قصائد سركون من ديوانه الأخير، الذي يضمّ قصائد موزونة وغير موزونة، بفكّ الارتباط «التاريخي» الوثيق إن صحّ القول، بين الشكل والوزن من جهة، وكذلك فكّ الارتباط المقترح من جانب بعض الحداثيين بين اللاشكل واللاوزن من جهة ثانية. وقد تمّ له ذلك من خلال إعطاء بناء القصيدة المستند بصورة كبيرة إلى المعنى قبل أي شيء آخر منْزلةً رفيعة. فالقصيدة المحكمة البناء، التي تنتظم وفقاً للمعنى هي أحد أهمّ الاقتراحات التي أتى بها سركون بولص، واستطاع عبرها كتابة قصيدة خاصّة بعيدة من تأثيرٍ واضحٍ للشعراء العراقيين ذوي القامة الرفيعة، ومن تأثير الحداثيين سواءً أكانوا من مشرقِ الشّعر أم من مغربه ثانياً
وُلد سركون بولص عام 1944في مدينة الحبانية التي تبعد 70 كم إلى الغرب من بغداد.
عاش طفولته ومراهقته في مدينة كركوك الشمالية. هناك جايل مجموعة من الشعراء والكتاب الشباب المتمردين والمتطلعين إلى حياة جديدة وفن جديد، ليشكلوا تلقائياً مجموعة عرفت في ما بعد باسم "جماعة كركوك"، وكان لها أثرها العميق في التطورات الشعرية والأدبية التي شهدها العراق في العقود الأربعة الماضية. أنتقل في منتصف الستينيات إلى العاصمة بغداد، ونشر عدداً من القصائد الحديثة، وترجمات عديدة من الشعر الأمريكي في بغداد وبيروت. انتقل أواخر الستينيات إلى بيروت، ليغادرها في ما بعد إلى الولايات المتحدة. عاش منذ ذلك الوقت في مدينة سان فرانسيسكو التي عشقها واعتبرها وطنه الجديد. في السنوات الأخيرة، كان كثير الإقامة في أوربا، خاصة في لندن وألمانيا.
صدرت له المجاميع الشعرية التالية: الوصول إلى مدينة أين 1985، الحياة قرب الأكروبول، الأول والتالي، حامل الفانوس في ليل الذئاب، إذا كنت نائماً في مركب نوح ، توفي سنة 2007م ، في العاصمة الألمانية برلين، عن عمر يناهز الثالثة والستين، بعد صراع مع المرض.
المؤكد أن الشعراء، أو الذين يزعمون أنهم يكتبون شعرا كأمثالي، ستتغير قصائدهم جذريا من بعد قراءة سركون بولص، خاصة هذا الديوان، وبالتحديد قصيدتي المفضلة فيه "ما يحتمل أن يكون". كان لابد من قراءة هذا الديوان ثلاثة مرات لأصل لهذه النتيجة، وأضع سركون جوار وديع سعادة وليتنافس المتنافسون :)
منذ سنوات وهذا الديوان يرافقني حيثما أكون. الشعر الصافي الذي تتقطّر فيه التجارب والتأمّلات والذي لا يخاف من التحديق في مرآة التاريخ والنظر إلى الهوّة. ولا ينسى الاحتفال أيضاً بالملذّات العابرة وبسحر الوجود. المراجعة الأطول ستكون في كتاب أكاديمي عن مسيرة سركون أعمل عليه منذ فترة
دع التيار يأخذ ما يريد دعني أبق في مكاني اعطني هذه اللحظة أريد أن أسمع القصه . كيف نحمل العبء ؟ وننهض بعد الطوفان ؟ . كيف نمضي مرة آخرى إذا ما جاءتنا أيام عرفنا فيها أعاصير لا تكف عن اقتلاع الأشجار من جذورها . من ينزع هذه الشوكه السوداء من قلبي الآن ؟ . البحث عن طول الطريق عن شيء أقوله يليق بالمقام يا إلهي ما من كلمة فيها نزف حكمة حتى لو كانت بسيطة . وماذا يقول المرء عندما يموت في مكانه الآخر ؟ . إذا ابتسم لا فرحًا بدا كأنه يبكي ما وراء الحزن . أو أن أتناسى المضائق وأنطلق صوب البحر . كم من حياةٍ يا إلهى مرت بي معولة ، آتية من هناك ، معصوبة العنين لئلا ترى . كم من حياةٍ تسحق كل يوم ؟ . معنى أن أغادر موضوع قد يستغرق الأبد .. . أن تغادر المكان الذي ألفت زواياه كأنها في خبايا فكرك انعطافات الحلم الذي لا يلوي على شيء المكان الذي سره لم يستكشف بعد لأنه صار أليفاً وأنت لن تقبل إلا بما لا تعرفه ، قابلا لما تعرف لكن عارفاً أن هناك شيئًا خبيثًا وراء بابك شيئًا لن تطاله الأضواء التيي لن تعرف سرها ولن تراها . .
البداية الأولي لي مع سركون لن تكون النهاية المميز ، الحامل للحياة فوق أكتافه أينما رحل ........................
أعوام تكر، لا يعدها أحد وإذا بي واقفٌ، لما أزل، وقد أبيض شعري بانتظار من يعرف من أو ماذا في مدخل الباب.
إن كنت مثلي فلابد أن تسأل نفسك: هل قرأت للتوّ ديوانًا شعريًا أم وصيّة موت؟ نعم, هكذا يكون الأمر.. قبل أن تغادر للبعيد, قبل أن ترحل نحوَّ العدم, قبل أن يُطبق عليكَ الصمت فمه, تترك ورقة أخيرة يقرأها العالم كلّه ويتذكرك بها دومًا. لا أحد ينسى الموتى, أو هكذا على الأقل أعتقد أنا, أبدًا لا أحد ينسى الموتى. أن ترضى بفكرة الموت, أن تُسلّم نفسك لهذا الهاجس, أن ترسم أيامك الأخيرة ..شِعرْ. شيء يُشبه ما تفعله الفلسفة بك.. تجعلك ترضى وتعدِل مع نفسك أمام هذا الطريق, أن يصير الموت شخصًا/ شيئًا حقيقيًا تكلمه, تُناجيه.. امتداد طبيعي جدًا وحدث حزين في ذات اللحظة. صورة لا تحمل ملامحها سقوطًا وانكسار, إنما موت يتجدّد ... تمامًا هذا ما يفعله الآخرين الذين صاروا هناك, والتجارب على ذلك كثيرة ولا تُحصى. أصلًا تجربة الموت عند الشاعر والأديب تختلف عن تجربة الموت عند الانسان العادي, هؤلاء يموتون بشكلٍ أعمق, بشكلٍ حاد, بأسفٍ كبير يُبرز كيف أن الحياة هشّة وخفيفة, سهلة الانكسار.. تختلف الرؤية الفنيّة بين كل أديب وآخر, لكن الموت لا يخرج عن معناه, لا يُخطئ في طريقه. هؤلاء يموتون أكثر من مرة ويعودون للحياة, يموتون ثم يعودون وفي كل مرة يموتون على اعتقاد أنهم لن يعودوا مطلقًا, إلى أن يرحلوا للأبد وفي اعتقادهم أنهم سوف يعودون هذه المرة, العكس دائمًا يجري في عِرق الألم, عِرق الوجع الذي يصوّر الحياة في أعينهم كما لم تكن أبدًا. وكما قال درويش مرّة: "أعادوني من النشوة إلى الوجع.. أهذا هو الموت؟ ما أجمله! أهذا هو الفارق بين الحياة والموت؟ ما أكبره!" لا نستطيع أن نأخذ بكل الاعتبارات التي تصوّرها كل فردٍ من هؤلاء الشعراء وهو يرى الموت أمامه, ما لونه؟ وشكله؟ وعلى أيّ هيئةٍ جاء؟ الاستعداد للموت, لحفل الجنازة, لتأبين الجسد الذي احتمل أكثر من طاقته, القصائد الأخيرة والتي يكون بعضها الهويّة الشعرية للشاعر, خوف الشاعر من موت القصيدة, موت المعنى, والإبداع والكتابة, لإن الاعتقاد السائر أن الموت الحقيقي يمسّ الجانب المادي, الجانب الطيني من الجسد, أمّا روح الانسان فتقاوم هذا الموت, الأثر الأدبي الذي يتركه الشاعر خلفه هو ما يخلّده طويلًا في قلب العالم وذاكرته.
مثل السيّاب والدواوين الأخيرة بعد أن استفحل السُل به, وتشهد على ذلك قصيدته (رئة تتمزّق): الداءُ يثلجُ راحتيَّ ويُطفئ الغد في خيالي ويشلّ أنفاسي ويطلقها كأنفاسِ الذبال تهتز في رئتين يرقصُ فيهما شبح الزوال مشدودتين إلى ظلام القبر بالدّم والسعال واحسرتاه! كذا أموت كما يجف ندى الصباح؟ يا للنهاية حين تسدل هذه الرئة الأكيل بين السعال على الدماء، فيختم الفصل الطويل
أيضًا لا أنسى دنقل وأوراق الغرفة رقم 8, أساسًا لا أستطيع أن أنسى حكاية السرطان الذي نخر جسده النحيل, ومشاهد الموت المتكرّرة في هذا الديوان بالذات. لا أستطيع أن أنسى أن دنقل قاوم الموت بهذه القصائد, حاول أن يصمد أكثر, لكنه في النهاية غادر بهدوء. حتّى درويش والجداريّة.. لمّا يتعرّى الموت, يتعرّى ضعفه, وحده محمود عايش هذه التجربة, أدرك حقيقة الأمر عن قرب, عن عمق, وهذا اللون الأبيض الذي يأخذ منحنى مُعاكس كما حدث مع دنقل, النظرة الخاصة التي تحكمها معاناة درويش كانت جليّة في الجداريّة, من الحرف الأول إلى الأخير.
أمّا عن (عظمة أخرى لكلب القبيلة) فهو ديوان أقرب للفخّ. وصيّة موت تحمل أكثر من تأويل, وقراءة واحدة لا تكفي.. أبدًا لا تكفي, ستقرأه المرة الأولى ويتشكّل في رأسك معنى, ثم تقرأه في الثانية ويتشكّل معنى ثاني, تشعر أن القصائد جميعها في المتناول, سهلة الفهم والقراءة, لكن في الحقيقة هي أبعد ما تكون عن ذلك, هذا النوع من القصائد, هذا اللون من الكتابة, هذا العُمق يحفظ للقصيدة رمزيّة خاصة, رمزية قد تكون صعبة في أغلب الأحيان لكنها قريبة من القلب, تلمس القلب, توغل في اللمس. يبدأ الديوان بقصيدة الكرسي, ويُنهي الديوان بقصيدة كرسي القصب, وكأنه بذلك يُشكّل حلقة كاملة, قصيدة البداية تقول: كرسي جدي مازال يهتّز على أسوار أوروك تحته يعبرُ النهر, يتقلّب فيه الأحياء والموتى
وآخر مقطع من قصيدة الختام تقول: يهتّز كرسي جدّي المواجه للنافذة يهتّز على أسوار أوروك يهتّز حتّى وهو فارغ, لا يجلس فيه أحد.
هكذا اكتملت الحلقة, ورحل الشاعر إلى اللا رجوع, هكذا انتهت عند المكان الذي بدأت منه, صارت دائرة تامّة, وكأنه كان بذلك يخبرنا أنه هو أيضًا أنجز ماكان مُكلّف به في هذه الحياة, أكمل دورته كما يُقال, وأُقفلتْ دائرته, بولص الذي كان واعيًا لما كتبه هنا, في هذا الديوان الأخير, والكثير من الشواهد داخل القصائد تُدين هذا الاستنتاج, الكثير من الصور تُشير إلى الوصيّة الأخيرة, إلى فكرة الغياب الأبدية, القصائد المغلّفة بالرثاء, القصائد المُهداة إلى أرواح بعض أصدقاءه, القصائد التي تحمل روح الحكمة والنضج والاكتفاء من التجارب, التأمل والحدس المُبطن, المعنى الغامض والذي يحمل داخله أكثر من معنى آخر, انطلق بولص من الذات إلى العالم, بحزنٍ مبحوح وشعر نثري له نغمة عميقة.. ورمى آخر عظمة لكلب القصيدة, كلب الكتابة في داخله.
هذا العالمُ حديقة أشواك *** يصل اليها عارفاً أن الكلمة مثل حصانه النافق, دون حفنة من البرسيم قد لا تبقى مزهرة بعد كل هذه النكبات! *** حبل السرة ام حبل المراثي ؟ لا مهرب فالارض ستربطنا الى خصرها ولن تترك لنا ان نفلت مثل ام فجوعة حتى النهاية *** وباي وجهٍ ستاتينا هذه المرة ايها العدو ؟ *** اليوم اريد ان تصمت الرياح كأن كمامةً اطبقت على فم العالم *** قال الرجل فات الامل زاد الالم *** تطفح عزلتي مثل جرة منسية تحت حنفية الصمت *** اي علقم اشرب اي ايقاع اتبع حتى اتحاشي الجنون *** دع هذه المدينة تسقط في هوة ايامها وانا وانت نتطوح في شارع العزلاء سكارى *** هذا الحلم الاقوى من الواقع هذا الوهم الاجمل من الحقيقة *** اجمعُ نفسي عارضاَ وجهي للبرق وأنا اهذي بانتظار أن تتركني الموجة على شاطئ مجهول مقيداَ الى حَجَر.
هذا كتابٌ آخر سيأخذ مكانه بجدارة فوق رف المسروقات الخاص بي وهو ركنٌ عزيز في مكتبتي، حيث تتحول الكتب بقدرة قادر من "تم استعارتها" إلى "تم السطو عليها" .. وأنا -ياللعجب- فخورة بتلك السرقات التي أحسبها بريئة :) سركون بولص .. هذا المبدع .. من أين أبدأ!؟ يقول سركون بولص في قصيدته "نصف بيت" وهي قصيدة قريبة إلى قلبي بحق:
"" نصف بيتٍ لأبي تمام: "ألا ترى الأرض غضبى والحصى قلقٌ..." ظل يتقلب اليوم كالزَبـَـد الجريح على ساحلٍ مقفرٍ في رأسي كأن الخليقة كلها تصرخ اليوم بحثاً عن شطرها الآخر وفي غياب القافية نصغي إلى هذه الموسيقى تأتينا من لا مكان مثقلةً بأعجب الأخبار أشبه بالأنين، أشبه بدردمةٍ خافتةٍ لبذورٍ يابسة في يقطينةٍ حركتها رياح الخماسين
""
هكذا يرى سركون بولص علاقته بالشعر وباللغة المنغمة. أتعجب من أين يأتي بالجمل الشعرية الغريبة، وبتراكيبه اللغوية الصادمة التي تأتمر كلها بأمره، كأنما هناك عقدٌ سريّ بينه وبين اللغة .. تهادنه ويهادنها اللغة عنده لها مذاقٌ حريف قوي، لاذعٌ في بعض الأحيان ولكنك رغم قسوته تحبه وتلتذّ به.
تأمل معي اسم الديوان: "عظمة أخرى لكلب القبيلة" !!! .. بحجم الأفق هي مساحة التساؤلات التي يفردها أمامك لتأويل مغزى العنوان. وقِس على هذا كل ما بين دفتيّ الكتاب تقريباً.
"عظمة أخرى لكلب القبيلة" هي أول مرة لي مع سركون بولص وحتماً لن تكون الأخيرة.
مُمتعٌ جداً هذا الآشوريّ ، قصائدهُ تنضحُ بالكثيرِ ، بالأسئلةِ ، بالهذيانِ ، بالتأملِ ، بدمِ العِراقِ ، بالشعرِ و أسئلتهِ : أموسيقى فقط ؟ أم قافيةٌ أم معنى كيف ابدأُ الى أينَ أنتهي ؟ مَنِ الكاتبُ ، أنا أمِ الظِلُّ ؟! و غيرها الكثير ، لهُ لغتهُ المميزةُ ، لهُ رؤاهُ و تصويراتهُ النائيةُ عنِ المُعتاد . أجدُ نفسي محظوظاً بمعرفتي هذا الآشوريّ .
بَعضُ اقتباساتٍ :
فَأسِ التتريِّ المقذوفةِ من على ظَهرِ الفرَسِ .. ما زالت تطيشُ منذُ ألف سنةٍ في فضاءِ أياميَ .
*
هذا العالمُ حديقةُ أشواكٍ ..
*
لو أنَّ أحداً تجرأَ على الخروجِ ، فالشتاءُ غُرابٌ أسحَمٌ ، يهبُّ في وجههِ كعباءةِ أرملة .
*
تطفَحُ عُزلتي مِثلَ جرّةٍ منسيةٍ تحتَ حنفيّةِ الصمتِ . أنا مليءٌ ، تَقدمْ ، أيها الظلُّ ، ادخل إلى بيتيَ . و انهَب ما تشاء .
*
معنى أن تُغادِرَ .. موضوعٌ قد يستغرقُ الأبَد .
*
لا الغابةُ بلِ الشجرةُ ، وحدها ، تتلقى الضربة .
*
للكلماتِ جَبروتٌ -
قُلْ : شَيطانُ .. و يغُمى منَ الرُعبِ على اليزيديِّ .
قُلْ : اللهُ .. و انظُر كيفَ تشتعِلُ النِيرانُ .
*
عذبوا الجُثةَ حتى طلعَ الفجرُ مُنهكاً و قامَ الديكُ يحتجُّ .
*
في عالَمِ الضجيجِ القاتلِ ، نحيا في كينونةِ العصا و الجزرة .
*
مَن يحترقُ ، يَحلمُ بالجنةِ . مَن يغرقُ في النعيمِ ، لا يريدُ أن يرى النيرانَ .
هذه المعالجات لا تبدو منظورة لي فهي أقرب إليّ من حل الوريد، هذه اللغة التي طالما افتقدت تنساب في دمي بيسر ولطف، لسنا محظوظين عندما فقدنا سركون بولص.. لسنا أبداً كذلك ..
يُحتمل أنني -رغم كل الظواهر، مجرد رقعة بشريّة تتنقلُ في جُغرافية الألوهة العاقر. أو بيدق ربانيّ تحركهُ يدٌ مجهولة على رقعة شطرنج..
يُحتمل.. يُحتمل أن آدم لم يُطرد من الجنة، وحواء داست بقبقابها على رأس الثعبا.
هذا عادةً ما يحدثُ في الليل، عندما تحلمُ بما يكون أو يحتملُ أن يكون.
***
جسدي الحيُّ في لحظته، هذا التنور الذي لا يكف عن تدوير الأرغفة للجياع المزدحمين على بابي.
***
آه، يا أوجه التواريخ الجريحة.
***
إلهي من ينزع هده الشوكة السوداء من قلبيّ الآن؟
***
كم من حياة، إلهي، مرت بي مغولة، آتيةٌ من هناك، معصوبة العينين لئلا ترى!..
*****
آه سركون بولص، يمكنني أن أقول أن هذا الديوان ألقته عليّ سلفة صالحة من أسلافي في السماء، حين شاهدت كم يبست روحي وكم حشوت بالجفاف، أبتلت روحي وقرأت حين أنهيت الديوان "ذهب الظمأ وأبتلت العروق" ثم شعرت بالندم لأني سكبت الديوان على قلبي دفعة واحدة في ساعتين، مثل هذه الدواوين تقرأ على مهل، بنت صبر الاله، سركون شديد الخضرة أشد الأعشاب خضرة، ويلقي مزاجه على المكان، يصفه بمنتهى الشاعرية حتى يتحول المكان لقصيدة أو تتجسد القصيدة في مكان، تنوعت القصائد في الديوان من ممتازة إلى عادية أو شديدة العادية، لكنه بشكل عام يحمل طابع مزاجي واحد، طابع مودع الحياة الذي لم يُحد فيها إلا الغربة واللا جدوى ومع كل هذه الغربة والوحدة في آخر المطاف لازال الحزن عراقيا.. سأعود إلى قراءة الديوان مرة وأخرى وآسفة لأنني تأخرت في الوصول.
”كلّ ما نحلمُ به ألا تعصفَ بنا هذه الأعاصير: زاويةٌ ننامُ فيها، صفحةٌ بيضاء حيثُ لا تكذبُ الكلمات هذا ما صلّيتُ من أجله الليلة، ولم أعرف معنى صَلاتي“ كانت هذه الزاوية؛ وهذه الصفحات الممتلئة بِالهذيان؛ هي كِتاب سركون بولص.
سركون لا تكذب كلماته؛، فيقول ” الميت في تابوته” لا يطالب بالبلاغة“
لا يكتب لِكي يُقرأ؛ ولا يقول لكي يُسمع؛ هو مُتقين أنه ما مِن أحد هُنا. فيقول: ”وإذا ما صرخنا، إذا ما أفصحنا عن أصواتنا الأخرى فحتى الملائكة ستخفي رؤوسها تحت أجنحتها الثقيلة لئلا تسمع الصرخة“
يُظهر هذيانه بِشكل صريح؛ وقريب من القلب. سركون تائه. لم يعد يعبأ بِالدهشة. فتجده يقول” ربما كان هذا هو المعنى: أن تتركَ المحطات خالية وراءك أن تُغادر قبل أن تغادرك الاشياء “وأن تتعلم كيف تحيا
هذيان سركون؛ سريالي من نوع مُذهل، سريالية منطقية، قريبة إلى عقلك قبل قلبك .. فتجد صوره تقف على حافة هذا العالم وتصرخ لكن كُتب: علي أنا” أن أكون السائر، أرى اللوحة وأرقب إسفنجة المعنى “وكيف تتشرب أسماء أيامي كأنها، لا أدري كأنها ماذا
كقارئ، ستُجهدك رمزية الكلمات، والصراخ ما بين السطور، لكن ما يلبث سركون الإ أن يُعْطِيك الحل فيقول: وَقُل أنني متعب، سأنام ” وقل سأنام، لأنني تعبت.. ونم“
قد يقول لي أحدهُم وقد لا يقول : تعال رجاءً , قل لي ماهي القصّة . ما هذا المظروف على المائدة .
تقطُّرات الشحم المائع من ذكرى جُثّة الغائب , صنّارةُ االصيّاد في غلاصم السمكة – ماهي القصّة . -أذهبُ إلى البحر في هذه الأيّام لأنني مريض , أحتاج إلى أنسَام عليلة .
أجلس في المقهى على الرَمْلة متطلّعاً إلى الصخور عندما تغربُ الشمس . لا أحد يأتي هنا. أحياناً , امرأةٌ وكلبُها . صيادٌ عجوز . نوارسُ تطفو في الهواء , مناقيرها البرتقالية , عيونها الصفراء ترصد البحر وبين حين وآخر قد تحظى بسمكة تَشي بها حراشفُها الساطعة تحت الماء .
أشربُ بيرتي على ��هلي , ثم أمضي في سبيلي . لن أعرف أبداً ماهي القصة . لن أفتح المظروف .
لا تستطيع إلا أن تشهق إعجابا وأنت تقرأ هذا الديوان، حينها فقط ستفهم لماذا اختار سركون بولص الشعر على الحياة وخير العزلة فلم يتزوج ولم يعرف أي حب سوى الكتابة. ربما لأنه أدرك أن مغامرته في الشعر ستكون مفتوحة على حياة لا يقوى المرء على أن يعيشها إلا إذا كان مستعداً لأداء مناسكها وحيداً، لقد قام بولص في ديوانه الأخير هذا بإغلاق المعبد على أنفاس مصليه وفرض عليهم خشوعا تأمليا جميلا ليحسسهم بمدى روعة وطمأنينة عباراته.. كأروع وداع ممكن أن يقدمه شاعر للحياة.
ما معنى الحِداد؟ الميت في تابوته لا يطالب بالبلاغة الأيدي في فيء السطيحة تهُّش ذباب الصيف العنيد وماذا يقول المرء عندما يموت في مكانه الآخر؟ [....] وأنت أيها الميت ترقد بكل بساطة على ظهرك وتختصر الكون"
"لا أنا بالهادئ، البارد الأعصاب ولا بالمتوجس، القلق، المتوثب على أقل خشخشة ونأمة حفنة بعد حفنة، يتذرى العمر. كأنه الحصاد والمذراة في اليد، والريح مقبلة.
تطفح عزلتي مثل جرة منسية تحت حنفية الصمت..
في أوقات كثيرة وعند جمل عديدة كنت أتمنى لو أراه أمامي وأعلم منه كيف يمكن أن نكمل بعد أن نصل لهذه المعرفة، أو هذا الوصف تحديدا؟ كيف يمكن أن نتحاشى ضياع ايماننا وثقل حياتنا ونستمر؟ ولكنها، على ما يبدو، خطانا التي سنبقى نقطعها وتقطعنا، ولعل ما يميز طرق الشعراء أنهم امتلكوا نبوءة ما، ونحن حفرناها في قلوبنا.
ثم يكمل سركون نصه: أنا مليء تقدم أيها الظل ادخل بيتي وانهب ما تشاء"
هذا الرجل يخط بكلماته لوحات مرعبة..مهوول في وصفه..الكلمات تنسل من بين يديه في سلاسة وعنف..هو هذا التناقض فعلاً، ما إن يبني سطرًا حتى يعود ليهدمه في السطر التالي..القصيدة تتدفق كنهرٍ لا يعرف وجهته، أو كعازفٍ ترك آلته تكمل اللحن وحدها..أشعر كأن قمة رأسي انتزعت مني بعد هذا الديوان الزخم بالدهشة والإبداع والخيال المطلق.. سركون بولص سيجعلني أعيد النظر في تذوقي للشعر، لن أرضى بالمشاعر السطحية التافهة أو فقر الخيال، أو الاستسهال في اللغة والوصف المباشر..