اختلطت في "خواطر السنين"، مذكرات المهندس المعماري محمد مكية، مع تاريخ مدينة بغداد. وهي أقرب إلى عرض سيرة شخصية وتجربة حياتية للكاتب وللمدينة معاً، صاحبهما النجاح والفشل. وبقدر ما أن الكاتب حاز نجاحاً شخصياً كبيراتً وصيتاً واسعاً عم أرجاء العراق والعالم العربي وامتد إلى أوروبا عبر صلاته التي وطدها مع معماريين عالميين، إلا أنه ما زال يعاني ألم الفشل في تحقيق حلمه في إنشاء مشروع المدينة الجامعية للكوفة، وإقامة ميدان يمتد من بوابة جامع الخلفاء إلى جهة النهر وإعادة تخطيط طرق بغداد ومحلاتها وأن يظللها بأشجار النخيل.
أحلام إنسانية ذات رومانسية عالية. ليست مستحيلة التحقيق، لكنها ما زالت خارج الزمن العراقي. ولعل الملل من انتظار اللحظة المناسبة لتحقيق هذه الأحلام، هو ما دفع مكية "الحلم" إلى أن يبحث عمن يتولى بعثها في قرآن قادم أو حتى ألفية قادمة! عندها ستكون بغداد "جنة خلد" تتعالى حتى على مجدها العباسي.
اخذتني هذه اليوميات والسيرة المعمارية الى مدينه جميلة تدعى (بغداد) ذات شأن وهوية معماريه وفنية وثقافيه واجتماعية، مدينة كان يحلم بها ويصفها محمد مكية المعماري الحالم اللذي كان يأمل لها ان تكون ((جنة خلد)) لكنه للأسف توفي قبل ان يراها كما كان يحلم بها. بغداد اللتي يتكلم عنها محمد مكية هي مدينة لا تشبة تلك اللتي ولدت وعشت فيها بل اجمل بكثير.
يبدو أني اخطأت الاختيار عندما أردت معرفة من هو مكية عن لسانه؟
توقعت سردا ومعلومات اكثر، عن كيفية عيشه في بغداد؟ عن بغداد الملكية والقومية والبعثية؟ عن تجاربه ومغامراته؟ حياته الدراسية؟ رؤيته المعمارية؟ اجاب عن بعض تساؤلاتي باقتضاب وعرفت منه فقط بأن جامع الخلفاء الذي أنشأه ليس تحفته المعمارية.
نفس طائفي؟ أو هكذا أخاله ؟
اول اطلاعٍ لي على شخصيته، فلهذا لا اريد ان أظلمه .
سمح المرحوم محمد مكي للأستاذ رشيد الخيون أن يكتب خواطره والتي جمعها من أحاديث مبعثرة جمعها وسجلها ثم دونها في هذا الكتاب . أما عن سبب ارتباط المعماري محمد مكي بالأهوار والكاتب من الأهوارفحصل الرابط بينهما . المعماري محمد مكي كان يعتبرالأهوار هو المكان المناسب الأول لنزول رسل السماء ، وقربها من الحضارة السومرية. وكان من اعظم انجازات المعماري اعادة اعمار آخر مسجد عباسي موجود هو مسجد الخلفاء في بغداد .
شيئان جذباني لاكمل قراءة الكتاب ، الأول امنياته وتخطيطه لبغداد التي يحب ، الاخر صراحته وطرحه للحقيقة الي يصفها من يريد محمد مكية وطائفته ان يبقى دوني وخادما .
من أجمل كتب السيرة الذاتية ، تعيش اللحظات وكأنك بصحبة المهندس محمد مكية. كان يعتقد جازما أن الجغرافيا هي مسرح العمارة لذا جاهد وسعى لاضافة مقرر لدراسة الجغرافيا ضمن المقررات المعمارية في قسم العمارة بجامعة بغداد رغم اعترافه انه كان سيئا في الجغرافيا عند دراسته لها في الثانوية، الا أن يؤمن ان الدراسات المعمارية ليست دراسات تقنية فقط بقدر ما ترتبط بالدراسة الاجتماعية والجغرافية والاقتصادية والتاريخية. ولأجل ذلك في فترة دراسته العليا كان حريصا على جضور محاضرات الأدب وتاريخ الفكر السياسي والاجتماعي مع أشهر المحاضرين منهم على سبيل المثال الفيلسوف المعروف برتراند راسل أحد أعلام جامعة كاردف للتعرف على الفلاسفة وموضوعاتهم من فلسفة طاليس الى فلسفة جان جاك روسو وهيغل وفلاسفة القرنين 18 و19 وربط ذلك بالتوجهات المعمارية وفلسفة المدارس المعمرية. عندما عاد الى العراق بعد انهاء دراسته العليا بعد فترة غياب استمرت 11 عاما عن العراق جاهد لانشاء قسم خاص بالعمارة منفصل عن الهندسة يضم مرسما هندسيا ولم تكن فكرة العمارة واضحة عند الجميع آنذاك ، ولم تكن مهة المعماري تنال التقدير حيث كان الناس يعتبرون الخريطة مجرد رسم وهواية والهندسة الحقيقية في الانشاء والمقاولات. تختلط في السيرة نظراته و رؤاه المعمارية مع وصفه لمدينة بغداد وأحوال بريطانيا ابان الحرب ويختمها بتجربة بناء جامعة الكوفة هذا المشروع الضخم الذي أخذ جزءا كبيرا من وقته من أيام المرحلة التأسيسية لها. أجمل ما في كتب السيرة انها تجمع بين المتعة الروائية والفائدة الفكرية حيث تنقل المعارف بسرد روائي جميل على لسان صاحب التجربة.