كان السجن الفرصه المتاحة لرفعة الجادرجي ليكتب كتابه الأخيضر والقصر البلوري هذا ما نوه عنه في المقدمة ، والكتاب يفصح عن بنية عقلية جدلية تجعل من مجال العمارة مدخلاً لدراسة المجتمع وتركيبته الأجتماعية والنفسية وكأنه جعل من السجن مكاناً لاستعادة وتجميع الذاكرة وإنهاضاً لما هو يومي في عمله وتحويله إلى لغة حسية ثقافية فكانت الكتابة تحرراً للذاكرة وللجسد معاً ، وهنا كان الأشتغال بالعمارة مدخلاً لرؤية التحولات السيكولوجية للسلطات وللناس معاً ، وحاول عبر خبرات البنائين والنجارين والفلاحين أن يولف طريقة فنية تجتمع فيها الخبرة الآنية لهؤلاء مع خبرة الماضي في بنية الشكل المكاني للعمارة أو لأجزاء من تراكبيها المعقدة . والكتاب نفسه أحد أهم الشواهد المعمارية في فن التجربة المهنية العملية ، وكأنه يقول ضمناً إن التاريخ الحقيقي لمكونات المجتمع لا يكتب إلا من خلال الخبرة الميدانية في أنشطته العملية ، وقاريء الكتاب يشعر أن ما يعنيه بالنظرية الجدلية للعمارة ليست إلا الرؤية الميدانية المشغولة بالتطبيق ، مع الأنتباه العميق لحركة المجتمع وهو ينمو في أتجاهات مختلفة دون أن يلغي كلية فعل التأثر بالتيارات الحديثة في العمارة الأوروبية مع محاولة نقد منهجي للموروث في أشكال العمارة التراثية وأخذ الجانب العلمي والمتقدم منه وأخضاعه تقنياً إلى السياق المعماري الحديث .
إن نظرية جدلية العمارة التي تحولت للمجال التطبيقي كما ظهرت بالكتاب تفصح عن رؤية فكرية أشمل ، تلك التي تتعلق بالجانب الإقتصادي ، فالمعماري الحديث إذ يستفيد من بنية البيئة مناخياً وجغرافياً وأداتياً ، إنما يحاول أن يجعل من هذه المواد الخام أرضية يشيد من خلالها وفوقها تكوينات معمارية جمالية ونفعية معاً ، ومستطلع إنجازات الجادرجي يجدها قد أستنطقت المكونات المحلية إلى الحد الذي بدت خصوصيته في هذا الإنجاز أو ذاك هي الهوية الفنية والفكرية له . وهذه الميزة الثقافية الكبيرة واحدة من تحويل فعل العمارة إلى رافد ثقافي كبير ، ليس على مستوى الشكل وجماليات البناء ، وإنما في أستخدام المادة الخام وفي وضع المفهومات والآراء الشخصية موضع تطبيق يوازن به بين الدراسة والخبرة المعملية المحلية .
في الكتاب الكثير من الموضوعات التي تستحق وقفات تأمل ، منها مفهومه للبيت البغدادي وعلاقة هذا المفهوم بالموروث ، ومن ثم نقل أهم مكوناته الى البيت المعاصر ، وهذا ما دفعه لأن يعمل توازناً هندسياً وجمالياً بين باطن الدار بوصفه موروثاً للباحة القديمة ، كجزء من بناء ديني يرتبط بالجنة والنار ، وبين خارج الدار ، بوصفه تكويناً جمالياً ، وجعل من خلال هذا التوازن المنهجي مفهوم أجتماعي ينمو في باطن الدار كما ينمو في خارجها ، ولعل هذه الظاهرة الجدلية في التوازن بين موقعين آتية إليه من المحاورة السياسية والفكرية التي كانت تضع مجمل أفكارها حيز التطبيق ، ثم إضفاء الطابع الذاتي على كل ذلك من خلال خطوط جديدة التي يتطلبها تصميم جديد . ويستمر البيت حضوراً وفاعلية مع الجادرجي فالبيت البغدادي كوحدة معمارية كان أشبه بالقيمة المركزية والبؤرة المعمارية التي أدخلها كلها أو أجزاء منها في أي تشكيل أو تصميم معماري ، فعندما اكتشف الرؤية الجديدة الخاصة به في بناء الجامع ، توصل الى موقف يوحد بين العملي الواقعي والفني الجمالي ؛ وهنا بدأت خطواته في الابتعاد عن المؤثر الأجنبي والدخول للتراث من خلال فن التجريد أي الدمج بين ما هو محلي وعالمي ، وجمعهما في إطار تراكمي غير محسوس ينم عن معرفة جمالية بالتشكيل عبر مفردات متنافرة تاريخياً ، منسجمة جمالياً ، ومن هنا نراه عندما يعود لتصميم العمارة لاحقاً يعتمد الجوامع والأزقة كخلفية بغدادية لأعماله .. الجوامع والأزقة ـ الدين والحياة الشعبية . الجامع كمكان للعبادة والبيت كمكان للألفة والهناءة والسكن ، ومعهما بنية الزقاق الذي تتجاور في أعلاه البيوت ، بمثل هذا التكوين الجمالي الفائز بالشعبية والتجريدية معاً ، يستخلص تكويناً جمالياً لبيت عراقي عام وليس لبيت عراقي خاص . لم يقف تصور الجادرجي عند بناء جزئيات بيت ، محل ، عمارة ، سوق ، فالتعامل مع تلك يجعل المعماري مشتغل جزئياً وخاصاً ، وقد يكون متميزاً ، وإنما هو مدخل للتعامل مع بنية أجتماعية أشمل ، هو هدف أي معماري يمتلك نظرة تقدمية ، وهذا ما فعله الجادرجي عندما زاوج بين مفهومي : العراق لابد وأن يتطور ، والعمارة لابد وأن تتطور ؛ أيضاً لا تكون بنية العمارة الجديدة إلا من خلال بنية المجتمع الجديد لكن هذا المفهوم الكلي والشامل نراه يصطدم بتقلبات سياسية ومعمارية متخلفة ، تؤدي بالتالي إلى التهديم ؛ إنه يعيد تركيب المفاهيم ومن خلال هذه المصاهرة المعمارية الفنية ينهض المعماري ليس برؤيته لمفهوم التطور ، وإنما ليجعل من المشاريع الشخصية والمحددة كياناً معمارياً ، رؤية نقدية أكثر دقة من تلك التي تعتمد مقولات نقدية تشكيلية بحتة . من هنا جاء أهتمامه المتزايد بالحاجة النفعية ، أي تلك الحاجة التي تتوالد من العلاقة بين الانسان والطبيعة ، وبما أن الفن بوجه عام والفن المعماري خاصة لا يتطور خارج الاطارالنفعي فإنه يمثل الموقف اللانفعي ، وهو الموقف الجمالي الخالص حسب تعبير هيجل .
ويتطلع الجادرجي إلى البيت العراقي تطلعه إلى الوطن ، ويريد من هذا البيت أن يحمل هويته وأن يصبح الساكنون فيه قوماً لهم وجود فاعل ليس من خلال تراثهم فقط ، وإنما من خلال حاضرهم ، ويجعل من البيت وطناً معاصراً . وبالطبع فالجادرجي ليس فيلسوفا يريد تجريد المكان - البيت – من ماضيه ومن صوره المترائية يومياً والمتجددة ، وإنما هو معماري بحس وطني وتراث قومي يمتد عبر العصور وبأفق معاصر، لذلك كان البيت عنده نقطة تحول كبرى في توظيفه للمفهومات المعمارية الحديثة ، وفي الوقت نفسا ليجعل منه أفقا غير مقلد ، لذلك نجده وهو يجوب بآفاق المعرفة المعمارية يقتنص كل مفردة ذات معنى فهي سياحة منهجية واطلالة على العلاقة بين المكان والعمارة . وثمة تصاهر جدلي في عمل الجادرجي بين ما هو حضري وما هو لا حضري ، فكانت النظرة الجدلية التي وظفها في مفهوم البيت البغدادي .
كما أمتلك الزقاق البغدادي ذو التاريخ الطويل عناصر مليئة بالقوة الدافعة ذات بنية حركية سواء ضمن الوحدة الصغيرة البيت أو ضمن الوحدة الكبيرة الزقاق ، وقد عالج الجادرجي هذه الديناميكية في العمارة وهذا الأختلاط بين نموذجين أحدهما وظيفي والآخر نفعي ، أمكنه أن يولد لنا بنية عراقية معاصرة لنمط البيت ، إلا أن هذه البنية كانت غير شعبية وذات تكلفة عالية ، إن نماذج البيوت التي بناها الجادرجي هي لأثرياء بغداد ، بمعنى أنه لم يستطع تطوير مفهوم سكنى شعبي ، وإنما أنصب هدفه على تكوين عمارة حضرية متقدمة تعتمد الموروث الشعبي . فالأزقة وإن أمتلكت خصوصية حركية وفعالية ديناميكية ، إنما كانت تنقل إليها ثلاث خصائص : الأولى أن سكنة هذه الأزقة هم الناس المنحدرون من الريف ولذلك كانت أشياؤهم الخاصة معلنة الى الخارج ، الخصيصة الثانية إن الانسان الشعبي لا يفصل كثيرا وبدون وعي بين المكان المقدس وبين البيت ، فكلاهما بؤرة مكانية للعبادة الأول متجه الى الله والثاني متجه الى الأسرة والذات ، والخصيصة الثالثة للزقاق احتواؤه على نغمة تطورية تتجه إلى المدينة لذلك كانت مفردات البناء من الحجر والطابوق والخشب والحديد ، لكنها تحتوي على بنية داخلية ريفية .. والجادرجي كان يستطلع الأفق المستقبلي من المكونات الشعبية للعمارة ولم يغب عنه كذلك الارث الحضاري والانساني المعاصر ، كل هذه الروافد تداخلت بعضها البعض لتسوغ نظرية جدلية خاصة بتركيبة البيت داخليا وخارجيا ؛ وهو إن ركز جهده البيتي على بغداد لم نجده يعمق هذا الجهد بطرز خاصة في البيوت التي تبنى من الحجر ـ بيوت المنطقة الكردية والموصل ، ولا البيوت التي تبى من الطين والقصب كما في بيوت المنطقة الجنوبية .
والكتاب لا يسرد تاريخ العمارة بالعراق وإنما يشمل ممارسة الكاتب للعمارة وتطبيقاته للتنظير السابق وفي القسم الأول منه يعالج الجادرجي ويقدم فيه الأحداث والمواقف النظرية التي أتصلت بالتصميمات التي أنجزها ما بين 1952 ـ 1978 ، ويحتوى على ثمانية عشر فصلاً .. أما في القسم الثاني يوضح الجادرجي مسائل أخرى ذات صلة بالعمارة وبالتركيبة الاجتماعية والنفسية ، ويحتوى على تسعة فصول
"الأخيضر و القصر البلوري" قراءة ممتعة تمزج بين السردية القصصية و التسلسل التاريخي للعمارة المعاصرة في العراق و القِطر العربي.
اكتسبت من هذا الكتاب معلومات تاريخية و فكرية قيمة، أسماء المعماريين العرب و العراقيين المخضرمين، و انعكاسات العمارة الكولونيالية و الحداثية على المشهد المعماري العربي، المنتقل من الحرفية التقليدية نحو العمارة الحداثية.
من البديهي بأن أوصي جميع طلبة و ممارسي العمارة في الخليج و المنطقة بقرائته. و لكن ما يثير الاعجاب حقاً هو بأن رفعة قد عكف على كتابة هذه الوثيقة القيمة في فترة سجنه السياسي في أبوغريب بالثمانينات. و لمعرفة كواليس صناعة هذا الكتاب، على القارئ أن يبدأ بمذكرات سجنه مع زوجته بلقيس: "جدار بين ظلمتين".
معرفة أدبية معمارية تاريخية مهمة، أسلوب شيق و مسلٍ، أتشوق لقرائتي التالية لنفس الكاتب: شارع طه و هامر سمث.
كتاب يحكي قصة المشهد المعماري العراقي، من خلال رؤية وأعمال واحد من اهم رواده، رفعة الجادرجي ليس معمار بارز فحسب ولكن منظر من الطراز الرفيع، الذي يكتب عن العمارة وجدليتها بشكل محفز علي الفعل المعماري وتطوير اللغة المحلية. كتاب اكثر من رائع، وانصح به لكل طالب عمارة
لما يحويه من كم هائل من المعلومات والأحداث والأفكار. .بالإضافة إلى النظرية الجدلية والفلسفة الوجودية والتطورية للإنسان. .سيكون هذا الكتاب مرجع فكري بالنسبة لي..قرأته مرتين بشكل عام.بعض الفصول قرأتها اكثر من 3 مرات بشكل منفص��.وبكل مرة أجد افكار جديدة ومثيرة كأني لم أمر عليها سابقاً.
تجربة معمارية عراقية فريدة في طرحها وفي زمانها .. تم تلقيننا اسم رفعة الجادرجي واعماله في الدراسة المعمارية تلقينا مملا جدا .. بحيث لم نحاول ولا حثنا ذلك التلقين للاطلاع على هذا الفكر الذي تميز به هذا المفكر ولا تجربته هو وزملائه المعماريين وفي مجالات الفن الاخرى ... انصح كل طالب عمارة عربي وعراقي خاصة في المراحل المنتهية .. او المعماريين المتخرجين حديثا والممارسين والمهتمين بالعمارة العراقية الحديثة ونشأتها بهذا الكتاب والاطلاع على التجربة الملهمة جدا ...
يحكي بها المعمار رفعة الجادرجي عن تجاربه المعمارية الشخصية ، مع ذكره لمواقف صادفته في الحياة المهنة وقياسها بذاتية متزمتة في مواقفه مع زملاء مهنته. مهم لكونه من الكتب القليلة الي يحكي بها معماري عراقي عن ما كان يجول في خاطره ويفكر به عند تصميم مبنى او بناية ما ، مما يقلل من التأويلات والاجتهادات الشخصية للمعماريين في تفسير الفكرة التصميمية لمشاريعه.