قراءة في قصّة بينوكيو لا أحد يعرف لماذا وضع كارلو كولّودي في العام 1881روحاً لخشبة في قصة بينوكيو، كانت بداية مثيرة وغريبة وخارجة عن المألوف: "كان ياما كان... ملك! سيقول فوراً قرّائي الصغار". ذكاء كولّودي يظهر من خلال هذا النص الافتتاحي. القرّاء الصغار سيظنون أنها حكاية تروى للأطفال فقط، أي طفل يقال له: كان يا ماكان. سيُجيب بتعجّل ودهشة: ملك! في القصّة - بشكل عام - هناك معنى ظاهر للأطفال، لكن وبشكل آخر هناك معنى لا يجب أن يغفل عنه القرّاء الكبار. في الحقيقة لم يكن هناك ملك، كان كولّودي ليبرالياً اجتماعياً، يكره الملوك ورجال الكنيسة، وبدل الملك كانت هناك روحاً بُثّت في خشبة عاديّة جداً وغير مُختارة، لم تكن من النوع الثمين، لكنّها خشبة تتحدّث، خشبة مُتمرّدة تفتعل المشاكل، تشعر وتتألم أيضاً. خلق كولّودي إنسانه الخشبي - بشكل متعمّد - جاهلاً ومتهوراً، طائشاً وشيطانياً أحياناً، وهذا معاكس للطريقة التي توصف بـ "الحكيمة" التي خُلق بها آدم - يمكننا أن نجد في الكتب المقّدسة أن آدم يفهم بموهبة من الإله لا بتجربة - أيضاً في الكتب المقدّسة نقرأ أن الله نفخ في أنف آدم من روحه، في المقابل حينما نحت جيبيتّو أنف بينوكيو جعله يكبر ويكبر وربطه بشكل يبدو غريباً بالكذب، بصورة غير مباشرة يريد كولّودي القول أن نفخ الروح في الأنف، لم يكن سوى أكذوبة. سيرة المؤلف المعارضة للتعاليم الكنسية تذهب بهذا الإتجاه وتأخذنا لهذا المعنى. ويمكن ملاحظة أن القصة بظاهرها التربوي للأطفال، لم يرد فيها أي ذكر لأيه توجهات دينية. معاكسات كولّودي لقصة الخلق، لم تكن محصورة في هذا الجانب فقط، ففي طريق آدم لمعرفة الحقيقة، اكتشف أنه كان عارياً، فستر نفسه بورق شجر الجنّة، بينما نجد بينوكيو حينما أراد اكتساب المعرفة - متمثلاً بالذهاب إلى المدرسة - صنع له جيبيتّو الملابس "بدلة من الورق المزهر، زوج أحذية من لحاء الشجر، وقبّعة من لب الخبز". لم يُسجل كولّودي اعتراضاً على الكتاب المقدس فقط، بل اعترض على أفعال رجال الدين أيضاً، في مشهد يظهر فيه الثعلب والقط محاولين خداع بينوكيو لسرقة ليراته الخمس، يوجه الثعلب كلامه لبينوكيو "يجب أن تعرف أن في بلاد المغفلين يوجد حقل مقدّس، يُطلق عليه الجميع اسم حقل المعجزات" لنلاحظ أن كلمتي "المقدّس والمعجزات" مرتبطتان بالدين. يستمر الثعلب بعملية الخداع ويقول أنه بعد زراعة الليرات في هذا الحقل بعد سقيها بماء الينبوع ورشة ملح - وهذه اكسسوارات طقوس دينية أيضا - ستنبت من الأرض ليرات ذهبية بما يعادل سنبلة قمح ناضجة. مثال إنبات سنبلة القمح بأعداد قمح مضاعفة، هو من أشهر الأمثلة الدينية على زيادة الحسنات. في النهاية بينوكيو كان يريد أن يغدق العطايا لوالده، وللثعلب والقط بعد أن اقتنع بطيبتهما، لكنّهما في الأخير - مثل أي رجال دين مُخادعين - بعد أن عرض عليهما جزءاً من الأرباح كنوع من الشكر، قالا غاضبين: "فليشفع لك الرب. نحن لا نعمل من أجل مصالح خسيسة". في المقابل عندما ساعدت الحمامة بينوكيو نجد أنها "كانت لا ترغب حتى بسماع كلمات الشكر، لأنها قامت بعمل خيّر، عاودت الطيران فوراً واختفت". الطريف أن الثعلب يصف صديقه القط بأنه "يمتلك قلب قدّيس". ويمكننا أن ملاحظ تسلسل بناء شخصية بينوكيو، فمن مشاكس مُحب للأكل واللهو فقط، لجاهل طيّب لكنه في الوقت نفسه مُغفّل، لكلب حراسة يُكافئ بحرّيته بعد أن تم استعباده وإذلاله بسبب الجوع، تسلسل يوحي بقصّة الإنسان البسيط في القرن التاسع عشر. أما في السياسة، فلم ينس كولّودي أن ينشر ما يؤمن به بشكل لن يميّزه الأطفال، لنقرأ هذا السؤال الذي يطرحه بينوكيو على سمكة كبيرة بتمعّن "هل تسمحين وتخبريني فيما إذا كانت توجد قرى في هذا البلد ممكن أن نأكل فيها دون المخاطرة بأن نُؤكَل؟" فتُجيب السمكة مُرشدة بينوكيو إلى القرية ببساطة متناهية "يجب أن تسلك ذلك الدرب هناك، إلى اليسار" وفي [اليسار] نجد بلدة تُدعى بلدة النحلات العاملة "كانت الشوارع تغصّ بأشخاص يهرولون من هنا وهناك من أجل أعمالهم، كانوا كلّهم يعملون". هذه إشارات لميول يسارية لكولّودي حاول ترويجها في القصّة. لكن بينوكيو لا يُحبّ أن يعمل، لذلك يستجدي طعاماً من الناس، هنا. نجد كولّودي يبث أفكاره الإجتماعية، فمن لا يعمل لا يأكل، وهذا الأمر بديهي، لكنه يُعطي وجهة نظر في قضية الصدقات، فيتذكّر بينوكيو والده وهو يُخبره "الذين يستحقون المساعدة أو الشفقة، ليس سوى أولئك المرضى أو كبار السن غير القادرين على العمل ... الباقون كلّهم يجب عليهم أن يعملوا". إنسان كولّودي هو قصّة للإنسان الحقيقي، الذي يمرّ بالجهل والسخرية والدراسة والألم والاقتراب من الموت والعمل، الذي يكتسب كلّ شيء بالتعلّم. الذي يُصبح في النهاية مُستحقاً لأن يكون "إنسان" من لحم ودم، لأنه تعلّم وآثر وبذل جهده لراحة الآخرين. والذي لا يشبه - بل وينفي - وجود أي إنسان مثالي.
إشارة: أدرج كارلو كولّودي هذا النص على لسان بينوكيو "إذا لم يكن ميّتاً، فهذه علامة على إنّه حي"، وهو نص حقيقي يعبّر عن حيرة أطباء القرن التاسع عشر - زمن كتابة الرواية - في عدم القدرة على تحديد الميّت من الحي، في عام 1844 كتب أدغار آلان بو قصّة بعنوان "الدفن قبل الأوان" تتحدث عن وضع مخارج وأدوات في القبر للشخص المدفون، لذلك يتم تهيئة ظروف مناسبة له، بوضع جرس يسهّل عليه النجاة وإبلاغ الأحياء بأنه حي في حال كان حياً.
بينوكيو (بالإيطالية: Pinocchio) هي شخصية خيالية مُستمدة من رواية كتبها الروائي الإيطالي كارلو كولودي سنة 1880، وترجمت لأكثر لغات العالم، وتحولت لعشرات الأفلام، منها ما أنتجته ديزني بالرسوم المتحركة في عام 1940، والتليفزيون الإيطالي في خمس حلقات كل حلقة بمدة ساعة وذلك في عام 1972م. وتتحدث هذه الرواية عن طفل مصنوع من الخشب وله أنف طويل . وقد اشتهرت هذه الرواية خاصة في النصف الثاني للقرن العشرين بعد تطور وسائل الاعلام والاتصال. هذه الرواية الرائعة كانت حقًا مفاجأة عظيمة لي، ولقد استمتعت بمطالعتها أيما استمتاع، وأنصح أصدقائي القراء الفضلاء بقرائتها، ولسوف يقضون معها أوقاتًا ممتعة مثمرة.