باعتناقنا لتميمة سقراط نشبع نهم فضولنا الإنساني الظامئ دائماً لأن يقول، ولأن يسمع مقابل ما يقول، ولكنّا في الصفقة نضل السبيل إلى الخافية، إلى الجوهر، نفقد تلك الحقيقة التي تقول فلسفات "الزن" أنها تقع في مكان ما خارج الكلمات، لا لأن ما نقول ما هو إلا ظل لما لم نقله، ظل لما أعجزتنا عضلة اللسان عن قوله، ولكن لأن القول في حد ذاته يتستر على طبيعة استسرارية تحول القول إلى لغز، أو طلسم، في أحسن الأحوال، كما تحوله إلى ابتذال، في الحال الأسوأ. ولهذا فإننا بالقول لا نرتكب الخطيئة فحسب، ولكنا لا نقول ما نريد أن نقوله أبداً. وهو مأزق ليس ناجماً عن استعصاء الكلم، أو إعجاز العبارة، كما قد يظن بعض البلهاء، ولكنه مأزق ديني أساساً مأزق ناجم عن السجية الميتافيزيقية للكلم أساساً. وخطورة الكلم إنما تنتج عن هذه الطبيعة الميتافيزيقية بالذات.
ولهذا نفهم لماذا استحق الأمر الإلهي القاطع: "اقرأ!" جواباً قاطعاً أيضاً حتى أنه يبدو تجديفاً في حق الربوبية من صاحب الرسالة في عبارة: "ما أنا بقارئ!" التي فسرت كجهل من الرسول بسر القراءة، في حين يجب تأويلها كما يجب أن تؤل، أي التنصّل من الأمر خوفاً من الحقيقة المستخفية وراء الأمر، فزعاً من قدر النبوة المتخفي خلف ستور القراءة. وهو فرار حدثتنا المصادر عن مثيل له يوم فر النبي من وجه الملك جبريل إلى خديجة في أول تجربة له مع النبوة ليخفي وجهه في حضنها مردداً: "دثريني! دثريني!". وهو فرار له ما يبرره، لأننا لن نعدم أن نجد له رديفاً في أول تجربة لإنسان بكر يذهب إلى ساحة العرفان لأول مرة (أعني ما نسميه مدرسة بلغتنا اليوم).
إبراهيم الكوني مزيج من خيالات وأحاسيس ومعان يتدفق تشكيلات حروف، وسيالات عبارات لا يستطيع المرء حيالها سوى التأمل ملياً بإبداع ذاك الكاتب الذي يتجاوز حد المألوف في المقروء والمفهوم والمنسوج في عالم الأدب القصصي والروائي. ففي صحفه الأولى يرحل بنا الكاتب إلى عالم من أفكار تقفز برشاقة من خلال عباراته الرائعة ومعانيه الشفافة، لتحتل دواخلنا، ولتنشر في النفس نشوة أدبية لطيفة، ولتثري العقل بأفكار تصل إلى حدّ الغرابة الرائعة.
Ibrahim al-Koni (Arabic: إبراهيم الكوني) is a Libyan writer and one of the most prolific Arabic novelists. Born in 1948 in Fezzan Region, Ibrahim al-Koni was brought up on the tradition of the Tuareg, popularly known as "the veiled men" or "the blue men." Mythological elements, spiritual quest and existential questions mingle in the writings of al-Koni who has been hailed as magical realist, Sufi fabulist and poetic novelist. He spent his childhood in the desert and learned to read and write Arabic when he was twelve. Al-Koni studied comparative literature at the Maxim Gorky Literature Institute in Moscow and then worked as a journalist in Moscow and Warsaw. By 2007, al-Koni had published more than 80 books and received numerous awards. All written in Arabic, his books have been translated into 35 languages. His novel Gold Dust appeared in English in 2008.
الكوني يكتب في عالم مثيولوجي، كل شيءٍ فيه مؤسطر ومفخخ بالمعاني؛ مقدس ومدنّس. فقدتُ الإيمان بهذا العالم منذ زمنٍ طويل.. طويل.
الأغرب بالنسبة لي هو آراءه، المثيرة فعلا والشعرية جدًا، بشأن الحياة والارتحال والذاكرة والكلام. كل فعل ينم عن حياة هو هتك، والكلمة تدنيس للصمت، والكتابة رجس من عمل الشيطان، ودعوة سقراط للقول (تكلم حتى آراك) هي رغبة في القتل، وأشياء أخرى مثيرة تبدو ممتعة ولكنها، بالنسبة لي، فقدت الأسس التي تتكئ عليها، لأنها نصوص تتكئ على نصوص تتكئ على نصوص.. وأنا تعبت من النص الذي يطبق على عالمي ويهيمن عليه، وأريد مع النص علاقة جدلية، مشاغبة، في أخذ ورد.
تجربتي الأولى مع ابداعه أقيمها بأنها تجربة عظيمة جدا .. رغم أني انتقيت هذا الكتاب بالصدفة .. إلا أنه أكد لي نظريتي "أن الكتب تمر بنا بتوقيت مرتبط تماما بأقدارنا و أفكارنا .. الكتب جزء مهم من القدر ،لا شيء يمرنا عبثا " كاتب عبقري و كتاب مذهل حقا .. هذا الكم من الجمال المتدفق و الفلسفة المتغلغلة بروح الحرف و نبض الكلمة ... هذا البعد الذي قد يستعصي عليك أحيانا أن تدركه من قراءة واحدة للجملة .. فتقرأ و تعود فتقرأ .. إلى ان تشعر و كأنك اكتشفت كنزا في خباياك .. يحفر عميقا في جسد الكلمة .. يهبها ألف حياة جديدة .. و يسافر بعيدا في قداسة الصمت لنكتشف كم مرة دنسنا وجودنا بالخروج عن طهارته .. يوازن .. يحلل .. يفكك .. يفسر .. كلما قرأت سطرا طغت دهشتي بهذا العقل أكثر .. و زاد انبهاري بثقافته و فكره .. الحب .. الجسد .. الصحراء .. و المدينة ... كلمات قد تكون عادية ، نعرفها ، نستخدمها ، نحفظها .. لكنه ينفض الغبار عن الحروف و يشير بالبنان إلى مجهول أعمق بكثير من مجرد لفظ .. بثقافة واسعة و عقلية موسوعية .. و فلسفة تحفزك على إعادة التفكير ... استوقغني الكتاب ككل فكان مهمة الاقتباس منه صعبة بالنسبة لي .. لذا احتسيته على مهل و تمنيت صدقا ألا ينتهي ... لكن بقي سؤال يطاردني طيلة فترة صحبتي مع هذا الكتاب هل قدر القراء العرب "الكوني" حق قدره ؟!!
"تكلم كي أراك" بهذه التميمة لسقراط بدأ الكوني حديثه في روايته التي تحمل عنوان صحف إبراهيم ومن ثم تنقّل فيها الى الحديث عن حقيقة الانسان حقيقته ليس من هذا العالم ولم أفهم حقيقة ما الذي يريد توضحيه بالفعل ربما لأنني حديثة عهد بالكتب الفلسفية التي كانت واضحة في تأثر الكوني بها . وبعدها تكلم عن غربة الانسان بين الهوية ... وغيرها من العناوين تجعل من يقرأ يحتاج الى تركيز وإمعان النظر..
. "نحن نهجر أوطاننا لا لنستخفّ بأوطاننا ،لا لنستبدل أوطاننا ولكن لكي نكبر أوطاننا ،لكي ننقذ بالهجرة أوطاننا
على الرغم من تعقيد لغة الكوني وتأريخيتها التي توجب على القارئ المعرفة المسبقة المبسطة على الأقل عن الأحداث والاستشهادات القديمة من الأساطير وغيرها، إلا أن القراءة له ممتعة جداً، أشبهها بتنقيب عقلي وفكري يقوم به عقل القارئ وهو يحاول أن ينتزع خيط بين بداية الفكرة ووسطها وآخرها، بين التورية الشاقة والتبديل المتسمر بين المفردات حتى يفسرها بصورة أوضح. ولهذا فالكوني فريد من نوعه، له لغة خاصة وتركيبة كونية ثابتة.
أربع نجمات لأن الكوني يستغرق كثيراً في الحديث عن الآلهة، فهو يؤمن بكل الديانات والأساطير بينما أعتقد أن على المسلم ألا يعتقد بالأساطير والديانات في حال نقدها وربطها وقراءتها حتى على كيفيته الكتابية. فكرة يرفضها الكوني لكني مؤمن بها.
هنا يضع ابراهيم الكوني فلسفته عن اشياء متفرقة ، عن الكلام والغربة وعلاقة العبقرية بالموت وعن السحر وعن مآزق المبدع الثلاث والذاكرة وأصل المدنية وأشياء أخرى فالكلام خطيئة والصمت فضيلة ومأسآتنا تكمن في عجزنا عن قول مانريد ان نقول وأن العبارة السقراطية الشهيرة تكلم كي أراك إنما هي في الواقع تكلم كي استبيحك!
وعن حتمية الغربةوفضيلتها يقول أن الإنسان لايفلح في امر دنياه إن لم يغترب عن منبته لأن الحنين الى الترحال إغواء لا حيلة لنا في مقاومته لأننا لا نستجدي القيمة المطلقة في الوطن الذي نلناه ولكن في الوطن الذي فقدناه لأن القيمة المطلقة ليست فيما يوجد ولكن فيما لايوجد . في ما لايرى ، لا في ما يرى!
آراء أخرى مثيرة للجدل ، حيث يسوق امثلة على أن المبدع لايصل لقمة ابداعه إن لم يواجه الموت وأعجوبة الميلاد الثاني كما حصل لدوستويفسكي وباسكال
وأن المرأة كلها جسد وحتى روحها جسد بعكس الرجل الذي يكافح عبثا في أن يحول روحه جسدا !
اما عن مآزق المبدع فهي ثلاث ، الحضور ، وإذا حضر المبدع إغترب المتن . والخيار ، فأي خيار للمبدع لأختيار متن من ابداعه هو بمثابة اختيار طريقة للموت . ذ لك أن الحكم ليس مرتهنا للحقيقة وإنما لجلاد اسمه المتلقي ! أما المأزق الثالث فهو التلاوة! ذلك أن مبدعا يعري روحه أسوأ الف مرة من إمرأة تعري جسدا ! وفلسفات أخرى هنا وهناك ربما كان قد دسها برشاقة في أدبه الصحراوي ولكنه هنا يضعها كما هي وجها لوجه مع القاريء ! فلماذا يجمع على نفسه مأزقين من مآزق المبدع ؟
أوّل كتـاب أقراءه لـ إبراهيم الكوني , وحتى الآن هو أكثر كتاب أثار إعجابي وغيّر من نظرتي للعالم.
الكتاب هو جولة في ابرز الفلسفات الاغريقية خصوصـاً والعالمية عمومـاً, ويغوص بك في أعماق الحكم والدروس الحياتية والعبر من القصص, حقاً غيّر الكتاب من نظرتي للعالم وأصبحت اثير إهتماماً أكثر للنصيحة التي تتعلق بالتقليل من الكلام وإستبداله بقابلية أكثر للإستماع, وكيف ان اللسان يؤدّي إلى الهاوية...
معاني عميقة بصفة عامّة ودروس من الفلسفة الكلاسيكية المهمّة, أنصح بشدّة قرائته