نبذة النيل والفرات: تكلم الجيلي، العارف بالله، في كتابه هذا عن الحق سبحانه وتعالى من حيث أسماؤه أولاً إذ هي الدالة عليه، ثم من حيث أوصافه لتنوع كمال الذات فيها، ولأنها أول ظاهر في مجالي الحق سبحانه وتعالى ولا بعد الصفات في الظهور إلا الذات، فهي بهذا الاعتبار أعلى مرتبة من الاسم، ثم يتكلم من حيث ذاته على حسب ما حملته العبارة الكونية، وكان لا بد للمؤلف من التنزل في الكلام على قدر العبارة المصطلحة عند الصوفية، ويجعل موضع الحاجة فيها موشحاً بين الكلام ليسهل فهمه على الناظر فيه، وينبه على أسرار لم يضعها واضع علم في كتاب من أمر ما يتعلق بمعرفة الحق تعالى ومعرفة العالم الملكي والملكوتي، موضحاً به ألغاز الموجود كاشفاً به الرمز المعقود، سالكاً في ذلك طريقه بين الكتم والإفشاء، مترجماً به عن النثر والإنشاء. (neelwafurat.com)
عبـد الكريم بـن إبراهيم، قـطب الدين. لـقّب بـ "الجيلي أو الجيلاني"، نسبة إلى "جيلان" بلدة أسرته. وُلـد في جيلان العراق سنة 767 ه / 1265 م
صحب الجيلي كبار مشايخ الصوفيَّة في عصره، وأخذ من معارفهم وعلومهم في الدِين والتصوّف والفلسفة. لكنّه أحبّ الفلسفة فاعتمد عليها من حين إلى حين، وخاصّة الفلسفة اليونانيَّة والهنديَّة والفارسيَّة. ولعلّ رحلاته الكثيرة هي التي أغنته بالمعرفة والعلوم كافّة،
( من كان يعقوبيَّ الحزنِ، جلى عنه العمى بإلقاءِ البشيرِ إليه قميصَ يوسف). هكذا بعبارته الأنيقة يضع الإمام عبد الكريم الجِيلي كتاب ( الإنسان الكامل في معرفة الأواخر و الأوائل). يتحدث الجِيلي فيه عن (نظرية الإنسان الكامل) . فالإنسان الكامل هو الذي يمثل تجلي الله في الإنسان (.. كنتُ سمعَه الذي يسمع به ،و بصرَه الذي يبصر به ،و يدَه التي يبطش بها) الحديث القُدُسي. و الإنسان الكامل هو محمد عليه الصلاة و السلام، ثم يليه الأكملُ فالأكملُ من الأنبياء و الأولياء. ابتدأ الإمام الجِيلي الكتاب بالحديث عن الله في ذاته، و أَحَديته ،و ربوبيته ،و أسمائه ،و صفاته. فمعرفة المُتجلِّي (الله) تسبق معرفة المُتجلَّى فيه (محمد). تحدث أيضاً عن الصفات الإلهية الأساسية السبع (الحياة ،العلم، الإرادة، القدرة، السمع، البصر، و الكلام) . و في الكتب لطائف لا تحصى و لن تُفهم إلا بذوقٍ كما هو حالُ أغلب كتاباتِ الصوفيين. أورد الإمام الجِيلي رأياً غريباً عن أهل النار، و تصوره لإبليس وافق فيه تصور الحلاج. هناك تشابه كبير في مفهوم (نظرية الإنسان الكامل) بين الجِيلي و ابن عربي، و أنصح من أراد فهم جميع أوجه النظرية مراجعة كتاب الدكتور يوسف زيدان ( الفكر الصوفي بين عبد الكريم الجيلي و كبار الصوفية).
الجيلي واحد من أولئك المفكرين الشموليين الذين يمتلكون نظرية مكتملة، ويوظفون معارفهم الموسوعية في إرساء معالم نظرياتهم. وهو إضافة إلى ذلك أديب بارع الكلمة، رائق العبارة، وتقع نصوصه في أعلى منازل البيان. وكتابه هذا "الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل" سهل المأخذ، متصلة فصوله وفقراته بغير استطراد يبعد عن الغاية، أو تقعر يقتل الفكرة. والأهم من ذلك أن ما له من رسائل أخرى، مثل "الكهف والرقيم" و"المناظر الإلهية" و"مراتب الوجود"، تخدم النمط نفسه الذي تشكله نظريته الكبيرة المدرجة هنا، وتُفصّل كل واحدة منها جانبًا يساعد في فهم الرجل دون تشويش.