An Israeli provides an appraisal of Israel's political history, discussing his country's relations with Egypt and Lebanon, the Iran-Iraq conflict, Palestinian Arabs and the PLO, and the Gulf War
في مذكراته "الخيار الأخير: بعد عبد الناصر، وعرفات، وصدام حسين"، يقدم ضابط الموساد دافيد كيمحي، الذي شغل منصب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية وكان فاعلًا أساسيًا في صناعة القرار الدبلوماسي الإسرائيلي لعقود، رواية شخصية وتحليلية لمسار الصراع العربي-الإسرائيلي في الفترة من ١٩٦٧-١٩٩١.
هذه الفترة الزمنية السابقة التي تُعالجها المذكرات من رؤية صهيونية قطعًا، ليست فترة زمنية انتهت بكل أحداثها، وهي لا تقدّم فقط سردًا للأحداث، بل تكشف عن العقليات، والهواجس، والآليات التي شكّلت قرارات كبرى في لحظات مصيرية، والتي ربما لازالت مستمرّة إلى الآن. المذكرات تُظهر كيف كان الزعماء يرون أنفسهم وخصومهم، وما الذي كان يُقلقهم حقًا. من خلال فهم تلك العقليات، يمكن فهم كيف قد يتصرّف الخلفاء في مواقف مشابهة، لأن الدول كثيرًا ما "تورّث" ذهنية الدولة العميقة، حتى إن تغيّرت الوجوه.
المذكرات ليست فقط وثائق تاريخية، بل أدوات استراتيجية لفهم كيف يفكر "الآخر"، وكيف يتشكّل القرار، وأين يقع التأثير الحقيقي. القراءة الذكية لها تخلق وعيًا سياسيًا متقدمًا يُعين الباحث أو الكاتب أو حتى المواطن المهتم على مواجهة تعقيدات الحاضر، برؤية مستنيرة من الماضي. المذكرات ليست تأريخًا تقليديًا للصراع، بل محاولة لإعادة تقييم الأحداث المفصلية من منظور رجل كان في قلب الأحداث. كيمحي يطرح ما يسميه "حرب بريجنيف"، وهي الفترة بين 1967 و1973، حين رأى أن الاتحاد السوفيتي، بقيادة بريجنيف، لعب الدور الأهم في تحريك الصراعات بالمنطقة، خصوصًا في حربي 1967 و1973، وأن ناصر والسادات كانا، بشكل أو بآخر، دمى في يد موسكو.
يتعامل كيمحي مع عبد الناصر كزعيم مأزوم محكوم بأوهام الزعامة الإقليمية، ويصف السادات بأنه كان شخصية درامية، لكنه ذكي وواقعي، استطاع قلب الطاولة على الجميع. أما عرفات، فكان في نظره "نبي سلام كاذب" استغل القضية الفلسطينية لمصالحه، وبدد فرص السلام. أما صدام حسين، فرآه ديكتاتورًا متهورًا جرّ المنطقة إلى الكوارث، خاصة بغزوه للكويت.
ينتقد كيمحي طريقة تعامل الولايات المتحدة، لا سيما إدارة كارتر، التي اعتبرها ساذجة، ويرى أن الاتفاق كان "تحالف مصالح" أكثر منه سلامًا حقيقيًا، وأن إسرائيل دفعت أكثر مما كان ينبغي، بينما ظلت بقية الدول العربية على عدائها. يرى كيمحي أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت مصدرًا للفوضى أكثر من كونها حركة تحرر. يؤكد أن وجودها في لبنان كان "دولة داخل دولة"، تستخدم الإرهاب والابتزاز السياسي، وأنها عرقلت كل مساعٍ للسلام، واستفادت من الدعم الأوروبي، خاصة بعد مؤتمر البندقية 1980. لا يتوقف طويلًا عند مجزرة صبرا وشاتيلا . المهم بالنسبة له أن الاتفاق مع أمين الجميل سقط، وأن الأمريكيين انسحبوا، وأن إسرائيل لم تجد في لبنان سوى المرارة.
يكشف عن تفاصيل التعاون الإسرائيلي-الكتائبي في السبعينيات، ويؤكد أن غزو لبنان 1982 كان يهدف لتدمير البنية التحتية للمنظمة هناك، ولكنه يعترف بفشل الاحتلال في خلق بديل مستقر، ويُقر بأن إسرائيل "تورطت أكثر مما خططت له". ويكن كيمحي لصدام وعرفات كرهًا كبيرًا، ينتقد بشدة صدام حسين، ويصفه بالمتهور الذي أضاع ثروات العراق في مغامرات عبثية. ويرى في تدخل التحالف الدولي خطوة ضرورية، لكنه في الوقت نفسه لا يُخفي قلقه من بروز إيران بعد الحرب كقوة إقليمية، رغم تعاون إسرائيل مع إيران في الحرب ضد صدام وقد شارك كيمحي بنفسه في صفقات تسليح سرية، بالتنسيق مع واشنطن ضمن فضيحة "إيران-كونترا".
حين يتحدث عن مبارك، لا يُخفي امتعاضه: رجل لا يشبه السادات، ولا يحب المغامرات، لكنه أيضًا أبقى السلام في أقصى درجات البرود. يتذكر كيمحي لقاءً شخصيًا سأله فيه عن طابا، فأجابه مبارك بأنه لم يكن قد سمع بها قبل الأزمة، ويعلق كيمحي بدهشة من هذا الاعتراف الذي يكشف الفجوة بين القيادة والخرائط.
الخليج في عين كيمحي ليس سوى مركز للمال دون استراتيجية. دول موّلت صدام ضد إيران، ثم فوجئت بأنه يبتلع الكويت. يروي باستغراب كيف وقّعت الكويت اتفاقًا أمنيًا مع إيران في يوليو 1990، ففُزع صدام، وقرر غزوها. يصف قادة الخليج بأنهم أثرياء، لكنهم لا يفهمون قواعد الأمن والسياسة. ويعتبر أن الخليج دفع ثمن اعتماده على أمريكا، ورفضه الانفتاح على إسرائيل. وما نقده كيمحي في التسعينيات من رفضهم الانفتاح عليهم، لاشك أنه تبدد الآن.
يروي كيمحي تفاصيل علاقة إسرائيل القديمة بالأكراد، التي بدأت في الستينيات، بالتعاون مع شاه إيران. كان الهدف هو ضرب العراق من الداخل، وخلق ذراع استخبارية. لكنه لا يخفي المرارة حين تخلّت إيران عنهم في اتفاق الجزائر 1975، وتركوا لمصيرهم أمام صدام. يُظهر كيمحي احترامًا للملك حسين، لكنه يراه زعيمًا ضيع الفرص وخضع للضغوط العربية.
كلّ سطر في المذكرات يريد التكريس لفكرة واحدة، إسرائيل وحدها هي من تفهم اللعبة، فالزعماء العرب أغبياء وحناجر ومستبدين، باستثناء السادات في نظر كيمحي رأه ذكيًا لكنه مراوغ بمعنى آخر يرى السادات مجرد محتال سياسي، فحرب أكتوبر- بتصوره- لم تكن لتحرير سيناء فقط، بل لفتح باب واشنطن. أما السلام، فقد قُدّم مغلفًا بمجد الحرب، وسُوّق على أنه نصر. والغريب رغم كل ما ذكر عن تلاعب بيغن بكاتر والسادات في كامب ديڨيد، فإن كيمحي يرى أن إسرائيل تنازلت وقدّمت الكثير، ويصب لعناته على كارتر .
ما يسعى كيمحي لتسويقه ببراعة شديدة هو أن إسرائيل عاقلة، براغماتية، تمد يدها للسلام دومًا، بينما العرب غوغاء، شعاراتيون، يضيّعون كل فرصة. في هذا السرد، لا خطيئة إسرائيلية، بل أخطاء عربية متراكمة. هو لا يُقدّم عرضًا للسلام بقدر ما يُقدّم تبريرًا لهيمنة إسرائيل، وتحويلها إلى شريك إقليمي مهيمن، لا مجرد طرف مساوم.
كيمحي يقدّم رواية مفادها أن إسرائيل لم تكن دولة عدوانية بطبيعتها، بل كانت دائمًا "مدفوعة" للحرب عندما تفشل كل السبل الأخرى مثل السياسية والدبلوماسية. ومن هنا فإن "الخيار الأخير" هو الحرب، حين لا يبقى أي بديل ممكن. هذا الخطاب يظهر في تحليله لحرب 1967، 1973، وحتى غزو لبنان 1982، حيث يسعى لإثبات أن إسرائيل كانت دائمًا ترد على تهديدات أو تحركات عدائية، لكنها لا تبادر.
"الخيار الأخير" ليس كتابًا أو مذكرات عن السلام، بل عن كيف تصنع القوة سردياتها بعد أن تنتصر. وهو كتاب لا يُقرأ لتصديقه، بل لفهم منطق العدو، لأن ذلك وحده هو الخطوة الأولى نحو مقاومته. ونقطة أخرى يذكرها كيمحي يمكن أن تفهمنا تصرفات العدو الآن، فهو عندما يتحدث عن كامب ديفيد، أو عن الانسحاب من جنوب لبنان، أو حتى عن الوضع في الضفة، تبرز فكرة أن كل "تنازل" إسرائيلي ليس نابعًا من قناعة، بل من ضرورة استراتيجية. وكأن كيمحي يقول إن كل خطوة سلام، أو انسحاب، أو تسوية، كانت هي الأخرى "خيارًا أخيرًا" بعد استحالة الحسم العسكري أو غياب الدعم الدولي.
فالخيار الأخير عند كيمحي هو تلك اللحظة التي تنتهي فيها الأوهام، وتتلاشى الشعارات، وتُفرض الحقيقة الجيوسياسية الصلبة: إما السلام بشروط إسرائيل، وإما الحرب المفتوحة، ولا ثالث. وهو بذلك لا يقدم فقط تحليلًا للماضي، بل يحمل رسالة ضمنية للمستقبل: إسرائيل لا تزال مستعدة للسلام، لكنها لن تنتظر طويلاً، ولن تقبل إلا بشروط تضمن أمنها. وإلا فالحرب ستبقى الخيار الأخير وربما الأفضل.