في أول الجزء الثالث ننتقل مع علي الطنطاوي "المدرّس" من رنكوس إلى المحطة التالية في مسيرته في التعليم، إلى زاكية. ثم لا نلبث أن نمضي مع علي الطنطاوي "الرحّالة" في واحدة من أعجب الرحلات؛ الرحلة إلى الحجاز لاكتشاف طريق الحج البري. ولكن سرد أحداث هذه الرحلة ينقطع مرة لرواية قصة الخط الحديدي الحجازي، ثم ينقطع مرة أخرى لرواية ذكريات عن رمضان، وينقطع ثالثة لرواية ذكريات عن القوة والرياضة. وفي هذا الجزء نقرأ عن محدّث الشام، الشيخ بدر الدين الحسني، وعن المدرسة الأمينية في دمشق، ثم نُنهيه وقد تركنا الشام إلى بغداد. لقد كانت النقلات السابقة في التعليم من قرية إلى قرية، وها هي الآن نقلة من بلد إلى بلد؛ من الشام إلى العراق! وهكذا نجد أنفسنا في بغداد، فنواجه "ثورة دجلة" فيها ونقرأ عن دروس الأدب في مدارسها
ولد علي الطنطاوي في دمشق في 23 جمادى الأولى 1327 (12 حزيران (يونيو) 1909) لأسرة عُرف أبناؤها بالعلم، فقد كان أبوه، الشيخ مصطفى الطنطاوي، من العلماء المعدودين في الشام وانتهت إليه أمانة الفتوى في دمشق. وأسرة أمه أيضاً (الخطيب) من الأسر العلمية في الشام وكثير من أفرادها من العلماء المعدودين ولهم تراجم في كتب الرجال، وخاله، أخو أمه، هو محب الدين الخطيب الذي استوطن مصر وأنشأ فيها صحيفتَي "الفتح" و"الزهراء" وكان له أثر في الدعوة فيها في مطلع القرن العشرين.
كان علي الطنطاوي من أوائل الذين جمعوا في الدراسة بين طريقي التلقي على المشايخ والدراسة في المدارس النظامية؛ فقد تعلم في هذه المدارس إلى آخر مراحلها، وحين توفي أبوه -وعمره ست عشرة سنة- صار عليه أن ينهض بأعباء أسرة فيها أمٌّ وخمسة من الإخوة والأخوات هو أكبرهم، ومن أجل ذلك فكر في ترك الدراسة واتجه إلى التجارة، ولكن الله صرفه عن هذا الطريق فعاد إلى الدراسة ليكمل طريقه فيها، ودرس الثانوية في "مكتب عنبر" الذي كان الثانوية الكاملة الوحيدة في دمشق حينذاك، ومنه نال البكالوريا (الثانوية العامة) سنة 1928.
بعد ذلك ذهب إلى مصر ودخل دار العلوم العليا، وكان أولَ طالب من الشام يؤم مصر للدراسة العالية، ولكنه لم يتم السنة الأولى وعاد إلى دمشق في السنة التالية (1929) فدرس الحقوق في جامعتها حتى نال الليسانس (البكالوريوس) سنة 1933. وقد رأى -لمّا كان في مصر في زيارته تلك لها- لجاناً للطلبة لها مشاركة في العمل الشعبي والنضالي، فلما عاد إلى الشام دعا إلى تأليف لجان على تلك الصورة، فأُلفت لجنةٌ للطلبة سُميت "اللجنة العليا لطلاب سوريا" وانتُخب رئيساً لها وقادها نحواً من ثلاث سنين. وكانت لجنة الطلبة هذه بمثابة اللجنة التنفيذية للكتلة الوطنية التي كانت تقود النضال ضد الاستعمار الفرنسي للشام، وهي (أي اللجنة العليا للطلبة) التي كانت تنظم المظاهرات والإضرابات، وهي التي تولت إبطال الانتخابات المزورة سنة 1931.
في عام 1963 سافر علي الطنطاوي إلى الرياض مدرّساً في "الكليات والمعاهد" (وكان هذا هو الاسم الذي يُطلَق على كلّيتَي الشريعة واللغة العربية، وقد صارت من بعد جامعة الإمام محمد بن سعود). وفي نهاية السنة عاد إلى دمشق لإجراء عملية جراحية بسبب حصاة في الكلية عازماً على أن لا يعود إلى المملكة في السنة التالية، إلا أن عرضاً بالانتقال إلى مكة للتدريس فيها حمله على التراجع عن ذلك القرار.
وهكذا انتقل علي الطنطاوي إلى مكة ليمضي فيها (وفي جدّة) خمساً وثلاثين سنة، فأقام في أجياد مجاوراً للحرم إحدى وعشرين سنة (من عام 1964 إلى عام 1985)، ثم انتقل إلى العزيزية (في طرف مكة من جهة منى) فسكنها سب
كيف أقنعكم أصدقاء القراءة بأن تنهلوا من هذا المنبع العذب؟؟
كتاب تتجول فيه ما بين قصة وطرفة وشعر وتاريخ وأدب وأدباء وحكمة وثروة لغوية جمّة...وما بين فرح وحزن وألم وأمل وشوق لماض عريق وحسرة على مجد ضائع...مشاعر الشيخ وهو يروي تتسرب إليك من شدة صدقه وإخلاصه – رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه -.
جمال ما بعده جمال...وكلما قرأت له أكثر...ازددت به إعجابا وله إكبارا...وما نقص استمتاعي بما أقرأ رغم أن شيخنا الجليل يخرج كثيرا عن الموضوع...وقد اعترف أن هذا طبع فيه لا يملك تغييره...ورغم أن هناك بعض الأحداث المكررة والتي قرأتها في الجزئين السابقين أو في كتبه الأخرى...ولكنه يقول أنه لا يعود لما كتب سابقا...فتجري الأحداث على لسانه بحسب ارتباطها بالموضوع الذي يتحدث عنه.
يبدأه حديثه في هذا الجزء من سورية عام 1933، واصفا إياها ببركان يثور...مظاهرات وهزات...وما أشبه اليوم بالبارحة...باختلاف الطاغية!!
ويتحدث عن مجالدة الاستعمار بالقوة واللسان...مسطرا لجزء من خطاباته ومقالاته والتي تظهر دوره في مقارعة الأعداء باللسان، وتظهر الجانب الأدبي المتميز في كتاباته...وكم يذهلني جمال وصفه للطبيعة وتغنيه بدمشق والشام والجولان والحمة وطبريا والغور والبحر الميت...وفي هذا الجزء أيضا بغداد.
في هذا الجزء تحدث شيخنا الجليل مستفيضا عن رحلته للحج في فترة لم تكن بعد قد هيأت فيها الطرق ووسائل النقل، وقصة الخط الحديدي الحجازي...وكم كان منصفا لما تحدث في تاريخ تلك الحقبة عن الدولة العثمانية والثورة العربية...حديثه في يوم عرفة حلّق بروحي...ووصفه لبطولة أطفال دمشق أعاد لي الأمل بجيل يصنع الغد ويعيد لهذه الأمة ألقها...وسيرة مدينة بغداد نقلتني أبعادا في التاريخ المشرق لأمة هانت على نفسها فهانت على الدنيا بأسرها...
وأكثر ما أثر بي مقالته "في وداع عام"...كانت عبرة وعظة لي ونحن نودع عاما ونستقبل آخر...وقد قرأتها سابقا في كتابه صور وخواطر...وكان مما قاله فيها:
احببته..... بوركت ياساعة الخطر في ساعة الخطر يعود الناس اخواناً متحابين قد خرجوا من اطماعهم وماتت في نفوسهم العداوة والبغضاء وعاشوا لحظة ما فيها الا التضحية والإخلاص والوئام.
يكمل الشيخ رحمه الله سرد ذكرياته الماتعة ويأخذنا هذه المرة ليبحر بنا نحو الحجاز ، نحو مكة مهوى الأفئدة ، قصته الأولى نحو الجزيرة العربية ، مشاعره العميقة عند رؤيته بيت الله ، وحكايا من هناك ، مثل "حكاية كسوةالكعبة " ، ثم يرجع بنا قافلاً إلى دمشق -مسقط رأسه- وحفل الإستقبال الكبير ، ثم يتوجه بالمركب نحو "بغداد " التي عرف ، وتغنى بها وبدجلة والفرات وسامراء ، ثم قصة ثوران دجلة ويوم الموت ..ثم نماذج من دروسه في بغداد ، لتنتهي بنا الرحلة .
هذه نفسي أُسَائِلُها: هل تعرف النفوس الوفاء، و هل تدور مع الدهر الدوّار كيفما دار، تلبس لكل حالة لبسها، و تتخذ لكل يوم ميزانه، فيهون عندنا اليوم ما عزّ بالأمس، و يرخص ما غلا و يغلو ما رخص، نرى الشخص فلا نُباليه، و قبلاً كان مَناط حُبنا و كنا نقنعُ إن كان وصله حظُنا من دنيانا، و نمرُ بالمكان لا نلتفت إليه ، و فيه ذُوقنا حلو العيش و مُره و فيه أثر من أنفُسِنا و فيه بقايا من أعمارنا !
العودة لاستكمال ذكريات الطنطاوي هي عودة نحو المتعة الأدبية، ذلك الأدب الذي اصبح شبه مفقود في حاضرنا نجده فقط في كتب تشابه هذا الأديب اللامع، هنا في هذا الجزء الثالث تحدث اكثر عن العراق و يومياته هناك، دروسه الأدبية في بلد الأدب، رحلاته الماتعة التي لا تخلو من طرفة و فائدة و متعة، مازلت عند قولي ان الطنطاوي اذا قرأت له احسست انك معك تعيش كل ذكرياته.
تستمر الرحلة الممتعة والمغامرات الشيقة مع الجزء الثالث من ذكريات الأديب والشيخ علي الطنطاوي، وفي هذا الجزء حكى لنا الشيخ عن رحلته إلى الحجاز وكانت رحلة عجيبة مليئة بالمواقف الطريفة والعصيبة، والمميز في هذه الرحلة توثيقه لبعض من ملامح مدن السعودية وطريقة تعاملهم مع الحجاج وكرمهم وتعاونهم معهم، ومقابلته لشخصيات عظيمة مثل الملك عبدالعزيز رحمه الله، وشدني ما ذكره في مجلسه حيث يقرأ عليهم شيخ من الكتب الدينية العلمية ويناقشها مع الحضور، فهذا الاهتمام من الملك بالعلم أمر مبهج، وأيضًا ما أرخهُ لبعض الشخصيات العظيمة التي خف ذكرها ونسيها الناس مثل الشيخ محمد نصيف والشيخ محمد علي زينل.
وبعد ذلك رحلته إلى بغداد وحديثه عن تاريخها ومشاهداته فيها بوصف أديب بديع يقذف في قلبك شعور الاشتياق إلى بغداد، وما جرى له من أحداث فيها من فيضان نهر دجلة إلى أحداث يوم عاشوراء.
ذكريات علي الطنطاوي تناسب جميع الأعمار وكثير من الأذواق ، أتخيل الأجزاء الثمانية من هذه السلسلة في أقرب مكتبة أستقر بها ،وأظن أني سأسوّق لها طويلاً كهدية قرائية ثمينة لمن لا يعرف ذوق المُهدى في الكتب ، أهم أسباب احتفائي بهذا الجزء هو أني قرأت فصولاً منه على والدي فسر بذلك وأنصح من تسمح ظروفه بمثل هذه القراءة الجماعيةأن لا يتردد ففيها مشاركة ومتعة وفي القصص التي يتذكر لنا الطنطاوي من الطرافة والمفاجأةوحسن الأسلوب ما يجعلها قراءة مشوقة للجميع ، ومع ذلك لم يكن بد من التحول عن بعض الفصول دون قراءتها وذلك حسب رغبات الجمهور :) ،
القراء للطنطاوي كالمشي على أرض صلبة أو كأنك تعود إلى بدايات إحدى القصص ، تذكرت ذلك وأنا أقرأ كلامه:"كنا نمر على الأرض الصلبة المتماسكة فنحمد الله" فهو يحكي ماض له وقد صار ماض لنا ومع ذلك فتجد عنده أريحية في الحديث عن مواضيع لانزال نجد صعوبة في الحديث عنها كالتطريب والمحافظة على الآثار ففي سياق المحافظة على الآثار يذكرنا بقول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لايزال المسلمون بخير ماذكروا أمر جاهليتهم) ويشير وينصح ولا تجد لديه التحفظ المبالغ فيه
بدا لي الجزء الثالث هذا أفضل من الجزئين السابقين لما فيه من الحركة وأخبار الرحلات وتغير المكان ففي هذا الجزء رحلته إلى مكة وأي رحلة ثم انتدابه إلى العراق للتدريس ومافي بغداد من قصص يبدو أنه سيكملها في الجزء ال��ابع.
بعض الاقتباسات:
"أوليس للإنسان حياة ظاهرة في قيامه وقعوده، وطعامه وشرابه، وجيئته وذهابه، وحياة باطنة في أفكاره وذكرياته، وآماله وآلامه، وميوله وعواطفه؟ أوليست حياته الباطنة هي الأصل وهي الأساس فلا يحيا إلا بها، ولا يقوم إلا عليها؟"
فهل تريدون أن أخبركم بالذي رجعت به بعد هذه الجولة الواسعة التي شملت الشام والعراق والسعودية ولبنان ومصر حيناً، وامتدت خمساً وخمسين سنة، "...."أقول لكم الحق: لقد وجدت أنه ليس شيء أبرك ولا أنفع للناس ولا أجلى للصواب من تعليم تلاميذ المدارس الابتدائية"
"إعلم أعزك الله أن الوظيفة ليست غلاً في العنق، ولا قيداً في الرجل،وليست مقايضة، آخذ فيها الراتب باليمين لأعطي الضمير بالشمال"
كعادة شيخنا الفاضل قصص وحكايات وتاريخ .. في هذا الكتاب كان أغلب مواضيعه تتحدث عن أيام شبابه .. أضحكتني قصة رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين .. وأعجبتني رحلة العجيبة إلى مكة ، فعلاً شعرت بأنه يتحدث عن بلد ليس بقريب .. فتحدث أنه رأى في السعودية من النهضة السريعة على أكثر من البلدان الشقيقة المجاورة .. وأيضاً اسمتعت بحديثه عن العراق - آآه - أسئل الله أن يجعلها كما كانت أو أفضل ..
الكتاب الثالث من السلسلة فيه معلومات جميلة عن حياة الشيخ إلا أنّني أظنّ أنّ الجزئين الأوّلين أفضل وأعمق من هذا الجزء ومحتواهما أزخم وأكثر احتواء للمعلومات السردية مقارنة بالوصفية. تسلسل الأحداث في فصول هذا الكتاب (بل وهذه السلسلة عموماً) ليس بالضرورة أن يكون زمنياً لذلك ترى ومضات من حياة الشيخ هنا وهناك. ولو كانت مرتبطةً زمنياً لكان الكتاب سرداً أجمل وأقرب إلى نفس القارئ. والله أعلم.
أجد هذا الجزء من أمتع أجزاء الذكريات التي قرأتها حتى الآن، بداية من ذكر رحلته إلى الحجاز بالبر و ما تكللتها الرحلة بالمصاعب و المشاق حتى وصل إلى مكة حاجًا ملبيًا، و انتهاء بذكر تدريسه في بغداد و ما ذكر من أحداث تاريخية شهدتها العراق آنذاك في حكم الملك غازي. يستحق ٥ نجمات.
الكتاب مليء بتنقلات الشيخ علي ما بين 1932 و1935 حيث سافر للحجاز ولبغداد وغيرها .. أسلوب ووصف أدبي أكثر من ذكريات .. عشت الأدب أكثر من الذكريات في هذا الجزء
طول ما انا اقرأ وانا اقول الله يرحمه،عجبتني جداً شخصيته وكيف كان يوقف مع الحق حتى لو كان ضد مدير او رئيس او وزير! استمتعت بالقراءة ومتحمسة للجزء الرابع.
بعض الاقتباسات من الجزء الثالث من ذكريات علي الطنطاري رحمه الله: وكان يدرّسنا اللغةَ الفرنسيةَ من ستين سنة مدرّسٌ فاضلٌ اسمُه شكري الشربجي، كان ضابطًا كبيرًا في الحجازِ بعد الحربِ الأولىٰ، وكان يقودُ فصيلًا من الجندِ أصلُهم من الأعرابِ، فافتقدَهم في ساعةِ عملٍ فلم يجدْهم، فلما حضروا قال: فيمَ كنتُم؟ قالوا: نتقهوى. قال: أفي مثلِ هذهِ الساعةِ وبلا إذن؟ قالوا: والله -يا البيك- نتقهوى ولو في خشم الأسد!
الذكريات ٣/٨٧ —
دخلنا مجلس الملك [عبدالعزيز] فقام لنا، وكان يقوم للداخل، وذلك قبل أن يثقل عليه ألم ركبتيه ويتخذ الكرسيّ ذا الدواليب الذي أهداه إليه روزفلت، وجعلنا نحضر مجلسه كل يوم فلحظت أن له مقعدًا خاصًا به، لا يختلف عن بقية المقاعد لكن لا يقعد عليه غيره. وكنا نحضر عنده درسًا، لا، ليس درسًا بل قراءات جهرية؛ يُنصب كرسيّ لشيخ يوضع له مصباح إلى جنبه، فيقرأ صفحات من كتاب في التفسير والحاضرون يستمعون، وربما علق الملك نفسه على بعض ما قرأ القارئ. وقد لحظت أنه يحفظ كثيرًا من الأحاديث ومن أقوال الأئمة، وقد يشترك بعض الحاضرين فلا يمنعهم، ومنهم من يعارض رأيه فيناقشه الملك ويفرّع أوجه الرد فيقول: أولًا، وثانيًا، وثالثًا... ويقيم أمامه ستارًا من الحجج والأدلة.
ومن الأقوياء محمد علي بك العظم؛ كان يقعد على باب داره في الجسر الأبيض، فرأى مرةً عربةً قد جمحت خيولُها فاندفعت نازلةً في هذا المهبط الخطر، وفيها امرأة معها طفلان وهي تستجير وتنادي، فصرخ: يا الله! ووثب فأمسك بمؤخرة العربة، وجرى معها قليلًا حتى أبصر ثغرةً بين حَجَرَيْن من حجارة الشارع؛ فثبّت قدميه فيها، وصبّ قوّته في ذراعه ورجع بجسده إلى الوراء، وهو يدعو الله متضرعًا بصدق وإيمانٍ وانفعال، والناس ينظرون مدهوشين وقلوبهم معه ومع المرأة، فوقفت العربة، وعجز الفَرَسان عن جرّها. ولولا أن الحادثة رآها الكثير وحدّثني بها غير واحد ممن رآها ما رويتُها.
الذكريات ٣/١٧٣ —
وكنتُ معجبًا أشدّ الإعجاب بالرافعي، ولكن تبدّل نظري إليه وحكمي عليه، وخير ما كتب «تحت راية القرآن» و«وحي القلم» أما ما يسمّيه فلسفةَ الحب والجمال في مثل «رسائل الأحزان» و«السحاب الأحمر» و«أوراق الورد» فأشهد أنه شيء لا يُطاق، يتعب فيه القارئ مثل تعب الكاتب ثم لا يخرج منه بطائل.
الذكريات ٣/٢٨٦ —
الشعرُ والصورة والنغمة كلّها تعبيرٌ واحد عن الشعور الواحد، ولكن اختلف اللسان؛ فالشاعر يعبّر بالألفاظ والأوزان، والمصوّر بالخطوط والألوان، والموسيقي بالأصوات والألحان.
مازلت مستمرة في رحلتي مع ذكريات الطنطاوي وقد أنهيت هذا الشهر الجزء الثالث منها ومازلت متحمسة لقراءة المزيد والمزيد .. يتحدث الطنطاوي في هذا تلجزء عن رحلته مع فريق من سوريا الى بلاد الحجاز وزيارة الكعبة المشرفة وأداء مراسم الحج بالسيارات عن طريق البر ولكن دون وجود طرق معبدة او دليل يعتمد عليه او وسائل راحة او طرق حماية من المخاطر ... وقد استمر موضوع هذه الحجة لاقسام كثيرة في ذكريات الشيخ .. ثم ينتقل الى قصص متفرقة منها يوم وفاة الشيخ بدر الدين الحسني ومنها وصفه لشهر رمضان ثم الى وصف رحلته الى بغداد حيث اختاره وزير المعارف للتدريس هناك وتستمر محادثته لنا حول بغداد القديمة في اثناء العصر العباسي وبغداد اليوم (طبعا لم يشهد سقوطها بيد اميركا) ويختم الكتاب بوصف يوم فيضان نهر دجلة ... كالعادة اسلوب الطنطاوي مشوق جدا ذو فصاحة ولغة قوية وقصصه قريبة من القلب واستطراداته لطيفة جدا .... وقلمه حاد لا يرحم المسيء ولا يجامل القوي .. بل يقول للأعور أعور بعينه 😅😅 .. وانا بشكل شخصي أعشق القلم القوي الذي لا يجامل ولا يتلوى ولا يتلون كما يريده البعض أن يكون .. أحب الاستقامة في الأداء والوضوح في الهدف .. رحم الله الشيخ علي الطنطاوي وجعلنا ممن ينهلون من علمه ... الى اللقاء في الجزء التالي 👋 #علا
أعتقد أني كلما كبرت في العمر صرت أكثر حباً وفقهاً لما يكتب الطنطاوي. أتذكر عندما كنت في الأول الثانوي، وجهني شيخ رضي الله عنه أن أقرأ للطنطاوي، وشدد في حضي على قراءة كتبه، وما تأخرت عن تلك النصيحة، لكني لم أجد بكتبه تلك اللذة ولم أعقل منها الكثير، فتركتها واتهمت الطنطاوي لجهلي، والأولى بالاتهام نفسي، فأنى لطفل ذي ١٤ سنة أن يملك الذائقة ليحكم علي هذا العَلَم، مضت السنون وأعطيت الطنطاوي فرصاً أخرى، ونجح بها، ولكن لم يكبر ذلك النجاح إلا مع تقدمي بالسن، فعلمت من هنا أن العلة بي لا به. في هذا الجزء استمتعت كثيراً، وعشت مع الطنطاوي تنقله بين المدارس وبين القرى وعشت رحلته الشاقة إلى مكة المكرمة، وعايشت ما قاله عن رمضان، فمن الصدف أني قرأته في رمضان، ثم تلذذت واستمتعت بحديثه عن بغداد وتمنيت أن أزور تلك البلاد، واشتقت أن أجلس على ضفاف دجلة، تأسفت على ما حل بالعراق اليوم، وحزنت على تلك الجوهرة التي ضاعت منا، واحسرتاه عليك يا عراق، يا حر قلبي عليك، ألا لعنة الله على كل من كان سبباً في تدميرها وتخريبها، وسبباً في إفسادها. ثم وأخيراً، ��ي نهاية هذا الجزء، تلذذت تلذذاً بما تحدث به عن أسلوبه في شرح الأدب لطلابه، وما أروع ما مثل به لذلك، فيا ليتني كنت طالباً بين يديه، والحمدلله الذي وفقني لتذوق من ذلك المعين الصافي العذب.
جزء ثالث.. وسلسلة تود أن لا تنتهي.. قراءة ثانية للذكريات ومع ذلك لاتزال الدهشة سيدة الموقف كما يقال. تحدث الشيخ علي في هذا الجزء عن الكثير، أبرز ماكان فيها حديثه عن رحلة العمرة من دمشق إلى مكة برًا.. يوم كانت الأرض لم تُعبد بعد، والبراري طريق السيارات لاغير. بصدق شعوره رحمه الله أوصل لك المعاني بأوجه تقرّبك مما كان عليه هو وصحبه، ومامروا به في طريق رحلتهم وعودتهم. ينتقل بك للحديث عن الرياضة، ويورد لك من الأسماء ماتجهله حتى تعلم مقدار القوة في شباب الأمة وإن تغير الزمان. يأخذ بيدك بعدها إلى أروقة الوظيفة والتعليم، فيثلج صدرك ماكان عنده رحمه الله من العزة والأنفة، لايرضى استعباد الوظيفة، ولا كبرياء الرئيس ومذلته، عنّي : فقد شعرت أنه يتحدث بلساني، ويحكي عما في جناني.. وهذا ديدنه، يلامس شعورك ويحرك أوتار إحساسك.. أخيرًا.. ينقلك إلى بقعة أخرى، ويمدّك بشعاع الحب حتى تشعر بالامتلاء حين يذكر بغداد وأيامه فيها ومقالاته عنها، فترى ماء الحب يجري صافيًا بين السطور . رحمة الله على الشيخ.. ولنا في الجزء الرابع سلوى.
This entire review has been hidden because of spoilers.
يغرق القارئ للطنطاوي في أعماقه وكأنه يعيش تلك الأحداث بنفسه . يأخذك من مكان ليطوف بك ثم يعيدك إليه لتجد ذات الأثر الذي وقع من نفسك في المرة الأولى. تارة يضحكك وتارة يُبكيك…كالموسيقار البارع ،مشاعرك رهن أنامله، تسوسها نقلاته من وتر إلى وتر ومن سلم إلى آخر، وكذلك الطنطاوي إذا عزف لحن الحياة بقلمه. يتراجع عن كتابة الذكريات بحجة أنه نسي دقيق ماكان ولم يدون في شبابه من الزاد ما يعينه على إكمال الطريق، ثم سرعان ما يطرأ حادث يقدح في ذهنه شرارة من بقايا الذكريات، يذكر شبابه وحماسته والمنابر وصوته الجهور خاطبًا بالناس مخاطبًا لهم محرِّضًا ومستنفرًا، فيعود للكتابة ليبهر الأعين ببريق قلمه الذي لم تنطفأ شعلته ولم يخفت شعاعه منذ عقود.
ذكريات جميلة ومسلية، مليئة بالتعب والشقاء والالم ما يميز الشيخ علي الطنطاوي أن كتبه مثرية مهما كان موضوعها، تجد في الكتاب الكثير عن الادب والادباء والمعلومات التاريخية والشخصيات السياسية، وكأنك في واحة غنّاء كما أحب وصف كتب الشيخ
مواضيع هذا الجزء من الذكريات: تحدث عن رحلته إلى الحجاز -في تسع مقالات- وما تخللها من مغامرات وصعوبات ثم تكلم عن التعليم والمدرسة الأمينية بعدها ختم الجزء بعدة مقالات عن بغداد وذكرياته فيها ومنهجه في تدريس الأدب في بغداد.