ووجه كون الفتوى صناعة أن المفتي عندما ترد إليه نازلة يقلب النظر أولا في الواقع وهو حقيقة الأمر المستفتى فيه إن كان عقداً من العقود المستجدة كيف نشأ وما هي عناصره المكونة له كعقود التأمين والإيجار المنتهي بالتمليك مثلا والديون المترتبة في الذمة في حالة التضخم فبعد تشخيص العقد وما يتضمنه عندئذ يبحث عن الحكم الشرعي الذي ينطبق على العقد إن كان بسيطاً وعلى أجزائه إن كان مركباً مستعرضاً الأدلة على الترتيب من نصوص وظواهر إن وجدت و إلا فإجتهاد بالرأي من قياس بشروطه واستصلاح واستحسان إنها عملية مركبة وتعمل وصنعة بالمعنى الأنف كما سترى.
وباختصار فإن مرحلة التشخيص والتكييف للموضوع مرحلة معقدة وكذلك مرحلة تلمس الدليل في قضايا لا نص بخصوصها ولا نظير لها لتلحق به.
وسنرى من خلال مباحث هذا الكتاب كيف تطورت صناعة الفتوى من عهد الصحابة إلى عهود الأئمة والمجتهدين والفقهاء لا من حيث تطبيق النصوص أو الأدلة على القضايا ولكن أيضا من حيث التوسع في الاستدلال والتعامل مع عامل الزمان كمرجح في ميزان معادلة النص والواقع في جدليتي المقاصد الكلية العامة والأحكام الجزئية الخاصة.
هذا التطور المتدرج في خطوط متعرجة لم يقتصر على الدليل والواقع وإنما شمل أيضا القائم على الفتوى الذي لم يعد المجتهد المطلق على ما سنصف بل يصبح طبقاً لقانون الضرورة والحاجة الفقيه المقلد الناقل.
ويصبح اختيار المقلدين بمنزلة اجتهاد المجتهدين فيما سماه المالكية "بإجراء العمل" لترفع القول الضعيف إلى مرتبة القوي والرأي السقيم إلى درجة الاجتهاد الصحيح بناء على مصلحة متوخاة أو مفسدة متحاماة.
هو الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، مواليد سنة 1935م في تمبدغة في موريتانيا، أحد أكبر العلماء السنة المعاصرين ونائب رئيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين تم اختياره من قبل جامعة جورج تاون كواحد من أكثر 50 شخصية إسلامية تأثيرا لعام 2009 ، وقد فاز بلقب "أستاذ الجيل" في جائزة الشباب العالمية لخدمة العمل الإسلامي في دورتها السابعة في البحرين .
نشأ الشيخ وتربي في بيت علم وورع حيث نهل من معين علم والده الغزير القاضي الشهير الشيخ المحفوظ وأخذ علوم العربية عن محمد سالم ابن الشين ،وعلوم القرآن عن الشيخ بيه بن السالك المسومي, ودرس جميع العلوم الشرعية الإسلامية في هذه المحظرة. وينظر الكثير من المسلمين إلى الشيخ كأحد رموز الاعتدال والوسطية, كما أخذت فتاواه وآراءه مكانتها في الغرب كواحدة من أهم المصادر والمراجع للأقليات الإسلامية التي تعيش في تلك الدول. حيث تتميز أَراءه بالاستيعاب العميق للأصول الشرعية، والمعرفة الواعية بالواقع المعاصر، مما يمكنه من إيجاد الكثير من الحلول لما يستجد من عقبات في طريق المسلم المعاصر.
سافر الشيخ بعد ذلك في بعثة إلى تونس لتكوين القضاة وبعد عودته تنقل في عدة مناصب منها عين رئيسا لمصلحة الشريعة في وزارة العدل ثم نائبا لرئيس محكمة الاستئناف ثم نائبا لرئيس المحكمة العليا ورئيسا لقسم الشريعة الإسلامية بهذه المحكمة.
ثم عين مفوضا ساميا للشؤون الدينية برئاسة الجمهورية حيث أقترح أنشاء وزارة للشئون الإسلامية فكان أول وزير لهذه الوزارة، ثم وزيرا للتعليم الأساسي والشؤون الدينية، ثم وزيرا للعدل والتشريع وحافظاً للخواتم، ثم وزيراً للمصادر البشرية – برتبة نائب الرئيس - ثم وزيراً للتوجيه الوطني والمنظمات الحزبية والتي كانت تضم وزارات الإعلام والثقافة والشباب والرياضة والبريد والبرق والشؤون الإسلامية.
وأمينا دائما لحزب الشعب الموريتاني الحزب الوحيد الحاكم الذي كان عضوا في مكتبه السياسي ولجنته الدائمة من سنة 1970- 1978 م
كتاب تأصيلي .. عميق جدا ، و مفيد جدا .. قرأته مرتين من الجلدة إلي الجلدة - غير مرات التصفح السريع أو قراءة مبحث معين - و في كل مرة أشعر أنني أقرأ هذا الكتاب للمرة الأولى !
قرأت الجزء المتعلق بالفتوى لغرض بحثي. يعتبر الكتاب من الكتب التي لم تكن متخصصة بشكل مباشر بموضوع صناعة الفتوى بل جُمع معها موضوع لا علاقة له وهو فقه الأقليات. لكن هذا الجزء الصغير أضاف لهذه الصناعة شيئًا عميقًا حين تطرق لمحاولة جعلها علمًا منفردًا بذاته يستطيع الباحثين فيه أن يضعوا له القواعد والضوابط، من خلال الحديث عن تطور الفتوى ونماذجها وكيفية الاستفادة منها.