What do you think?
Rate this book


224 pages, Paperback
First published January 1, 1935
لا يبرر الحرية الفكرية سوى منفعتها، ولا يبرر تدخل الحكومة ومنعها للناس من حرية التفكير سوى حقها في الدفاع عن النفس، وحماية الجمهور من أذًى مباشر. أما إذا كان الأذى مقدرًا في المستقبل البعيد، فلا يصح للحكومة أن تتدخل. فليس للحكومة، مثلًا، أن تمنع خطيبًا يتكلم عن فوائد الاشتراكية وأفضليتها على النظم الحاضرة، ونحو ذلك، ولا يمكنها أن تعتمد في منعه على أن لهذا الكلام أثرًا في أذهان السامعين قد يدعوهم إلى الهياج في يوم ما.
ولكن لها أن تتدخل إذا وقف هذا الخطيب ودعا الناس إلى الثورة على الأغنياء، وطردهم من دورهم، والاستيلاء على أملاكهم. لأنه في الحالة الأولى، يشرح نظامًا ويقارنه بالنظام الراهن، ويقول بأفضليته عليه، لكنه لا يحض الجمهور على التسلح ومفاجأة الناس بالثورة.
وإذا اقتنع الناس بصحة النظام الجديد الذي شرحه ل��م، وفساد نظامهم، فلهم من برلمانهم بابٌ لتحقيق هذا النظام، ولا يمكن أن يتحمل الخطيب مسؤولية هياجهم.
أما في الحالة الثانية، فالدعوة إلى الهياج صريحة، والجمهور ينقاد إلى الخطيب المهيج، ويستأنس بألفاظه العالية، كما يستأنس القاتل بسيفه. فهو هنا مسؤول عن الهياج، والحكومة مطالبة بمنعه.
ويصعب علينا التمييز بين الحالات التي يؤدي فيها هذا التفكير الحر إلى الهياج المباشر الحقيقي، وتلك التي لا تؤدي إلى ذلك.
إنما استقر المفكرون على ضرورة الحرية الفكرية، وعلى ضرورة التسامح فيما يحدث منها من الأضرار ما دامت هذه الأضرار غير فادحة؛ لأنه ثبت أن هناك آراء مُنع الناس من القول بها كانت صحيحة، وكان المانعون أنفسهم هم المخطئين. وهذا هو المعقول؛ لأن السلطة التي تمنع الناس من البحث في رأي ما، مؤلفة من أشخاص معرضين للخطأ، وليس أحدٌ منهم معصومًا منه.
وثبت أيضًا أن العلوم والفنون التي تخلّصت من قيود العبودية تقدّمت وأثمرت، كما نرى الآن في الكيمياء والطبيعة والطب والميكانيكيات، فإن تقدم الصناعة يُعزى إلى تقدم هذه العلوم، كما أن رُقي الحضارة نفسها يرجع إليها.
وقد يكون هناك مجال للشكوى من سرعة تقدم هذه العلوم لا من تأخرها، ولكن العلوم العمرانية والأخلاقية والشرعية والدينية كلها لا تزال متأخرة؛ لأن الناس ليسوا أحرارًا في الكلام عنها ومناقشتها. فنحن إذا قابلنا علم الكيمياء اليوم بما كان عليه أيام سليمان الحكيم، لوجدنا فرقًا هائلًا يكاد يكون كالفرق بين الطفل الذي يلعب بالنار وبين معارف مهندس يدير قاطرة. ولكن الفرق بيننا وبين سليمان الحكيم في الآراء الدينية أو الأخلاقية أو حتى العمرانية لا يزال صغيرًا جدًا، أو قد لا يكون هناك فرقٌ أصلًا.