What do you think?
Rate this book


175 pages, Paperback
First published January 1, 2010
" العودة التي تشكل تهديداً حقيقياً لرغبتي في الحياة حيث نشأت، وحيث اعتدت أن أكون، وحيث ترسخت جذوري الأولى من دون ارادتي، ومن دون يد لي في ان أكون رغماً عني فلسطينياً او سعودياً، لا فرق في الاسم فالذي يلتصق بالمكان لا تعنيه الصفة التي يكونها.
"لم تقدم القضية الفلسطينية إلا باعتبارها قضية أمة، قضية شعب، وظلت قضية الفرد الفلسطيني في الأرض المحتلة والمنافي المتعددة أزمة مغيبة، وانسانيته محشورة وسط مصائر الآلاف من مماثليه، فحين يقدم قضيته يتورط الفلسطيني بكينونته و ذاته، ويتحدث باسم شعب كامل مشتت مجتمع في اسم.
" عالم مجهول بيوت الوافدين العرب! لا يعرفه أحد ،ولم تسلط عليه العدسات، فالذين يتحدثون عن السعودية لا يمتلكون قدراً كافياً من الجرأة للحديث عنها أثناء وجودهم فيها، ينتظرون أن تنتهي عقودهم، خارجين بحصيلة السنوات ثم إذا حصلوا على تأشيرة الخروج النهائي صاروا يطلقون اللعنات والشتائم صوبها، متناسين الحياة التي لم يحلموا بها لولا الفرصة التي اتيحت لهم للعمل فيها.
" انه شعور مضاعف باستلاب الهوية، ما بين تجرده من ثقافته الأصلية التي وفد منها وبالتالي ابتعاده عن امتداد ينقطع بالمكان الجديد، وما بين الحياة التي يحياها متشرباً ثقافتها بشكل مشوه من دون أن يكون له منها نصيب ولا لانتمائه إليها أي معنى أو تأثير .
فحياتي التي أعيشها لاتتوقف عن دفعي باتجاه الأسئلة، هل أنا فلسطيني بولادتي؟! أم أنني أردني بسبب جنسيتي التي أحملها؟! هل أنا سعودي بحكم حياتي التي عشتها وثياتي التي ألفتها؟ هل أنا بلا انتماء أصلاً؟! هل مازلت جاهلاً لايجب عليه أن يعرف ماهو وما ينبغي أن يكون عليه؟! كان هذا ورداً يومياً أتلوه في كل وقت، وكل ليلة قبل أن ألجأ إلى فراشي ..
لقد كان أكثر المغتربين الفلسطينيين في ذلك الوقت، إن لم يكونوا جميعاً، يبنون سوراً عالياً بينهم وبين أن تنشأ لهم علاقات من أفراد المجتمع السعودي إلا نادراً، وفي أطر محددة! ليس من السهل تفنيد أسباب هذا السور الذي نشأ بين الفريقين، إذ أن كلا منهما في ملكوته يظن بأفضليته، يؤمن الفلسطينيون أنهم أكثر وجاهة وعلماً وثقافة! وأن لهم من الفضل الكثير في تغيير البلد، وعلى النقيض ينظر السعوديون إلى الفلسطينيين باعتبارهم أقل شأناً وأنهم حفنة من المرتزقة اللاجئين! الذين جاؤوا لينهبوا ما في البلد من خيرات، هذا اعتقاد سائد وليس مطلقاً، ولا أميل إلى كفة على حساب أخرى، لابد أن اختلاف العادات من جهة، والقلق الذي فرضته خصوصية المجتمع السعودي من جهة أخرى، وانعدام الحرص على فهم الآخر، كل هذا صنع فجوة كبيرة في التواصل بينهما، وكلٌ في فلكة يجمع حساباته باعتبار يقينه ولا ينظر إلى الآخر إلاباعتباره دخيلاً طفيلياً..!
إن حياتنا المشتركة مع أقراننا السعوديين، شكلت في دواخلنا عقدة نقص اسمها الجنسية، فكوننا لسنا سعوديين جعلنا في مهب التعاسة والإحباط، وكل منا له في هذه الجنسية شأن، فهناك من يبحث عن انتمائه، وهناك من يبحث عن الدراسة الجامعية، وآخر يرغب في الزواج من حبيبته السعودية التي لا يوافق أهلها على تزويجها لأجنبي، وهناك من يود أن يحصل على فرصة لممارسة أنشطة تجارية، وكثيراً ما كنا نستمع لأحلام بعضنا تتوسطها أمنيات مثل: آه لو أني سعودي! ولو كنت سعودياً لفعلت وصنعت! كل ما حولنا كان يساهم في تنمية هذا النقص ..
لقد عشت في الرياض فترة من أروع أيام حياتي، وبرغم كل ماقيل لي عنها قبل زيارتي لها، إلا أن الأمر كان مختلفاً معي، لقد أحببت هذه المدينة حباً عنيفاً، وشعرت بارتباط لاوصف له بيني وبينها، لقد أمضيت ياعات طويلة وأنا أجوبها ليلاً إما ماشياً على قدميّ، وإما طائفاً شوارعها بالسيارة، لا تشبه الرياض مدينة أخرى، فهي رغم الإسمنت والمباني الشاهقة، تمنحني إغراءاً لا أعرف سره، وتشعل بي رغبة في الحياة ..!
قضينا ذلك الصيف في القدس، ولأن الأشياء تأتي دائماً مخالفة للتوقعات، فقد تم إبلاغي بأنني لم أتمكن من الإحتفاظ بالهوية التي جئت لأجلها، وبالتالي فقداني إمكانية العودة إلى القدس حال خروجي، هذا القرار الذي أبلغتني به وزارة الداخلية أفزع استقرار العائلة وأحلامها، لكنني بكل هدوء قلت إنني أرغب بالعودة إلى السعودية، أنا لا أريد مكاناً آخر لأعيش فيه غيرها، وإن كنت أحب فلسطين، لكنني لا أريد العيش فيها، بلا استثناء ثار الجميع علي، واعتبروا هذا انسلاخاً عن هويتي، إنني حتى الآن أجهل أن تكون لي هويج غير تلك التي تشكلت في السعودية، وشخصية غير التي عاشت فيها، إنني أعي ما الذي يعنيه ارتباط عائلتي بفلسطين، إنه باختصار يشبه ارتباطي بالسعودية، هم نشؤوا في القدس، وأنا نشأت في جدة، هم درسوا في القدس، وأنا درست في جدة، هم لعبوا في حواري القدس، وأنا لعبت في حواري جدة، هم عانقوا روائح البهارات في أسواق القدس، وأتا مخنوق بحب الرطوبة التي تعانقني بها جدة! لا أبرأ من فلسطينيتي، فأنا أحب القدس، ميلادي، واسمي، والأوقات الصيفية التي قضيتها فيها، وقد أعود يوماً لزيارتها، كأي إيطالي ولد في روما، ثم قضى حياته كلها أميريكياً، كأي هندي عاش أعوامه الثلاث الأولى في نيودلهي ثم أكمل حياته كلها بريطانياً، أن تحكي بما لا تحمله إلا الأرض التي عشت فيها، أن تنظر حولك فتجد البحر والوجوه المتعددة، أن تضيع فلا تجد إلا الطريق التي تعودتها..! لقد عشتُ سعودياً و فلسطينياً في آن واحد، سعودياً بالحس العالي تجاه الأرض التي عشت مغروساً فيها، وفلسطينياً بما دسه إزميل المسؤولية في جذوري تجاه كوني غريباً صاحب قضية، والغرباء لابد أن يعتنوا جيداً بأنفسهم ليصبحوا ذوي شأن، ربما لم أكن لأحصل على الطريق التي أرديها لو لم أكن كذلك، وربما لو أنني فكرت بشكل مغاير لكنت شخصاً آخر لا يعنيه من الحياة إلا اجترار روتينها، وحساب تعاقب الأيام دون أن يكون لذلك معنى، إن حبي للأرض التي خلقت مني هذه الشخصية لا يقبل المزايدة أو المساومة، كما لن أقبل ولو للحظة تشكيكاً في جذري البعيد هناك، وإن كان ثمة من لايرى الشمس في ظهيرة صيف جدّاوي، فإنه ضريرٌ بامتياز..!
صغار الناس يعشقون السلطة حتى لو كانت بسيطة، حتى لو كانت بلا مقابل يستحق
الفلسطينيون الذين بدؤوا النزوح إلى السعودية في منتصف القرن الماضي، يشبهون جميع الوافدين العرب الذين جاؤوا إبان طفرة النفط، لم يكن يجمعهم سوى هدف واحد: جمع ما يؤمن حياتهم والعودة إلى ديارهم، وإن كان هناك من قال أنه يساهم في تنمية البقعة الصحراوية الناشئة، إلا أن الحقيقة ليست كذلك.
فالمساهمة التنموية إن لم تكن ذات مردود يعادل جهدهم في العمل، فإن أحداً لن يكلف نفسه عناء الغربة والعيش في ديار لايعرفها، وهذا أيضاً كان واحداً من أهم دوافع أبي لقبول الخروج من قدسه، برفقة أمي هذه المرة، تصحبه الرغبة في بناء استقلال لا يديره إلا هو، وحياة لا يمكن لغيره أن ينشئها أو يتدخل فيها ..