شطرًا من الزمن. ولا زالت كتاباتهم متداولة ومتجدده بتجدد الزمان.
لماذا سمى المازني كتابه (قبض الريح) ؟ يقول محمد مندور: المازني قد كان من بين القلائل الذين تأثَّروا — وهم من المسلمين — تأثُّرًا كبيرًا بالكِتاب المقدس، وبخاصة بالعهد القديم منه، وألفاظ «حصاد الهشيم» و«قبض الروح» مأخوذة من هذا الكتاب، إذ وَرَدَتْ في سِفْر الجامعة، وهو سِفْر مليء بالتشاؤم والسخط على الحياة والتبرُّم بها، واعتبار كل ما فيها باطلًا، وقَبضُ ريح، أي أن الذي يحاول القبض على الحياة أو يحاول نيل غايته منها، حاله كحال من يحاول أن يقبض على الريح!
وقد أثر هذا الكتاب على كثيرٍ مما كتبه المازني عن نفسه أو عن الحياة أو عن الناس، وتأثَّر به أَعْمَقَ التأثُّر، والراجح أن الذي وَجَّهَهُ نحو الكتاب المقدس، هو ما طَالَعَهُ في كتابٍ لفيكتور هيجو يتحدَّث فيه عن شكسبير ويستعرض كبار العباقرة في الشعر والأدب، فيذكر هومير وفرجيل، ثم أيوب الذي يُعْزَى إليه السِّفر المسمى باسمه «من العهد القديم»، فتطلعَتْ نَفْسُه المُولَعة بالقراءة واستكشاف المجهول إلى قراءة هذا الكتاب كله، وإذا به يستكشف كنوزه، ويتمثل روائعه، وإذا بهذه الكنوز والروائع لا تتضح في فلسفته فحسب، بل ويتخذ منها باقات يزين بها الكثير من كتاباته. انتهى.
يحتوي الكتاب على سته وعشرين مقالاً، ما بين الكتابة والقراءة والنقد. فيتحدث عن مشكلة عانى منها كث��رًا وهي أنه لا يستطيع أن يجمع ما بين الكتابة والقراءة في وقتٍ واحد! وقد فكر كثيرًا في هذا الأمر فأعياه طول التفكير، فلم يفتح الله عليه بتعليلٍ يستريح إليه. فيقول: أن الله قد خلقني على طراز «عربات الرش»! التي تتخذها مصلحة التنظيم — خزان ضخم يمتلىء ليفرغ، ويفرغ ليمتلىء! وكذلك أنا فيما أرى: أحس الفراغ في رأسي، وما أكثر ما أحس ذلك! فأسرع إلى الكتب ألتهم ما فيها وأحشو بها دماغي حتى إذا شعرت بالكظة، وضايقني الامتلاء، رفعت يدي عن ألوان هذا الغذاء وقمت عنه متثاقلاً متثائبًا مشفقًا من التخمة، فلا ينجيني إلا أن أفتح الثقوب وأسح؟! وهكذا دواليك!
أما مقالاتُ النقدِ فكانت جلها أو كلها موجهةٌ لعميد الأدب طه حسين، ففي احدى المقالات التي عنوانها كتاب «حديث الأربعاء»، تحدث المازني عن أسلوب طه حسين في الكتابة، أسلوبٌ يغرى بالتكرير والإعادة إلى حدٍ ما، كما هو الشأن في الخطابة. فأسلوب الدكتور طه خطابيًّا، أو قل إن الصبغة الخطابية فيه أغلب من الصبغة الكتابية.. ومن شاء أن يكون منصفًا وأن يوفي كتابة الدكتور حقها ولا يعدو بها مكانها فلينظر إليها بهذه العين وليزنها بما توزن به الخطابة لا بما تقدر به الكتابة.
«إذن أنا أخرجها من عالم الكتابة! نعم! ولا أراها إلا خطبًا مدونة. ولست أريد أن أقف حتى هنا، بل أزيد على ذلك وأضيف إليه أنها خلت من مزايا الفنين جميعًا! فأما مزايا الكتابة فقد عطلت منها لأن صاحبها يمليها إملاء ثم لا يعود إليها بتنقيح أو تهذيب، ولو أنه كان يتعهدها بعد أن يمليها بشيء من الإصلاح لخلت على الأرجح من أكثر ما فيها من التكرير ولعولج بعض ما يعتورها من العيوب، ولكنه لا يفعل.
المازني ليس من أولئك الذين يلقون الكلام على عواهنه، فانظر إلى ما وصل إليه من حسن التعليل في شأن طه حسين!
فيقول:«ولا شك في أن أظهر عيب في مقالات الدكتور هو التكرار والحشو وما هو منهما بسبيل. وعندنا أن علة ذلك ليست فقط أنه يملى ولا يراجع ما يملى بل الأمر يرجع في اعتقادنا إلى سببين جوهريين، أولهما أن ما أصيب به في حياته من فقد بصره كان له تأثير لا نستطيع أن نقدر كل مداه، في الأسلوب الذي يتناول به موضوعاته، وفى طريقة العبارة عن معانيه وأغراضه. ولسنا نتحرج أن نذكر ذلك، فإنه أعرف بنا من أن يشك في عطفنا، بل نحن أعلى به عينًا وأسمى تقديرًا من أن نعتقد أن به حاجة إلى هذا العطف. وليس يخفى أن المرء إذا حيل بينه وبين المرئيات ضعف أثرها في نفسه، ولم تعد الكلمة الواحدة تغنى في إحضار الصورة المقصودة إلى ذهنه بالسرعة والقوة الكافيتين، فلا يسعه فيما نعتقد إلا الإسهاب ومحاولة الإحاطة ومعالجة الاستقصاء والتصفية.
«وثاني هذين السببين أنه أستاذ مدرس وقد طال عهده بذلك. والتعليم مهنة تعود المشتغل بها التبسط في الإيضاح والإطناب في الشرح، والتكرير أيضًا، بل تفعل ما هو شر من ذلك: وأعنى أنها تدفع المرء عن الأغوار والأعماق إلى السطوح. وبعبارة أجلى تضطر المدرس إلى أن يجتنب التعمق والغوص، وأن يكتفى — ما وسعه الاكتفاء — بما لا عسر في فهمه ولا عناء في تلقيه. وتلك آفة التدريس، ولولا أنى أعرف كلفه به وإقباله عليه وهشه له، لدعوت له الله أن يريحه منه كما أراحني».
قال المازني: وهنا صرف الله عنى السوء وأذهب عنى الشيطان فوضعت القلم وأنا أحمد الله أن لم يستكتبني إلا هذا التحليل البريء.. هذه مقالة واحدة وفي الكتاب بقية.
هناك مقالة بعنوان متاعب الطريق، أوصي بقراءتها جيدًا، خصوصًا لمن ينشد طريق الأدب. ومقالةٌ آخرى بعنوان: مجالسة الكتب ومجالسة الناس. ففي هاتين المقالتين سلوان القارئ والكاتب.
انصح بقراءة هذا الكتاب؛وكل كتب المازني. من كان مشتغلًا بفن الكتابة، ومن أراد أن يجود عبارته ويجعلها سهلةً ممتنعة. أنصحه بأن يعكف على قراءة كتب هذا المتفنن، فلعله مع المداومة وكثرة النظر؛ أن تتلبس روحه من مسِّ هذا الأديب.. 😁
الكتاب ينسج على نفس منوال كتابه السابق "حصاد الهشيم" من حيث تعدد الموضوعات التي يتناولها وقِصر الفصول. خصّص بعضًا من الفصول الأولى لنقد أسلوب طه حسين وكتاباته. ومن أكثر الفصول التي أعجبتني كان الفصل الأخير الذي أفرده لتأييد الدكتور طه حسين فيما ذهب إليه في كتابه "في الشعر الجاهلي"، وإن كان الأسلوب قد أشكَل عليَّ في بعض الأحيان.
أعجبني الكتاب، مع أنه كان هناك أجزاء لم أفهمها. أفكار المازني مضحكة و تجعلك تفكر بأشياء كثيرة. أحببت أنه ناقد و تحدث كناقد في بعض الاجزاء ناقداً طه حسين مع أنه صديقه. في المجمل ممتع